أتذكر جيداً تلك الصباحات التي كنت أعود فيها باكراً بطائرة التدريب الصغيرة إلى مدينة الرياض حين كنت قائداً لكلية الملك فيصل الجوية. طالما رأيت الأدخنة والغبار تحوم فوق المدينة وخاصة فوق جنوبها ثم تنتشر حيث تأخذها الرياح. سحب بغيضة لا ترى جيداً إلا من علو وفي الصباح الباكر. فكرت في تلك الحالة وقلت: ليس من حل لمشاكل الرياض سوى أميرها الذي وضعها في مصاف المدن العالمية. كتبت بعض الاقتراحات، وكعادة سموه لم يكتف بقراءة الخطاب، وشكر كاتبه، بل أحاله إلى الجهات المختصة وطلب منهم الاتصال بي وإطلاعي على ما لديهم من خطط في هذا المجال. وقبل أسبوعين بشَّرتنا أمانة مدينة الرياض عبر صحيفة "الرياض" في عددها رقم 14636بقرب افتتاح ميدان القاهرة الذي يضيف جمالاً إلى جمال الرياض. لكنني أتساءل أيهما أهم؟ الجمال أم الصحة؟ أيهما له الأولوية؟ السكن في مدينة صحية بهواء نقي؟ أم مدينة جميلة لكن ملوثة؟. ثم هل نأخذ في الاعتبار عند التخطيط لمشاريعنا عدة أمور، من أهمها الصحة والاقتصاد في صرف الماء والمال. فلا تفريط بالصحة فهي الشيء الذي لا يمكن تعويضه، ولا هدر للماء في بيئة صحراوية يجلب لها الماء من مسافات بعيدة، ولا صرف للمال إلا على مشاريع ذات جدوى اقتصادية، ما استعطنا إلى ذلك سبيلاً. لقد كانت تلك الأشجار التي اجتثت من الميدان المذكور أكثر فائدة وأقل كلفة مما نرى في الصورة المرفقة مع الخبر. في كثير من الدول المتقدمة لا يستطيع الناس قص الأشجار حتى لو كانت داخل حدائقهم إلا بإذن من البلدية، وبعد دراسة متأنية، خاصة حين يبلغ قطر جذعها مقاساً معيناً. لن يكافح التلوث، ويخفف من الغبار وآثاره الضارة، وحرارة الشمس في صيفنا اللاهب سوى الخضرة وخاصة الأشجار الكبيرة، لكن البلديات لدينا في كل مدينة وقرية تحرص وتجتهد للأسف لتقزم الأشجار في الشوارع والحدائق حتى لا يتعدى حجم الشجرة متراً مربعاً واحداً نتيجة لتقليمها لصنع أشكال جمالية. جمال الشجرة وفائدتها في كبر حجمها، تمتص أوراقها الكثير مما تقذف به السيارات وتعيده لنا هواء نقياً صالحاً للتنفس. وتحت ظلها الحاني يستظل الماشي والعامل، وتحتمي بين أغصانها الطيور. لو سألنا السائح في مدن الغرب المشهورة، ما هو أجمل ما رأى؟ لأجاب: تلك الحدائق الكبيرة التي تحتل مساحات واسعة من المدن وما تحويه من أشجار كبيرة معمرة. نريد أن تبشرنا الأمانة بإنشاء حدائق كبيرة على غرار حديقة سلام، تلك الحديقة التي أصبحت معلماً من معالم مدينة الرياض وهدية من أميرها المخلص لسكانها من المواطنين والمقيمين. الأمل كبير في أمير الرياض الحريص دائماً على كل ما له علاقة بالرياض وإبرازها كمدينة عصرية صحية جميلة، وحرصه على صحة المواطن، وحرص سمو أمينها المشهود له بالكفاءة والاخلاص، أن يوقفا قلع الأشجار من الشوارع والميادين، وأن يجعلا من الرياض واحدة من أفضل المدن العربية من حيث الخضرة وكثرة الحدائق، وزرعها بما يناسب من الأشجار الكبيرة، وحماية الوديان المحيطة بالرياض وجعلها متنزهات طبيعية، ورئات سليمة لمدينة سيصبح سكانها قريباً عشرة ملايين نسمة سيحتاجون لكل شجرة إضافية وقطرة ماء زائدة. ليست البلديات هي المقصر الوحيد في حماية البيئة، وحب الشجرة والعناية بها، لكنها ثقافة غائبة عن الناس، سواء في البيوت أو المدارس أو المساجد أو وسائل الإعلام المختلفة. ليتنا نتذكر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيما معناه: لو قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها. إنها الشجرة وأهميتها ودورها في عمارة الأرض وحمايتها. أمامنا طريق طويل لنصل إلى بيئة صحية مناسب، لكن كل طريق مهما طال يبدأ بخطوة. @ قائد كلية الملك فيصل الجوية سابقاً