انتهى مؤتمر «جنيف - 2» بنتيجة واحدة فقط: مفاوضات من دون عنوان واضح بين النظام وبين وفد ضعيف من الائتلاف السوري، لا يملك أي صلاحية أو تأثير في الواقع السوري، إلا ما يمكن أن تمكّنه منه الولاياتالمتحدة الأميركية، كمسألة الانتصارات الجزئية المحدودة التي حققها، في الأسابيع الأخيرة، بعض المجموعات المسلحة على الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). بهذا، تكون هذه المفاوضات فعلياً قائمة بين وفد الائتلاف نيابة عن واشنطن، وبين وفد النظام الذي يقول ما تريده موسكو. تحتاج واشنطن، كيما تكون طرفاً رئيساً في شكل غير مباشر في الأزمة السورية، إلى طرف معارض قوي. وظهرت أخيراً أنها لا تمتلك مثل هذا الطرف، حين ثبت الضعف الكبير للحالة التمثيلية للائتلاف السوري، إثر سيطرة مجموعات تصنفها واشنطن ضمن المجموعات الإرهابية، كجبهة النصرة و «داعش»، على الميدان القتالي في سورية، وبعد أن أعلنت مجموعات عدة رفضها أن يكون الائتلاف ممثِّلاً لها. لهذا، اضطرت واشنطن للجوء إلى دعم بعض المجموعات المسلحة وتشجيعه على مقاتلة «داعش»، للتشديد على أن الوجود الأقوى والأوسع في الميدان هو للمجموعات المعتدلة وغير الإرهابية، خلافاً لما يقوله النظام وموسكو، ولتكون شريكاً حقيقياً بمسارات مؤتمر «جنيف - 2» ومفاوضاته. هذا إضافة إلى تمكن الائتلاف، ومن خلفه واشنطن، من التشديد على أنهم ضد الإرهاب الذي يصنعه النظام، وفق تصريحاتهم. لكن واشنطن تعرف أن هذه المجموعات المسلحة، وفي مقدمها الجبهة الإسلامية، لا يمكنها أن تكون هذا الطرف المعارض القوي الذي يمكّن واشنطن من المشاركة بمفاوضات متوازنة مع موسكو الوصيّة على النظام السوري. إذ إن طبيعة تشارك هذه المجموعات غير متماسكة. كما أنه غير مضمون مدى استعدادها للتضحية بالكثير من مقاتليها إذا ما أرادت فرض سيطرتها بالقوة على المناطق التي تسيطر عليها مجموعات مثل «داعش». هذا فضلاً عن أن هذا الصراع سيجعلها تؤجل صراعها مع النظام، ما يبعدها عن لعب دور المعارضة له. وتعرف واشنطن أيضاً أن مقاتلة «داعش» لن تكون كافية لوحدها للتشديد على عدم تطرف هذه المجموعات. وهذا يفسر لنا سبب تعطيل واشنطن انعقاد مؤتمر «جنيف - 2» خلال الأشهر الماضية، قبل أن تجد نفسها أخيراً مضطرة لعقد المؤتمر تحت ضغط مرور الوقت والضغط الأممي والدولي، وضغط الجاهزية الروسية لهذا المؤتمر. من هنا، يمكننا فهم توجه السيد جون كيري، وزير الخارجية الأميركية، في خطابه أمام جلسة مؤتمر «جنيف - 2» في مونترو، إلى العودة لنقطة الفراق الرئيسة، التي تكرست منذ أكثر من سنتين، والمطالبة بأن يكون تنحي الرئيس السوري شرطاً لازماً لإطلاق العملية السياسية ولا يكون نتيجة لها. وهذا يفسر أيضاً إعلان واشنطن، خلال المفاوضات، عن تقديمها أسلحة «غير فتاكة» لمجموعات مسلحة غير إرهابية. وكل هذا يشير إلى عدم جاهزية واشنطن لغاية الآن للمضي بحل للأزمة السورية. قِصر النظر الأميركي للأزمة السورية ليس وليد التحضيرات لمؤتمر «جنيف - 2»، بل إنه قائم منذ بداية تعقّد مسارات الصراع السياسي السوري وتحوله إلى أزمة. قِصر النظر هذا كان وليد الغطرسة التي تسم أداء الخارجية الأميركية، التي اعتبرت