لأنها علمٌ صاعد تتفتح آفاقه يومياً وتوقظ العقول على نظرة مختلفة لظاهرة الحياة على الأرض، كانت الجينات أساساً في منح جائزة «نوبل» في الطب للأميركيَّيْن جيمس روثمان وراندي شيكمان والألماني توماس شيدهوف. وتقاطعت بحوثهم على درس نظام نقل المواصلات داخل الخلايا، الذي يحمل موادَّ تصنَّع داخل الخلايا (أنسولين، سيروتونين، دوبامين...)، إلى أمكنة محددة كي تمارس تأثيرها عليها في الوقت المناسب. وتتولى الجينات تنظيم هذه «المواصلات» الخلوية كي تصل منتجات الخلايا في المكان والزمان المحددين إلى الأنسجة التي تطلبها. فعندما نأكل السكر، يصبح هرمون الإنسولين مطلوباً في خلايا العضلات والكبد للتعامل معه، وتنطلق إشارة من الدماغ ثم تصل إلى خلايا «جزر لانغرهام» في البنكرياس، حيث تركِّب مجموعة معيّنة من الجينات الإنسولين. ثم يوضع الهرمون في أكياس تشبه فقاعات الصابون، تسلك مساراً محدداً كي تصل إلى مخارج دقيقة في الخلية، فيُفرز الهرمون في الدم، وعند وصول هذه الفقاعات إلى خلايا العضلات والكبد «ترسو» في أمكنة مناسبة لها، ثم يخرج منها الإنسولين كي يتفاعل بدقة، كما يفعل المفتاح عند دخوله القفل، مع نقاط معيّنة في خلايا العضلات. وتحصل عمليات مُشابهة في الدماغ في حالات عاطفيّة معيّنة، فتنطلق مواد، كال»سيروتونين» وال «دوبامين»، من خلايا في الدماغ، بالاستجابة إلى إشارات كهربائية، وتُحمل في فقاعات لتصل إلى خلايا عصبيّة معيّنة وتؤثر فيها. ومن السهل تصوّر نتائج الخلل في عمليات إيصال هذه الفقاعات، إذ لا يحصل عندها الجسم على الإنسولين، حتى لو صُنّع، بسبب غياب المواصلات التي تضمن وصوله إلى الأنسجة في الزمان والمكان المحددين. وعند حدوث خلل مُشابه لل «سيروتونين» وال «دوبامين»، تبدأ آلية ظهور الكآبة أو الفصام («شيزوفرينيا»)! ودرس شيكمان (65 عاما) 3 مجموعات من الجينات تتحكّم بال «مواصلات» في الخلايا، مُظهراً أن خللها يؤدي إلى «اختناق» مروري، فتتراكم المنتجات في الخلايا ولا تصل إلى الأنسجة المحتاجة لها. وركّز روثمان (63 عاما) على آلية «رُسُوّ» الفقاعات التي تحمل الهرمونات والكيماويات إلى الخلايا، مبرهناً على التناسق بين الفقاعة ومرساها، فكأنهما طرفا سحّاب حديد («سوستة» بالمصرية). وانجذب شيدهوف (مواليد 58 عاما) إلى عملية التواصل بين الأعصاب، بمعنى تحوّل الإشارات الكهربائية بينها إلى آليات لإفراز مواد كيماوية تحفز بروتينات معيّنة في الخلية العصبية التالية، فتنطلق عملية صنع المواد العصبية الكيماوية ونقلها وإفرازها مُجدّداً. وجرت بحوث العلماء الثلاثة بصورة مستقلّة، ما يعني أنهم تصدوا لإشكاليات مثّلت تحديات علميّة كبيرة.