يبدو ان الاصلاح فعلاً تحول إلى أزمة عربية بامتياز. هذه الكلمة السحرية، أصبحت مثاراً للجدل، فتحت عناوين شتى، تثار قضية الاصلاح، وتثار معها كل احتباسات وأزمات الحالة العربية من المشرق إلى المغرب. في أزمة الاصلاح - من حيث البناء المفهومي المطروح اليوم - يظهر حجم التأثير الدولي في إثارة أزمة بنيوية في المنطقة العربية. التأثير والضغط الدولي حرك المياه الراكدة وصنع اختلاطات وتجاذبات وممانعات وأفرز في النهاية حالة هلامية.. المخاوف الكبرى ان تتحول إلى فوضى مدمرة لا فوضى خلاقة حسب تعبير كونداليز رايس وزيرة الخارجية الأمريكية وهي تصف حالة التحول في المنطقة العربية اليوم. لا أحد ينكر ان الحالة العراقية، ذلك التسونامي، الذي حرك بالتأثير ما تشهده المنطقة العربية في لبنان وسورية ومصر من تفاعلات هي افراز طبيعي لحالة توقف وأزمات تنموية أكثر منها شوقاً ولهفة على مشروع ديموقراطي أمريكي بلا ملامح توحي بالثقة، تبدو اليوم مفرداته ساذجة وهي تتحدث عن منطقة عربية لا تحتاج أكثر من واجهة ديموقراطية ومشاركة أوسع للمرأة في الحياة السياسية، وحقوق انسان تتمسح فيها دون ان تبلو حقا ما يعيد الثقة إلى وجه الانسان في هذه المنطقة المنكوبة. هذا في المعلن أما في الخفاء السياسي فثمة صراع دولي عنيف على الاستحواذ على المنطقة، وغير المعلن تبدو جدليته نوعا من الضرب في الرمل، لعقول لا ترى العمل السياسي سوى تصريحات هنا وهناك، وسره في حشد عوامل الصراع، وتعطيل الحراك، وإجهاض المبادرة، وضرب الخصم في خاصرته الموعودة بجنة الديمقراطية ونعيمها. وأزمة الاصلاح عربياً، في انها حاجة عربية ملحة، وأن عقود التوقف والممانعة لم تعد قادرة على تلقف المزيد من عقود الصبر المكلوم. هل نحن بحاجة لنتحدث عن مظاهر التوقف أو الاحتباس أو الشعور العام بالاحباط، هل نحن بحاجة للاستدلال باحصائيات وأرقام وشهادات تقارير التنمية العربية، هل نحن بحاجة للمزيد من جلد الذات بالأرقام المرعبة لحالات العطالة والتوقف والهدر والفساد والفقر، هل نحن بحاجة للحديث عن الاستبداد في تمظهراته وافرازاته الاجتماعية والأخلاقية والحقوقية، هل نحن بحاجة للمزيد من اكتشاف كارثة الأرقام التي لا تبشر سوى بالمزيد من التراجع.. في زمن وعالم أصبح فيه العرب والمسلمون مشكلاً كونياً - ألم يتنادى العالم لتحديث المنطقة ودمقرطتها، وكأن الوصاية على مستقبلها صار أمراً محسوماً تحت مظلة حرب الإرهاب واجهاض انفاسه - لكن ألم تكن هذه المنطقة ميدان صراع قديم وضحية سياسات دولية قديمة وافرازات تحولات حربين عالميتين وتقاسم نفوذ جعلت بلدانهم مناطق نفوذ ومصالح واقتتال بالوكالة. أزمة الاصلاح في العالم العربي، انه بلا أجندة محلية واضحة المعالم، ولذا تصبح مفتوحة على كل الخيارات، وأزمته انه لا يعبر عن توجه قدر ما يعبّر عن احتواء، وأزمته انه حالة ممانعة أكثر من حالة استجابة للشأن الداخلي، وأزمته أيضاَ انه مطلوب كحزمة جاهزة مستوردة تفتقد لفهم المضمون وحمولة الثقافة المحلية، ناهيك انها عناوين ربما تقبل بسهولة في أماكن أخرى لكن هضمها صعب في منطقة مشدودة لتراثها وثقافتها ومصادماتها