النزعة الاستهلاكية الفظيعة التي تجتاح العالم لم تأتِ من فراغ.. فالشركات التي تنتج السلع وتلك التي تقدم الخدمات عملت وتعمل ليل نهار على إجراء عمليات «غسيل دماغ» متواصلة للمستهلكين في كل مكان لكي يشتروا ما لا يحتاجون إليه بالضرورة وإنما لكي يُصَرِّفوا ما تنتجه هذه الشركات..! أنت ترى الناس في كل مكان بالعالم يمارسون سلوكاً استهلاكياً متقارباً ليس لأنه يعكس ذوقاً قد تشكل ببراءة وفق تركيبة نفسية واجتماعية تتعلق بالفرد والمجتمع اللذين يمارسان هذا السلوك وإنما لأن الشركات، وخصوصاً الكبرى، قد شكَّلتْ هذا الذوق بما يحقق لها أقصى الأرباح..! صار الناس في كل مكان بالعالم يستمدون الإشباع والمتعة من امتلاك واستهلاك المنتجات التي تحظى ماركاتها التجارية ب «الاحترام» وليس بالضرورة بسبب خصائص مميزة وحقيقية لهذه المنتجات.. وبكل أسف فإن ما يصنع هذا «الاحترام» هو الإعلان التجاري الذي يلاحق المستهلك على مدى ساعات الليل والنهار.. ولذلك ليس مفاجئاً أن يعترف لك أحدهم بأنه اشترى منتجاً معيناً لأنه «ماركة!!» مع أن السوق يعج بمنتجات أثبتت التجربة أنها أفضل منه وأقل تكلفة لكنها ليست «ماركة!!». نحن نقول إن المستهلك هو الذي يحدد ما ينتجه الاقتصاد، لأن المستهلك يشتري بنقوده وباختياره الحر ما يريد، ومن ثم فإن السلع التي لا يريدها هذا المستهلك ولا يشتريها سوف تبور ولن ينتجها أحد.. وهذا هو ما يسميه الاقتصاديون «سيادة المستهلك».. ولكن بسبب سطوة الإعلان وقدرته على تشكيل أذواق المستهلكين أصبح من المشكوك فيه أن «سيادة المستهلك» هي سيادة حقيقية نابعة من احتياجات ورغبات المستهلكين.. وقد كتب في هذا الموضوع بتركيز شديد الاقتصادي الفذ «جون كينيث جالبريث» الذي عمل مع الرئيس الأمريكي الأسبق جون كندي ومع غيره من رؤساء الولاياتالمتحدة والذي أثبتت الأزمات المالية التي اجتاحت العالم دقة تنبؤاته الاقتصادية وثاقب رؤيته. أكتب هذا الكلام بعد أن عدت إلى غرفتي في أحد الفنادق من جولة في أسواق مدينة تبعد عن أقرب مدينة في بلادي بآلاف الكيلومترات لكن المحلات التجارية والمطاعم ومعظم ما فيها من سلع وما تقدمه من خدمات يشبه بل يتطابق مع ما شاهدته في مدينة عربية زرتها مؤخراً ومع ما في أسواق بلادي وما نشتريه هناك من منتجات..! هي العولمة، كما نقول.. لكنها ليست عولمة بريئة بالطبع. فمن المحزن أن نرى الناس العاديين يكدحون ليل نهار في عمل شاق، فقط لكي يواكبوا ماكينة الدعاية والإعلام التي تقذف بمنتجات تلتهم عوائد كدحهم المضني..! إنه زمن الاستهلاك.. ذلك الاستهلاك الذي لم يعد سمة من سمات المجتمعات الغنية المترفة فقط وإنما وباء يجتاح كل مجتمعات الدنيا غنيها وفقيرها.. ومن لا يملك «الكاش» اخترعوا له بطاقات الاقتراض التي استعبدت الملايين من سكان هذا الكوكب..!! [email protected] ص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض