المثقف وتدمير الدور المدني للدين! محمد العباس انبعاث الكراهيات يدلّّل على أن معظم المثقفين في الوطن العربي لم يأخذوا وصايا «اليونسكو» لوأد العنصرية على محمل الجد. حتى إعلان الأممالمتحدة العام 1996 عاماً للتسامح، لا يبدو حاضراً في أذهانهم، فبمجرد انفجار أحداث ما يُسمى بالربيع العربي تحول غالبهم إلى عوام. إذ باتوا يتصرفون بغوغائية محيّرة وعنصرية منفّرة، أدت إلى انقسام المجتمع بشكل عمودي، لأنهم باختصار لم يتلقوا ما يكفي من التربية الأنسنية التي تضع الإنسان فوق كل اعتبار. لقد كشفت الوقائع المعاشة عن وجود مثقف عدواني النزعة إزاء الآخر، لأنه أبعد ما يكون عن مستوجبات العصر، ويعيش حالاً من العداء المزمن مع لحظة الديموقراطية، فهو نتاج تربية دينية منحرفة، استغنت عن العناصر البنيوية للتربية الأخلاقية، الأمر الذي يفسر انفضاح الذات العربية، وتهاوي العقائد، وانفراط الأحلاف التلفيقية. في ظل المنعطفات التاريخية تنفصم الذات على حافة الخيارات التي تفصح عن جوهرها، وفي هذا الصدد يلاحظ أن المثقف الديني المتلبس بلبوس الحداثة والعصرانية ارتد إلى آخر خطوطه الدفاعية، أي إلى طائفيته وعنصريته، لأنه لم يفرق بين الدين الذي يمثل الدافع الحيوي بكل معانيه الروحية والعاطفية والإيمانية، وبين التديّن الذي يعني الشكل الاجتماعي الذي يسعى للاستحواذ على تفكير وعاطفة الإنسان، وهذا هو ما يؤكد أننا بصدد حاجات ثقافية مستلبة ومصوغة دينياً، فالذوات الثقافية التي اعتدنا وجودها في الحقول المعرفية والفنية زحفت بسرعة ناحية الحدث السياسي، متنازلة عن كل ما بشرت به من محاربة الأصولية والمستعمر على حد سواء، بعد أن اُستدمجت في مشروع طائفي له ملمح الثقافي، وصارت جزءاً لا يتجزأ من حال عنفية شاملة وقودها التخوين والتأثيم. وهكذا تحول المثقف العربي إلى حال تعبوية للعنف تحت مظلة وشعارات الحرية والديموقراطية، وصار هو بدوره يرحّل قاموسه التبشيري بالعنف الذي بات في متناول الطبقات الاجتماعية، والمعبّر عنه بلغة سياسية محقونة بكراهية الآخر وإقصائه. الصراع على المعنى! علي الشدوي لا يمكن أن نفصل تصاعد الصراع والعنف الثقافي في العالم العربي عن تصوّر ادعاء جماعة ما امتلاك المعنى، وعلى افتراض أن هذا يحدث بين فئتين أو أكثر، فإن الصراع والعنف ينتج من فئة تعتقد أنها امتلكت المعنى، وإن لم يشاركها الآخر في المعنى نفسه فيجب أن يُفرض عليها! يمكن أن نعيد أصل الصراع الثقافي إلى الطريقة التي تَبْني فيها فئة ما المعنى، وبين طرق أخرى تتحول فيها فئة أخرى إلى وعاء يملأ من أناس يعتقدون أنهم امتلكوا المعنى، ويرون الأشياء التي تبقى مخفية عن عيون الآخرين، ويملكون القدرة على أن يروا ما هو تحت الظاهر، وما يُهدد الهُوية، أما الباقون - وأعني الفئات التي تعارضهم - فهي من وجهة نظرهم فئات غير موجودة ثقافياً، لذا ينبغي أن يتمثلوا طرق تفكيرها، ويتبنوا مواقفها، ويشاركوا في نشاطاتها لكي يتعلموا، وإن لم يفعلوا فيجب أن يمتثلوا بالقوة، وهنا ينشأ العنف والصراع الثقافي. إذا كان ذلك، فإن الفهم الأعمق للصراع الثقافي يبرز ونحن نتحدث عن التعدد