عندما لمحتُ رواية (طوق الحمام) في إحدى المكتبات في أحد المصايف اللبنانية (= بحمدون) في الصيف الماضي كنتُ كمن وجد سلعة نادرة كان ينتظرها بكل حواسه؛ لأن اسم رجاء عالم قد بات محفوراً في أذهان القارئين والمهتمين بالشأن الإبداعي على كافة المستويات وبالأخص الباحثين عن الإبداع الحقيقي الذي يوحي بأنه لم يتأتَّ بسهولة، ولكنه نبع من دراية وإحاطة شمولية بالمقاييس والمهام التي يتوجب أن تكون في مثل (هكذا) عمل يؤطر المسافات في تكثيف عميق للوصول إلى ما يراد إدراكه من إحاطة بالموضوعات المترتبة على تسلسل الزمن في محيط المكان الذي يوحي بأن العمل قد نما وترعرع بالارتواء من جذور البيئة التي انعكست بأمكنتها ومسمياتها ودلالاتها في شرائح تقول عن نفسها ولايقال عنها لكونها تعي واقعها بأبعاده المختلفة . وقد أمضيتُ أياماً استمتعت خلالها بالتجوال في عالم الرواية (العالمية)، ومحاولة التعايش مع أحداثها بالتصور والتخيّل حسب ما تستوعبه المخيلة من صور تطابق الواقع وتجسد الحالات المختلفات للشخوص؛ حيث حملتني إلى أجواء مفعمة بالمعرفة والشاعرية والإبداع الذي تمثل في تجسيم المناظر والشخصيات التي تتعامل مع القراءة كفعل مباشر ، وهي تجيء من قدرات كامنات لدى الكاتبة برزت لتتبوأ أمكنتها وليس مكانها بين المبدعين الذين يعطون بصدق من أجل إثراء الحياة بأعمال خالدات على مدى الأزمان .. وقد كنت أتمنى أن يشاركني كلّ من يقدر الفن متعتي القرائية ، وأن تكون للرواية مكانتها المستحقة عند المهتمين.. وبإعلان الفوز بجائزة البوكر العالمية ، فرحتُ وسعدت واكتملت سعادتي ولكنني كنتُ أودّها منفردة لها لكون الرواية تستحق وتستحق وتستحق ، وليت اللجنة المختصة بالجائزة، مادام أنها وقعت في حيرة بين إبداعين وكلاهما يستحق أن ينالها (= الجائزة)، عملت كما حدث في إحدى الجوائز الكبرى عندما فاز بها الشاعران محمود درويش والشاعر أدونيس فكانت بينهما مزاوجة؛ حيث كانت الجائزة لكل منهما منفردة وحددت كاملة (= نالها كل شاعر كاملة وكأنه الفائز الوحيد) ، وحيث إن الأمر قد قضي فتوجب التهنئة بالفوز , وهي في الحقيقة مشاركة وجدانية جاءت في سياق محبة للعمل الجميل اللافت الذي برز في أعمال رجاء عالم في جميع أعمالها وتوج ب (طوق الحمام) ولن ينتهي عند ذلك . لقد كتبتُ بعد قراءة الرواية مستبشراً : في مايشبه الحب كامل الدسم تجسد الروائية رجاء عالم عشقها للمكان في روايتها (طوق الحمام) بلمسات فنية دقيقة تمثل قمة الروعة بحيث يشتبك الانفعال الذاتي مع العام في الدوران حول نقطة تلاق حتمية على المحب للشيء المعايش له ، فكيف إذا كان ذلك الشيء هو المكان الذي ولد فيه الإنسان ونشأ وترعرع ، وأدرك الكثير من التحولات التي طرأت وتتابعت عليه بحيث يبدو هو وليس هو في آن لكون المخيلة تتكئ على مخزونها التراكمي لأبعاد الصورة ، وهذا يطفو ويتصاعد عندما يرجع الإنسان إلى ملف ذاكرته في حالة حنين، ويأخذ في تصفح الصور والأوراق المخزونة خلال تتابع الأيام في تلافيف الوعي الكامن المهيأ للمثول وقت الطلب من الذات عندما تلجأ إليه، فتكون الصور المستجلبة أساساً للمقارنة بالصور الآنية المواجهة في تعاملٍ مع الحدث الذي يشي إلى التحسر على ال (كان) لكونه يزداد غلاء كلما تقدم به الزمن أو أنه زال ولم يتبق منه إلا ماهو في (الملف) المصاحب للإنسان أبداً طوال حياته يعود إليه تلقائياً عندما تحتم الحالة تلك العودة بفعل حالة نفسية خاصة تتسم بالتجلي أو لحظة إبداع مباغتة وربما مستجلبة بالتهيؤ لها واقتناصها . طوق الحمام هي الرواية الجديدة لرجاء عالم التي تسير بتؤدة وروية في المشاوير الطويلة المرهقة إلى أن تصل إلى المكان المناسب لها، وغالبا ما يكون رفيعا بحيث