ستة وأربعون «غاليري» من أربعة عشر بلداً عربياً وأجنبياً حطّت رحالها في مجمّع «البيال» البيروتي، كي تعرض نتاجات مئات الفنانين الذين يمثلون مشهدية الفن المعاصر، في زمن الانفتاح والعولمة وتبادل الثقافات، وذلك ضمن نطاق أوسَع رعاية رسمية ومؤسساتية ومصرفية وإعلامية وإعلانية لبنانية، لدعم هذه التظاهرة التي تقوم بتنظيمها وإدارتها الفرنسية لور دوتفيل مع فريق عملها الفرنسي-اللبناني، بمشاركة الغاليريات اللبنانية، في مدة زمنية من العرض لا تتعدى الأربعة أيام شهدت تدفقاً هائلاً لجمهور الفن والمتذوقين اللبنانيين والعرب. وكان الافتتاح في الهواء الطلق حين تجمّع عدد كبير من الفنانين والمثقفين والمهتمين أمام نصب «بيروت» الذي صممه الفنان التشكيلي اللبناني كميل حوّا (دار تصميم المُحترف)، وتم عرضه في مدخل وسط بيروت. «بيروت آرت فير» هو في صلبه سوق للفن، يكمن نجاحه في تسويق النتاج الفني ضمن شروط العرض والطلب، وهو فرصة لقاء وتعارف وفضول يقدمها المعرض للمهتمين في شؤون الفن. أما القدرة الشرائية لزبائن الفن فهي غير متوافرة في لبنان إلا ضمن نطاق ضئيل ومحدود، لذا فهو بعيد كلياً عن صفقات الإتجار بالفن وتداوله بالعملة الصعبة، التي تتم على سبيل المثل وفي شكل ناجح في دول الخليج العربي، لا سيما في أبو ظبي ودبي. إذاً، في لبنان المشهد مختلف، حيث لا نعثر على غاليريات عريقة أوروبية وأميركية... ولا حتى عربية، بل نجد أنّ العمود الفقري لهذه التظاهرة يقوم على عاتق صالات العرض اللبنانية المعروفة والمحترفات الخاصة الموسمية. تليها المشاركة الفرنسية الممثلة بسبع غاليريات والتي لا تعكس مجريات السوق الفرنسية إلا على نطاق ضيق، فضلاً عن غاليري واحد من بلجيكا اختارت فنانين متعددي الجنسية يرسمون على ألواح التزلج تيمات متنوعة تعكس غالبيتها نزعات مزاجية تعبر عن الطبيعة الاستهلاكية للعصر... فضلاً عن غاليري من الولاياتالمتحدة الأميركية (شيكاغو) ومن البرتغال ومن الأرجنتين. علاوة على مشاركة واحدة من دبي وواحدة من أبو ظبي وواحدة من سورية. ويبقى جديد «الآرت فير» 2013، مُتمثلاً بمشاركة فناني جنوب شرقي آسيا، الذين يشكلون - كما تقول دوتفيل - محطة لقاء جديدة بينهم وبين العالم العربي، فضلاً عن الأجنحة المخصصة لقسم التصميم الداخلي «الديزاين». واللافت في دورة هذا العام هو الجناح المخصص للصورة الفوتوغرافية، حمل عنوان «جيل الحرب»، تضمن لقطات وثائقية من ستة مصورين لبنانيين شهدوا بعدساتهم على أحداث ووقائع فالتقطوا لحظات عفوية ومؤثرة تعكس بعمق مناخات الحرب اللبنانية، بما يكتنفها من غرابة انبثاق الحياة من بين مشاهد الدمار وانتشار المسلحين والحواجز الرملية في أزقة بيروت وشوارعها، ما بين عامي 1983- 1989. شكّلت الغاليريات والصالات اللبنانية الثقل الراجح للتظاهرة، بدءاً بالجناح الكبير المخصص لعائلة غيراغوسيان من الفنانين الذين هم أبناء الفنان الكبير الراحل بول غيراغوسيان، وجناح الفنان الراحل ايلي كنعان، انتقالاً الى المجموعة المتنوعة عربياً التي قدمتها غاليري مارك هاشم، أبرزها صورة فوتوغرافية مركبة للمصور الفلسطيني محمد الهواجري بعنوان «عرس على حاجز مسلح» تستعيد مجازياً لوحة مارك شاغال «عرس في القرية»، وبجانبها لوحة جدارية لسبهان آدم وحروفية لأحمد معلاّ (من سورية). انتقالاً إلى عمل تجريدي لميساك طرزيان عن غاليري لوسي توتنجيان، وتجهيز لأشكال مقببة من معدن وخشب لغسان زرد عن غاليري تانيت. في حين تميزت غاليري عايدة شرفان، بما قدمته من التجارب المحلية والعربية والعالمية إذ عرضت نتاجاً تجريدياً متميزاً من فنانين ايطاليين معاصرين، من أمثال جيوفاني فرانجي وكورونا وسيرجيو فيرماريلو، فضلاً عن الابتكارت التقنية في مجال الصورة الفوتوغرافية المتمثلة في صورة لمحمد أبو النجا. ونعثر على لوحات شارل خوري