التاريخية وصراعاتها مع عدو ما زال جاثما على أرضها، وهو يحظى بالدعم والرعاية والحماية الأمريكية على نحو يستفز لا شعوب المنطقة وحدها بل وكل صاحب ضمير حي. تعتقد الإدارة الأمريكية ان أمر الاصلاح الديمقراطي لا يحتاج أكثر من قرار، وعملية انتخابية تتم في موعدها ومظاهر ديمقراطية شكلية دون الالتفات إلى المضمون الداخلي ودون كثير من الاعتبار لعقود الجمود ودون بحث محددات الثقافة المحلية ومؤثراتها وانساقها وعلاقاتها وحراسها. وتتبرأ الفعاليات الثقافية والسياسية العربية والناشطين بالعمل العام من عار الالتصاق بمؤثرات أو ضغوط مشروع خارجي وتلتزم باعلان براءتها كل ساعة من أي نوع من تلك العلاقات التي تخونها أو تجعلها في نظر المناهضين طابورا خامسا وعملاء يتمسحون بالتغيير وهم حلفاء الاستعمار الجديد.. أليس هذا هو الخطاب الثقافي المضاد؟. بالمقابل هناك مانعة تحالفات واسعة - وليست ضيقه كما يظن البعض - وليست فقط من قبل أنظمة لا يسرها معالم التغيير الذي قد يعصف بنفوذها ومكتسباتها وقدرتها على قيادة بلدانها. انه تحالف أوسع تشكل بفعل عوامل ثقافية وتاريخية وسياسية، ومن حالة صراع قديم مكشوف وخفي أيضاً، ومن استقطاب تحالفات راسخة تكونت خلال عقود أصبح من الانتحار فصمها أو التنازل عنها.. وإلا سيكون تسونامي آخر يبتلع الأخضر واليابس ولا يترك سوى الأرض اليباب. الحالة العراقية شاهد بالغ الدلالة على هذا النوع من التحالفات، فمسألة الحداثة وعناوين المعارضة القديمة، استحالت إلى احلاف اقليمية وطائفية وعرقية.. وقطف الثمرة لحالة تحول - حتى اليوم - تلك القوى التي ترسخت شعبيتها في تربة العراق، لا العناصر التي تمثل تيار الحداثة وهي بلا ذاكرة شعبية. المحترفون السياسيون اليوم، هم الذين يتكئون على تحالفات اقليمية وقوى شعبية تتدرع بالطائفية والعرقية من أجل حماية مستقبلها دون أن تلتفت كثيراً لمسألة الحداثة السياسية منزوعة الوجه الطائفي أو العرقي أو المذهبي. أزمة الاصلاح في غياب أجندة واضحة محددة المعالم سواء لدى القوة الأكبر اليوم التي تنادي به، دون أن تبلو وجه المنطقة الثقافي، مهما قيل عن مراكز دراسات وأبحاث ومعاهد دراسات شرق أوسطية وندوات ومؤتمرات.. انها حالة أكثر تعقيداً من قصة آلية ديمقراطية أو واجهة انتخابية أو مجالس نيابية.. فكل تلك الواجهات حاضرة في المنطقة العربية بغض النظر عن جداوها أو مفعولها أو معنى وجودها. كما ان أزمة الاصلاح ماثلة في غياب أجندة محلية واضحة ومقبولة تستدعي الثقة بمفاعليها وتوجهاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية... ثمة حالة من الثقة المفقودة بين النظام العربي وجماهيره الضائعة بين طموحات الاحزاب المعارضة - التي تشكل جزءاً من أزمة اصلاح - بل إن بعضها يعمل ايضا بشكل أو بآخر من أجل استدامة حالة استبداد، وكأنها فعلاً معارضة تنتجها نظم على مقاسها وضمن سقف مشروعها في إدارة مجتمع. وكيف لنا أن نفسر من خلال شريحة مقروءة لتلك المعارضات في الداخل، ذلك التناحر بينها وهي تعجز عن الاتفاق على الحد الأدنى من ملامح مشروع اصلاحي. انها حالة صعبة ومعقدة، وكل محاولة للاستهانة بها وفي قدرتها على التعطيل، هو تبسيط لمشكل معقد، ونزوع سهل للطريقة الأمريكية في تعميم حالة ديمقراطية تكتفي بصندوق اقتراع، ليس هذا فحسب بل انها تميل للاستبداد حتى داخل منظوماتها المعارضة، من يشكو من الاستبداد هل يعمل على استدامته في ذات الوقت؟ وفي أزمة الاصلاح تلك الحتميات التاريخية التي يروج لها البعض، وانها لا محالة تقود لحالة حراك لا يمكن لها ان تنتظر، اين هي تلك الحتميات التاريخية، إلا إذا كان التفجر الداخلي بفعل الأزمات المستفحلة هي الحتمية التاريخية، فتلك كارثة، فالحتمية التاريخية هنا لا تعني سوى الفوضى والدمار والقضاء على كل منجز سابق، الحتمية هنا تعني التمزق والتفكيك والتشرذم، ومن بعدها هل ثمة حتمية تاريخية لإعادة تركيب منطقة تزدهر فيها كل عوامل الاثنية والطائفية والعرقية لحالة مؤسسة دولة حتى لو بالإكراه. دولة الإكراه هنا تكون رحمة أليس كذلك، أمام حتميات تاريخية لا تحرك عجلة التاريخ للأمام من حيث كونها تراكما طبيعيا لحالة اضافة، قدر ما هي حالة تراكم أزموي - ان جاز التعبير - لن يقود سوى لمزيد من الانهيارات. رجاء لا تحدثوني عن الثورة الفرنسية والفوضى الخلاقة، هذا التحايل التنظيري جزء من عملية إخفاء لواقع شديد التعقيد في منطقة تنام على أزمات واحتباسات تاريخية وفرز طائفي واثني وعصبوي ما زالت ضاربة في عقل حدي لا يمكن تجاوزها من خلال استدعاء نماذج غير قابلة اليوم للاستدعاء، التاريخ لا يعيد نفسه بالضرورة. أزمة الاصلاح - أيضاً - في غياب أولويات الاصلاح ذاته، هل يكفي ان يكون ثمة حالة رفض، إذا لم يكن ثمة محاولة لبناء مشروع من أولويات تمس جوانب الازمة لا عناوينها الظاهرة، ولذا لا غرابة ان تكون الممانعة شديدة من قبل القوى الرافضة للتحول الذي يحمل عناوين الرحيل دون تلمس ملامح مستقبل. وبالمقابل ازمة الاصلاح كامنة في عقلية مضادة لا تحمل من عناوين المرحلة سوى عقلية المنازلة، فليس لها من مشروع سوى مواجهة المشروع الأمريكي وكشف نفاقه والتباساته وعلاقاته وتناقضاته، وتلك ليست قصة جديدة، هل هنالك من لا يدرك أبعاد هذا المشروع الذي في أحسن أحواله إذا أحسنا الظن وليس في السياسة شيء اسمه حسن الظن، وسيلة لتحييد المنطقة عن مخاطر تحول راديكالي متطرف يعصف بالمصالح والنفوذ بعد أن وصلت بعض شظاياه إلى أبراج مانهاتن وقطارات مدريد.. من خلال استدعاء واجهات ديمقراطية، واصلاحات شكلانية، وحتى تلك إذا تعارضت والمصالح الأمريكية فلتذهب الديمقراطية للجحيم. لكن ان تصبح تلك المنازلة كل شيء، وتبقى الحتميات التاريخية - التي لا تأتي - على التحول الداخلي هي العنوان الأبرز في مشروع انهاك متواصل، تلك أيضاً أزمة عقل بنيوي لا يحمل سوى مشروع مواجهة لا مشروع استنقاذ. وهو في هذه الأحوال يعمل على استدامة التوقف بلا ملامح مشروع اصلاح سوى ما تفرزه عناوين المقاومة الانتحارية.. وهي مقاومة لا تحمل مشروعاً، سوى مشروع منازلة - متاح - من قبل قوى لها مصلحة من تعطيل التحول لا مواجهة واقع الأزمة. أن يتحول الاصلاح من عنوان لمواجهة أزمات واستحقاقات، إلى أزمة في حد ذاته تلك معضلة عربية أخرى.