دوماً أنه في مقدورها السيطرة على مسارات الصراع، مهما تشتت وتعدد وتعقد، حين تشاء. لهذا، اعتمدت في مساهمتها في صناعة الأزمة على شخصيات «معارِضة» سورية غير مؤهَّلة لتكون مشارِكة في مسارات الحل. ظانة أنه في مقدورها استبدالهم بشخصيات قادرة على أن تلعب دوراً مقبولاً في مسارات الحل متى شاءت ذلك. وبناء على هذه الغطرسة عاد السيد روبرت فورد، سفير الولاياتالمتحدة في سورية، بعيد زيارة السيد كيري موسكو وإعلان الاتفاق على عقد مؤتمر «جنيف - 2» في أيار (مايو) الماضي، للاجتماع بشخصيات كان قد انقطع عن التواصل معها منذ مغادرته سورية، ليطلب منها أن تكون شريكة في المؤتمر وفق الأجندة الأميركية. لكنه فشل في ذلك، ولم يستوعب أن هؤلاء الأشخاص لا يعتبرون أن معارَضة النظام تعني موالاة الولاياتالمتحدة. ومع ذلك لا تتحمل واشنطن لوحدها مسؤولية فشل مؤتمر «جنيف - 2»، والمفاوضات الناجمة عنه، في المساهمة بحل الأزمة السورية. فموسكو تتقاسم معها هذه المسؤولية تماماً. إذ إن موسكو تريد من المؤتمر تكريس بقاء النظام السوري عبر مقولة مواجهة الإرهاب أولاً، ليكون الحديث عن تغيير النظام السياسي عبارة عن إتاحة المجال للعمل الإرهابي. وعبر مقولة إن مسألة الخلاف على طبيعة النظام السوري واختيار قياداته هي مسألة يحلها السوريون في ما بينهم ضمن ظروف الواقع الراهن. أي من دون أن يتوقف النظام عن قمعه وتكبيل حريات السوريين. بالتالي، فروسيا غير جاهزة البتة للمساهمة بإطلاق عملية سياسية سورية كفيلة بإنهاء الأزمة. يمكن أن ينجم عن مفاوضات مؤتمر «جنيف - 2» إيصال بعض المساعدات الإنسانية للنازحين داخل البلاد، أو للمحاصرين في عدد من البلدات والأحياء، ولكنها لن تكون دائمة. وقد يتم الاتفاق على وقف إطلاق نار في بعض المناطق، لكنه سيكون هشاً وسيسقط خلال فترة قصيرة. وممكن أن يتم تبادل عشرات من المعتقلين لدى النظام بمختطفين لدى المجموعات المسلحة، لكن هذا لن يلغي احتجاز آلاف المعتقلين، ولن يوقف عمليات الاعتقال أو يخفف منها. مؤتمر جنيف فاشل أيضاً في حل الأزمة السورية. فبصرف النظر عن مدى تمثيلية وفد الائتلاف وقدرته، إلا أن الاكتفاء بمفاوضات سورية - سورية، وتجاهل ضرورة التوافق بين عدد من الدول التي أقر الجميع بأنها أطراف رئيسة في الأزمة، كإيران والسعودية على سبيل المثل، لا يمكنه أن يحقق أي تقدم جدي في مسارات الحل للأزمة السورية. هذا الأفق المسدود لحل الأزمة السورية يحتاج كي يُخرق إلى وجود أطراف دولية ومحلية تعي التبعات الخطرة للأزمة السورية، خصوصاً من ناحية تأثيرها في الإقليم وخارجه. وأن يكون لدى هذه الأطراف الدافع والتصميم لإنهاء هذه الأزمة لا إدارتها. فإن كان هناك صعوبة بالغة في تغيّر مواقف الدول، فقد يكون الأمل برسم تشكّل طرف سوري لا يتحدّد بمواقفه من أطراف الأزمة، بل بمواقفه من الوطن السوري. ولا يختزل الأزمة السورية بمجرد نزاع مسلح متعدد الصور والغايات، ولا يتوه بالمماحكات والمحاججات التي لا تغيّر من واقع الحال شيئاً، بل يعتمد على تحويل وزن رأي الغالبية الساحقة من السوريين إلى ثقل سياسي يمكن أن يغيّر موازين القوى القائمة. * كاتب سوري ورئيس تيار بناء الدولة السورية