ومجسمات جوزف حرب في غاليري «جانين ربيز» وعلى أحجام صغيرة من نتاج أيمن وسعيد بعلبكي لدى غاليري «أجيال»، وتقدم غاليري إلسي بريدي منحوتات برونزية متميزة للنحات الايطالي برونو كاتالانو التي تعتمد على طريقة في قص البرونز لإحداث فراغ في جسم الكتلة، واستخدام الألوان الزاهية لتقريب الموضوع أكثر فأكثر من الحياة اليومية التي من المفترض أن يكون عليها موضوع رجل يمشي وبيده حقيبة. أما إطلالة الفنان اللبناني المهاجر شوقي فران (غاليري سينتيا نهرا) فهي تعكس غرائبية المناخات الصُّوَرية التي درج على رسمها للدمج ما بين الفانتازيا الخيالية والواقعية الأكاديمية، وقد عرّفنا المعرض على موهبة كل من روجيه مكرزل وشربل عون في فن التجهيز. والواقع أن الثقل اللبناني لم يأتِ بالجديد كلياً وكأنه ثقل كمي أكثر منه نوعياً. قبل الطوفان السوري وبعده الفن في سورية هو العنوان البارز والمهيمن كممثل قوي احتكر حضور الإنتاج العربي الراهن، وهو موزع في أكثر من غاليري من لبنان والعالم، مندمجاً مع نتاجات مصورين وفوتوغرافيين من باكستان وإيران على وجه الخصوص. نكتشف أنّ مقتنيات «غاليري نيكي ديانا مرقردت» (فرنسا) تعود إلى فناني العالم الثالث، حيث تبرز من بينها صورة جريئة للباكستاني آمن مجاهدي لرجل معمم على طريقة مقاتلي طالبان، على صدره مسدس ذهبي معلق بسلسلة ذهبية، إشارة إلى أدوات المهنة وزيّها. ومن ثم نتبيّن عملاً ضخماً للنحّات السوري مصطفى علي حمل عنوان «المقصلة»، يجسد بعنف ما ينطوي عليه الواقع من صور مرعبة للمجازر الوحشية، وتجاوزاً نحو الصدمة النفسية الحادة التي ينطوي عليها الموضوع المؤلف من قطعتين كبيرتين من الخشب والحديد، للأداة القاطعة للرؤوس. وضمن المناخ السياسي عينه، قدم ثائر معروف عملاً تجهيزياً عبارة عن مجسم بقامة الإنسان، لرجل ملثم ينتزع من الحائط صورة مرسومة لأطفال يلعبون وسط الدمار. وثمة عمل حروفي لمنير بشيري بعنوان «نعم للحرية»، وعملان لنذير اسماعيل وعبدالله مراد (في غاليري آرت وان 56)، وأعمال اخرى قدمتها غاليري سامر قزح التي نقلت مقرها من دمشق إلى لبنان، لسوريين مهاجرين، من بينهم الياس ايوب وفادي الحموي وفاروق قندقجي، تقع في مرحلة الحداثة وما بعدها أو بالأحرى في مرحلة ما قبل الطوفان وبعده في سورية. فن من العالم استبدلت في المعاصرة تسمية فن البورتريه بعبارة «الأيقونية» إذ أضافت إلى مبدأ التصوير اليدوي للوجوه، نزعة العمل الجداري والتحرر اللوني المطلق، ذلك ما يتراءى حاضراً في الوجوه العملاقة للفنان هوم نيان الذي احترف رسم وجوه قادة سياسيين من أمثال نسلون مانديلا وتشي غيفارا (جي كا آرت- فرنسا)، كما أن التجريد الجديد الذي يقوم على المؤثرات البصرية لعلاقات الألوان، ظهر في أسلوب ادواردو هوفمان (لورا آرس- بيونس آيرس)، وبراعة الرسام الفرنسي بنجمان كربون في التشريح الجمالي (بويون دار)، وأطلقت غاليري صوفي لايون الفرنسية موهبة اللبناني سبيل غصوب في تصوير الوجوه بتقنية رفيعة. يتوسط مساحة المجمّع في البيال المجموعة الآتية من جنوب شرقي آسيا، التي تصدرتها آرت سيزن (سنغافورة)، إذ قدمت عملاً تجهيزياً ضخماً لدافيد شان، وقدمت ايضاً تجهيزاً بعنوان «الكتاب الجليس مطعون بالسهام» للفنان فرتيكال سابمارين. ومن أندونيسيا عمل تجهيزي لعصر الأقراص المدمجة لباغوس بنديغا (راشيل) والخريطة المسطحة للعالم لشانغ يونغ شيا (غوالالمبور)، فضلاً عن الواقعية المفرطة التي امتاز بها أسلوب شوي زوانغ في تماثيله الصغيرة المصنوعة من قوالب خشبية ذات الملامح الإنسانية شبه الحقيقية. استطاع «الآرت فير» أن يؤكد الدور الاستقطابي لبيروت، حيث تلتقي الضفاف القريبة والبعيدة الآتية من أنحاء القارات تحت شعار العولمة التي ما زالت تطرح علامات استفهام حول الماضي التشكيلي في ضوء مفاهيم بديلة تعبّر عن العصر الراهن.