تلفت الأنظار بالعمل الذي تقدمه، ويكون حديث الناس لما له من تأثير إيجابي في مجاله، فمنذ صدور روايتها الأولى(04) مرورا برواياتها المتتابعة مثل:(طريق الحرير ، مسرى يارقيب، خات، حبى ، ستر) وغيرها من الأعمال الإبداعية وهي محط الأنظار من قبل الناقدين والمهتمين بالشأن الثقافي ، وهناك مايشبه الإجماع على الإشادة بأعمالها لكونها مغايرة للسائد متجاوزة في سموها الفني المؤطر بلغة خاصة رفيعة المستوى بعيدة عن التسطيح؛ حيث تتسم بالعمق إلى جانب المتانة ونصاعة العبارة كثيمة خاصة بها دون سواها مما يوحي بالحرص على نظافة العمل المقدم للمتلقي لكي يُقبل عليه دون تردد يدفعه النهم في البحث عن المستحق للقراءة في خضم هذا الطوفان الغثائي المتشعب المتشكل من الأدعياء والمتشعلقين بالفن بغية الإطلالة لتلميع الذات بأي وسيلة ، فهي تمثل رأي هنري جيمس بأن الفن هو تعقيد إنساني وحجر عثرة اجتماعية ، وهذا يدخله دائرة الوعي الجماعي المستنير . تدخل رجاء في محاولة لرسم صورة الماضي مربوطة بالحاضر بالنسبة لمعالم مكة فتحصرها في زقاق أبو الروس وتشرح لماذا سمي بهذا الاسم لأن أربعة رؤوس قطعت لرجال أربعة في الزمن الماضي البعيد كانوا قد استغلوا احتفالات قدوم المحمل المصري الحامل لكسوة الكعبة الجديدة فتسللوا وسرقوا الكسوة القديمة وبعد إدانتهم نفذ فيهم حكم الإعدام وصلبت (رفعت رؤوسهم على حزمة رماح كشواهد ببقعة القبض عليهم) وتتوالى المسميات المكية العريقة تاريخياً في لقطات أخاذة لها وقعها في النفس العريفة بمكةالمكرمة والتي عايشت بعض التحولات الاجتماعية والعمرانية، وبروز معالم جديدة واختفاء قديمة لها تجذُّرها في أعماق المعاشرين لها , فجبل هندي وجبل أبي قبيس ، والشامية والقرارة ، والفلق وريع الحجون ، وجرول ، وحارة الباب وغيرها من الأماكن تتحرك مع الحروف وكأنها تتكلم ، وكما الحارات تجيء الأسماء والألقاب التي تتميز بها بيئة مكة مثل : تيس الأغوات (= يهرب مانيكان) ويماثله تيس القرارة ، وطاهر كتلوج في المزمار، وأبو عرام ، وأم السعد، والعشي (= لصحف حشيشة العشي يقرأ ولا يكتب نصف أمي) وبدت بعض المسميات العامة في حياة الناس ك (المسروقة) وهي السقيفة عند الشوام ، وكانت موجودة في معظم البيوت لتخزين المواد التموينية.. ورغم تحديد الأحداث في مكة إلا أن هناك بعض الخروج وهي من مقتضى السرد كخروج الأحداث إلى الطائف ومستشفى شهار وجدة والمدينة المنورة حيث فرضت بعض الوقائع تحرك بعض الشخصيات إلى تلك المدن القريبة من مكة ، كتحركات المحقق ناصر إلى جانب الشخصيات التي ترددت أسماؤها كفاعلة ومتفاعلة بالأحداث , معاذ المصور، والكاتب يوسف ، وخليل الطيار، ومزاحم البقال، والشيخ داود أبو المصور معاذ، ومشبب وعائشة، ونورة ورافع، وشخصيات هامشية ولكنها تبرز بمقتضى الحدث . تغلغُل المكان في الكاتبة وتعمقها فيه رسم لوحة صعبة النقل ولا يمكن مشاهدتها على حقيقتها إلا بقراءة الرواية سطرا سطرا وبتأن وروية كما كُتبت لتتسنى المتعة للمتلقي الذي يبحث عن الجديد الجيد لمعرفة مدى معاناة الكاتبة في نظم وإبداع عقد ثمين ك (طوق الحمام) . وستظل الأعمال التي تستحق أن تمتد على مساحات الواجهات الثقافية في العالم تتوالى على أيدي الكتاب والكاتبات ممن يقدرون الفن ويعملون من أجله جاعلينه الهمّ المهم في حيواتهم مبرهنين على أن ينابيع الإبداع لن تجف، وأن بحاره لن تنضب مادام على البسيطة إنسان يعي ويدرك أنه إنسان يتصور دوما ويتعامل من أجل إنسانية الإنسان ، ورجاء برهنت على ذلك بما قدمت من أعمال ، فالتهاني لها من أعماق كل مقدر للفن لأحقيتها التي ننتظر منها المزيد وبأكثر من البوكر وليس ذلك بعزيز على من عمل واحترم عمله وهي به قد اشتهرت..