يُظهر الفيديو المسرّب عن عناصر من الجيش أو الأمن أو الشبيحة، إذ لم يعد من فرق بين الثلاثة، مجموعة من العناصر يتناوبون على استخدام السكاكين في جسد معتقل، ومن ثم يقومون برميه بالحجارة حتى الموت. هذا الفيديو الذي استهل به السوريون سنتهم الجديدة لم يكن الأول، فقد ودعوا السنة السابقة بفيديو يظهر عناصر آخرين وهم ينكلون بالجرحى الذين يفترشون الأرض في مستشفى ميداني، وقد اضطرت المحطات التلفزيونية التي عرضته إلى تشفير بعض المشاهد لهولها، وإلى كتم الشتائم البذيئة التي استخدمها الجلادون. على العموم لم تعد الفيديوات المسربة بين الحين والآخر دلالة على الوحشية غير المسبوقة للنظام، والتي يتفنن شبيحته بابتكار أساليب جديدة لها، بل بات يُنظر إلى تسريبها كوسيلة يتعمدها النظام لمزيد من الإرهاب، وبخاصة لمزيد من شحن الغرائز الطائفية. بعد اثنين وعشرين شهراً قاسى السوريون مختلف أصناف القتل والتنكيل، إلا أن لبعض المجازر طعماً خاصاً، وتحديداً المجازر التي استخدمت فيها السكاكين وأشكال من التمثيل بالأحياء قبل قتلهم أو بعده، فهذا النوع لا يسفر عن وحشية النظام وحسب، بل يسفر عن الوحشية الفظيعة لشبيحته فرداً فرداً، ومن المؤكد أنها تكتسب مغزى خاصاً لجهة تباهيهم وتشفيهم الواضح بالضحايا، وهم يتحدثون بلهجة تدل على لون طائفي محدد. وسيكون من الصعب بعد مشاهدة أحد الفيديوات المجادلة بأن الشبيحة ينتمون إلى مختلف الطوائف، أو بأن قادة النظام هم المسؤولون الحصريون عن المجازر، بغياب تسجيلات لمجازر يمكن نسبها إلى شبيحة من انتماءات الطائفية أخرى. ما يُفهم عن حقّ، وهذه هي إحدى الرسائل المتوخاة من النظام، أن الشبيحة العلويين يقومون بالمجازر البشعة دفاعاً عن النظام، مضافاً إلى ذلك حقد طائفي بغيض هو وحده الكفيل بإيصال وحشيتهم إلى هذا الحد. ليس مستغرباً أو مستبعداً إذاً، أن تحرّك هذه المجازر ردود أفعال طائفية أيضاً من طرف بعض الثوار أو الناشطين، وليس مستبعداً أن يتنادى بعضهم إلى دعوات الانتقام من الطائفة العلوية ككل، من دون تمييز بين الأبرياء والشبيحة. هذا بطبيعة الحال لا يعني تبريراً لردود أفعال يستدرجها النظام أصلاً، ولا تخدم سوى أجنداته في تصوير الثورة كثورة سنّية طائفية، ومن المعلوم أن أبواق النظام تستثمر ردود الأفعال هذه بمعزل عن مسبباتها وتُصورها على أنها جوهر الثورة. لكن المسألة لا تتوقف عند النتائج السياسية المباشرة، إذ يمكن القول إن المسألة الطائفية بدأت تهدد جدياً «الشخصية السورية»، والتي لم تُمتحن على هذا النحو منذ بداية عهد الاستقلال على الأقل. وعندما نقول إن «الشخصية السورية» لم تُمتحن على هذا النحو، فذلك لا يعني إنكار وجود الطائفيين في المجتمع السوري عموماً، ولا يعني أيضاً عدم التفريق بين طائفية مقيمة وطائفية موسمية. مثلاً لقد اتخذت المواجهات بين «الإخوان المسلمين» والنظام قبل ثلاثة عقود منحى طائفياً، ولكن يمكن وصف طائفية جزء معتبر من أنصار «الإخوان» آنذاك بالطائفية الموسمية لأنها كانت نوعاً من الاستثمار السياسي الموقت، وانتهت تقريباً مع خسارة المواجهة. أما طائفية النظام التي بنيت على تلك الأحداث فكانت أكثر عمقاً، فلم يتوقف استثماره إياها منذ ذلك الوقت، أي استثماره إياها في أوساط الأقليات وعلى نحو خاص في أوساط الطائفة العلوية. ذلك لا يعني أيضاً غياب الملمح الطائفي عن