قبل عام ونصف العام دعا النظام السوري، في حركة مسرحية ساذجة، المعارضة إلى الحوار، برسم «تحت سقف الوطن»، بمعنى أنه يسيطر على أجندة الحوار، وجدول الأعمال، والحاضرين، ترأس الجلسة، آنذاك، نائب الرئيس السوري فاروق الشرع، في غياب كل أطياف المعارضة الحقيقية الخارجية والداخلية، التي رفضت هذا الحوار في ظل استمرار أعمال العنف والقتل والاعتقال، كان المحاورون هم أنفسهم النظام، فقد كان ثلثا الحاضرين أعضاء في حزب البعث، طُعِّموا ببعض ما زعم أنهم شخصيات مستقلة، وبعض الممثلين والممثلات. مع تسارع وتيرة المجازر والقتل بدأت تنهال مبادرات الحوار مع النظام الواحدة تلو الأخرى، كان من أوائل تلك المبادرات، المبادرة التي طرحها الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي، إذ دعا، قبل أكثر من عام، أطياف المعارضة السورية كافة إلى التوحد في القاهرة، في محاولة منه للوساطة مع النظام لإجراء حوار معها، الحقيقة كانت تلك المبادرة فاشلة بامتياز، وقد حضرت الكثير من اللقاءات الجانبية التي جرت بين الكثير من أطياف المعارضة على اختلاف مشاربهم، وبعض المؤتمرات الصحافية والإعلامية، ولمست إصرار معظم شخصيات المعارضة السورية على رفض الحوار مع النظام. عرضت بعدها روسيا الكثير من المبادرات للحوار مع النظام، وكانت وفود وشخصيات المعارضة تحج إلى موسكو بمعدل مرة في كل شهر تقريباً، لم تسفر تلك المبادرات عن نتيجة إيجابية، ثم تتالت بعدها مبادرات إيران، التي دعت المعارضة السورية لزيارة طهران ثلاث مرات، لإجراء حوار مع النظام، ولكن لم يحضر الدعوة الأولى إلا مؤيدو النظام وأبواقه، فتحاوروا مع أنفسهم كالعادة، ورجعوا إلى سورية، وأهملت الدعوتان الأخريان نهائياً. الشهر الماضي كرر النظام أسطوانته القديمة، إذ دعا المعارضة للحوار بعنوان «تحت سقف الوطن»، كان من البدهي ألا يحضر تلك الجلسات إلا أبواقه والمصفقون له، ولم تتغير اللغة الخشبية للنظام وأسلوبه في أنه يعدّ المعارضين له ليسوا إلا أطفالاً، يسمح لهم باللعب بالدمى التي تُقدم لهم فقط، من دون الاقتراب من «تابو» فكرة تغيير النظام، وقد عرض النظام على قنواته ساعات طوالاً من السفسطة الكلامية الفارغة، حين فشلت مبادرته تلك أيضاً، أرسل بعض مؤيديه وأبواقه من هيئة التنسيق إلى جنيف، عسى ولعل أن يغري المكان خارج سورية بعضاً من شخصيات المعارضة الخارجية لحضور ذلك المؤتمر، ولكن لم تخرج تلك اللقاءات بأي نتيجة تذكر كسابقاتها، وظهر بعض الذين حضروا على قناة BBC العربية يندبون حظهم بأن الإعلام لم يلتفت إليهم. حين تأسس ائتلاف قوى المعارضة السورية، قبل ثلاثة أشهر، استبشر الشعب السوري خيراَ، خصوصاً بعد فشل المجلس الوطني في تمثيله سياسياً في الخارج، والحقيقة فقد كنت من أوائل المؤيدين لهذا الائتلاف، وباركت شخصياً لرئيسه معاذ الخطيب بتنصيبه رئيساً لهذا الائتلاف، بل وكتبت مقالاً في صحيفة «الحياة» مفاده أن هذا الائتلاف هو الورقة الأخيرة للمعارضة لتوحيد صفوفها في وجه طغيان النظام. عانى الائتلاف كثيراً من