منذ ثماني سنوات والحكّام اللبنانيون، نواباً ووزراء، يمتهنون بعض أشكال العصيان المدني (وأحياناً العنفي) كالمقاطعة والاستقالة والانسحاب والعزوف والمماطلة والإضراب، أي باختصار: التعطيل والفراغ، وآخر حلقة من حلقات العصيان، هو رفضهم التوافق على صيغة حكومية جديدة والاكتفاء بحكومة تصريف أعمال. ولا وقع للأعمال التي تصرفها، إلا في ما ندر. هي تقاليد احتجاجية يلجأ إليها عادة المحكومون، رفضاً لقوانين أو قرارات أو ممارسات يرونها مجحفة بحقهم، رغبة منهم بإحقاق العدالة، حسبهم لا يملكون وسيلة أخرى للضغط غير عدم التعاون والاعتراض والاحتجاج. أما في حالتنا، فالواقع معكوس، مقلوب رأساً على عقب، فالحكّام اللبنانيون الحاليون يصادرون أدوار المحكومين بإعلانهم عصيانهم، على نظرائهم من جهة، وعلى محكوميهم من جهة أخرى، فهم يتمرَّدون، أدركوا أم لا، على المحكومين بعزوفهم عن تحمُّل مسؤولياتهم بإدارة شؤونهم إدارة جدية، فالمفروغ منه أن السلطة السياسية منذ شُذبت أدوارها من العصر الحديث تقوم بقيادة البلاد بكل قطاعاتها، بالتشريع والتخطيط والتنظيم والتنفيذ والتشغيل والضبط والمراقبة والمحاسبة والتحفيز والتشجيع إلخ... وكلها مفردات نقيضة كلياً للفراغ والتعطيل. والحال فالحكام اللبنانيون يتصرَّفون كأن البرلمان برلمانهم وليس برلمان الشعب، والحكومة حكومتهم وليست حكومة لإدارة شؤون البلاد، وكأن البلادَ بمجملها أحد عقاراتهم. وفي هذا السديم، يتخبط العباد بين قرار وآخر، وتشريع وآخر، وتنفيذ وآخر، وعبوة وأخرى، وخطف وآخر، وسرقة وأخرى، وبطالة وأخرى، وعوز وآخر، وهجرة وأخرى، وإحباط وآخر... إلى ما هنالك من عذابات الفوضى والتسبب والانتظار. ثمَّة رؤى استراتيجية عسكرية إقليمية تباعد بين معسكرَي الحُكم، ولكن هذا التباعد لا يبرِّر التضحية بشؤون الناس وتقديمها قرباناً على مذبح التناقضات الاستراتيجية. وأمام هذا الشلل، لا شيء يشي بأن حكّام لبنان قلقون، مهمومون، مكروبون، بل يصرِّحون ويجادلون، ويخطبون بين الجماهير، بنبرة ملؤها الاطمئنان والإعجاب بالنفس والاعتزاز والمكابرة. ثمَّة استبداد من نوع خاص لا يقوم على كم الأفواه والأبصار والعقول والأحاسيس، وعلى القسر والفرض والقهر، بل على اللامبالاة المجللة بالطمأنينة، هو استبداد استثنائي، لا يقوم على خوف المستبد من الجماهير وعلى التطهُّر من خوفه بتخويفهم، بل على الاطمئنان إلى شرعية شكلية اكتسبها الحاكم ذات لحظة من صناديق الاقتراع، أو من الجماهير الغفورة الحزبية المصطفَّة في المهرجانات، أو من قصائد مديح وتهليل نثرية يرتجلها المسترزقون، في غفلة من المنطق السياسي الحديث، ومن موجبات يقظة الفرد المتنوِّر والواعي بذاته. هي أخلاق سياسية هدفها المنفعة الذاتية، لا تكترث بمستلزمات الاجتماع والمصلحة العمومية، ولا يترتَّب عليها الألم لإلحاق الأذى بالآخرين، الحق هو حق فردي، وليس حقوقاً جمعية مشتركة، هي منفعة تدمِّر موضوعية الخير، فلا يتمايز فيها الإيجابي عن السلبي ويكونان سواء بسواء. البحث عن المنافع والمواقع السلطوية، أي الأغراض والشهوات، هو الذي يقود الأطراف المتصارعة، من دون أدنى تفعيل لمبدأ الحكمة، تلك المزيّة، التي يتطلبها أفلاطون من الحاكم، فالحكمة، ومبدؤها العقل، هي بمنظوره أولى الفضائل التي يفترض أن يتمتَّع بها الحاكم، وهي وحدها قمينة بتحقيق العدالة، لا العواطف والشهوات. هي أخلاق سياسية تقوم على احتقار "العام" لافتقار أصحابها إلى الاتصال بضمائر المحكومين، فضمائرهم منفصلة عن ضمائر جميع المحكومين، لأن مشروعيتهم الشكلية، محفوظة في دهاليز جماعاتهم الضيقة، وأجهزتهم الحزبية الناشطة، ومواقفهم المتطرِّفة المشعلة للغرائز، والرغبات والتحدِّي والمواجهة. هي سياسة من دون مرجع قانوني واضح وجلي يحدِّد لكل فريق دورَه وصلاحياته وحقوقه وواجباته، هي سياسة فوق القانون أو تحته، فوق المفاهيم السياسية المتوافَق عليها لإدارة الدول، أو تحتها، أو على هامشها. ويتلو غياب المرجعين، الأخلاقي والقانوني، غياب الشعور بالمسؤولية، تلك المسؤولية المتوقِّعة من إنسان حرّ يدرك صلاح فعله أو شرّه، يدرك تبعاته، ويقدم الواجب الأخلاقي على الواجب السياسوي، كي لا تبدو الأفعال وكأنها لا تخرج عن فاعلها. نحن أمام أزمة سياسوية وأخلاقية، لا يكفي التعزيم على النظام الطائفي وطرد أرواحه الشريرة كي تستقيم الأمور. فالاستبداد القائم على التخلِّي عن مسؤولية إدارة حياة الناس إدارة حكيمة مسؤولة لا يحتاج بالضرورة إلى نظام طائفي يستند إليه. فالنظام الطائفي غلالة لا تخفي عيوب إدارة البلاد بمنهجية التعطيل والفراغ واللامبالاة والمكابرة والعصيان السلطوي. قد يحتج المتشائمون الواقعيون قائلين: "قد يكون الإحجام عن الفعل في نوعية الحكم اللبناني أفضل من الفعل". ولكن التعطيل بحدِّ ذاته هو النقطة التي جعلت كأس المرارة تفيض. إنه الذروة. * كاتبة لبنانية