الخطاب «الإخواني»، بل يعني انحسار شعبيتهم التي كانت موقتة بدورها، والتي يبدو أن انتعاشها رهن بأوقات الأزمات. على هذا الصعيد ليس إنكار النظام الطائفية، على رغم تغذيتها منه، هو الوحيد. فقد شاركته في هذا النخب الثقافية والسياسية التي تعالت دائماً على الخوض في المسألة الطائفية، ويجوز القول إن النظام أحسن استغلال صمت النخب عن المسألة الطائفية ليشتغل من دون رادع أو رقيب على استثمارها. بهذا المعنى قدمت النخب، بتعففها الطائفي المزعوم، خدمة كبيرة للنظام الذي استفرد بالمسألة الطائفية بوسائله القذرة. ومن المؤكد أن فتح الملف الطائفي في زمن الثورة يزيد من أعبائها الثقيلة أصلاً، لكن تجاهله من قبل بعض النخب لم يخدمها إطلاقاً. ولم يستطع على نحو خاص أن يحجب وجود النزعات الطائفية والطائفية المضادة لها ضمن الصراع الحالي المرير؛ لا ينفع في دحضها تلك الإشارات إلى تعدد الانتماءات الطائفية للمؤيدين وللثوار، لأن أعمال العنف الطائفي، وردود الأفعال الطائفية التي تليها، هي ما يستبطن الواقع أكثر من الادعاءات الثقافية. المعيار الذي لا تخطئه الحساسية العامة هنا هو أن مجازر النظام بعامة تُحسب عليه كمجرد نظام، أما في حالات محددة كمجزرة الحولة والقبير وسواهما فهي تُحسب على النظام بصفته طائفياً أيضاً، ما يجعل التعبير عن النقمة يمتد ليطاول طائفة بأكملها. ومن المؤسف عدم فهم هذه الفوارق حتى من قبل بعض الناشطين الذين سعوا في كل مرة إلى مواجهة ردود الأفعال الناقمة بنفي وجود الطائفية إطلاقاً والإصرار على وجود انقسام واحد فقط ضمن المجتمع السوري، هو بين النظام كمجرد نظام والثورة كمجرد ثورة. بالطبع ليس هناك ما يمكن تسميته «شخصية سورية» إلا على سبيل النَسَب الجغرافي، وما دون ذلك يتقلقل المجتمع السوري بين انتماءات وولاءات لا يعدو الانتماء والولاء الوطني كونه واحداً منها، وربما يكون الأضعف بينها بحكم تغييبه لنصف قرن من الحكم البعثي. ففي غياب السياسة عن المجتمع السوري بقي الحديث في المسألة الوطنية نوعاً من التمرين الذهني لا أكثر، ولم تساعد الأيديولوجيات البعثية أو اليسارية أو الشيوعية التي سادت في أوساط النخب على طرح النقاش في موضوع الاجتماع الوطني السوري، وفي المحصلة بقي الاجتماع السوري أسير تجاذبين، فمن جهة هناك روابط ما قبل الدولة التي دامت بسبب غياب الروابط المدنية والسياسية الحديثة، ومن الجهة المقابلة هناك الأيديولوجيات العابرة للحدود والتي لا ترى في السوريين إلا جزءاً من كلّ أو وطناً موقتاً في أحسن الأحوال. لقد نشأت أجيال سورية على تلك الأيديولوجيات المتعالية، ولم يُتح لها الاصطدام بالواقع إلا بفعل الثورة الحالية، ولن يكون متوقعاً أن يطابق الواقعُ المثلَ المنشودة التي اقترحتها الثورة. بالتالي لا يبدو الواقع مستقراً أو ثابتاً، بما في ذلك المسألة الطائفية التي تتمدد وتنحسر على إيقاع المجازر. لكن ما ينبغي الاعتراف به هو أن المشاركين في ارتكاب بعض مجازر النظام هم طائفيون، يقابلهم نظراء لهم في الطوائف الأخرى يمارسون حتى الآن أفعالاً أدنى من العنف الطائفي، بما في ذلك العنف اللفظي المتبادل. وثمة نسبة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، إن كان لهذا من دلالة، متأرجحة فهي تكشف عن طائفية موسمية إثر كل مجزرة، ثم تعود لتكفّر عنها بالقول إن الشعب السوري واحد. * كاتب سوري