التشرذم والانقسام، بسبب محاولات الحرس القديم في المجلس الوطني السيطرة على قراراته المصيرية، وعلى أموال مساعدات الشعب السوري، بعد سحب البساط من تحت المجلس، ناهيك عن الصراع على المناصب، ومرض الأنا، والنرجسية، والديجماتية، كما أن الخلافات بين أعضائه كانت واضحة، خصوصاً أن الخطيب لم يخرج من عباءة الإخوان المسلمين، كما عانى أيضاً من الانتقاد الذي وجه إليه بسبب تعيينه جورج صبرة، أحد مؤسسي الحزب الشيوعي في سورية، نائباً للرئيس، ما شكل تحدياً كبيراً للقوى الإسلامية في الخارج والداخل على حد سواء، خصوصاً أن جورج صبرة وصل إلى منصب رئيس المجلس الوطني بعد تزوير الانتخابات آنذاك، ثم ثالثة الأثافي، حنث الدول الصديقة المؤيدة للشعب السوري عن وعودها في تقديم الدعم المادي لهذا الائتلاف كان له تأثير سلبي جداً في مساره. الأسبوع الماضي طرح معاذ الخطيب، في خطوة منه للهروب إلى الأمام، مبادرة للحوار مع النظام، ولكنه اشترط قبل الحوار إطلاق 160 ألف معتقل من سجون النظام خلال أيام، في الحقيقة كانت مبادرته تلك ترمي إلى أهداف عدة، منها: أولاً: تهديد الغرب بأن المعارضة يمكن أن تتخلى عن الثورة، وتعود إلى أحضان النظام، تطبيقاً للمثل الشعبي السوري القائل: «نكاية بالطهارة بال في ملابسه»، ثانياً: رمي الكرة في ملعب النظام، الذي ما فتئ يدعي أنه يعرض فكرة الحوار مع المعارضة، ثالثاً: جس نبض أقرانه في المعارضة، أما الأهداف التي صرح عنها بمبادرته تلك، مثل: وقف القتل، والتخفيف عن معاناة الشعب السوري، وإطلاق المعتقلين، فكان يعلم هو نفسه أنه لن يتحقق شيء منها أبداً. يوم انتهاء المهلة التي حددها الخطيب للنظام، وخشية من أن يظهر وكأنه تراجع عن مبادرته، أطلق مبادرة أخرى، مفادها أنه يوافق على الاجتماع مع مسؤولين عن النظام في الأراضي السورية الشمالية المحررة من سلطته؛ لإحراجه بالاعتراف أن هناك مناطق محررة، ولكن النظام، وفي اليوم ذاته، أخذ يلعب لعبة القط والفأر مع المعارضة، ففي البدء سارع ما سمي وزير المصالحة الوطنية، علي حيدر، وطرح مبدأ الحوار في جنيف، بقصد تجنب الإحراج في موضوع المناطق المحررة، ومن مبدأ إظهار نفسه للعالم أنه الطرف المسالم، الذي يبحث عن الحوار، وفي الوقت ذاته يضرب عصفورين بحجر واحد، فيستغل الوقت في المماطلة، لتمييع قضية الثورة، وفي تقسيم المعارضة بين مؤيد ورافض لهذا الحوار، وحين ظهرت بوادر موافقة من بعض أطراف المعارضة السياسية، عاد بعد أقل من 12 ساعة وغيّر طرحه ذلك 180 درجة، إذ صرح بأن الحوار يجب أن يكون في دمشق، ومن دون أي شروط مسبقة، بعدها أطلقت الهيئة السياسية للائتلاف مبادرة جديدة، لا تسمن ولا تغني من جوع. مبادرات الحوار المتكررة تلك ليست إلا وسيلة للتهرب من استحقاقات المجتمع الدولي تجاه الشعب السوري، للتخلص من حكم الطاغية، وفي الوقت عينه تعبر عن ضيق الأفق السياسي للمعارضة الخارجية، فالحوار مع هذا النظام طريقه مسدود، والثوار على الأرض هم من لديهم الكلمة الفصل، ولو طال الزمان. * باحث في الشؤون الإسلامية.