الثقافي، ذلك أن المعنى لا يُكتشف كما يكتشف النفط في دول الخليج، إنما يكوّن وُيبنى كما الأهرامات في مصر، وإذا كان ، فسيكونون معنى مختلف، وعلى رغم ما أُخذ على السماح بتعددية المعنى من البشر، وأنه يحدث فوضى، إلا أننا يجب أن نتحمّس لهذا التعدد، ونعتز به ونحتفل، لأن الواجب أن نفهم كيف أن البشر مختلفين، ولذلك فهم مبتكرون بشكل لافت وبديع، ولا بد لنا من أن نبعد الفكرة التي تقول إن البشر لا يكوّنون المعنى. لماذا يجب أن نتحمس لهذا التعدد في تكوين المعنى؟ لأن طرق تفكير الناس مختلفة، ولأن المعنى ليس شيئاً يمكن أن يمنحه أحد لأحد، ولأن تكوين معنى ما لا ينجم عن مجرد تلقيه من آخرين، ولأن المعنى ليس ثابتاً ولا نهائياً، وأخيرا، لأن المعرفة عملية تغيير مستمرة، فما يعترف به الناس اليوم على أنه حقيقة، يعتبر موقتاً، وبالتالي تكون معرفتهم معرضة للتغير في ضوء ما يستجد من أفكار وخبرات ومعلومات. العلمانية شرط التحول عن ثقافة العنف! محمد الحرز التحول الديموقراطي في أواخر القرن الماضي بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، ورمزيته الكبرى التي تمثلت أيضاً في سقوط جدار برلين، هي السمة التي غلبت دول هذا المعسكر، فكان تحولها كما عبر عنها صامويل هانتنغتون بالموجة الثالثة للتحول الديموقراطي خياراً شعبياً لا رجعة عنه، وكان ينتظر من الدول العربية أن تكون سباقة للانخراط في هذه الموجة، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، فأصبح الاعتقاد السائد في العالم عن مجتمعاتنا بأنها لا تملك القابلية في التحول الديموقراطي بسبب الإرث الاستبدادي الذي طغى على تاريخها الطويل، وعندما جاء ما يسمى الربيع العربي تسابق المحللون بالتبشير بالموجة الرابعة للتحول الديموقراطي، لكن الدول الشيوعية أثناء تبني شعوبها الخيار الديموقراطي لم يصاحبه عنف يفتك بكل قيم المجتمع، وينتج ثقافة الكراهية كما هو الحال عليه في مجتمعاتنا العربية. هذه المفارقة لا يمكن إرجاع أسبابها فقط إلى سياسة التآمر الخارجي، ولا إلى ثقافة التخوين المستشرية في الخطاب السياسي العربي، إنها إحدى النتائج الكبرى التي تتصل بثقافة العنف، وهي ثقافة تتدفق على الفرد والمجتمع من جميع الاتجاهات، خصوصاً تلك المرتبطة بمفاصل حياته، من النظام التربوي للأسرة والتعليم والعادات والتقاليد الاجتماعية، والنظام السياسي الاستبدادي. الفرد العربي ضمن هذه الثقافة مسلوب الإرادة، ممتلئ بالإحباط والكراهية ضد الغير، لا يملك تصورا عن ثقافة الآخرين إلا باعتباره عدواً ينبغي القضاء عليه أو شيطنة صورته، تدعمه في تصوره ذلك نماذج من ماضي التاريخ الإسلامي، تحضر في حياته بقوة كقيم عليا يستمد منها معنى حياته، قيم كالجهاد والاستشهاد، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وتقديس العادات والتقاليد، فما حدث في العراق وليبيا واليمن ثم في سورية ومصر الإخوان ليس سوى دليل على طغيان ثقافة العنف على الحياة العربية بشتى صورها وأشكالها. ثقافة حقوق الإنسان وسيادة القانون وبناء المؤسسات المدنية والتنمية والديموقراطية والعلمانية هي التحدي الأكبر لمجتمعاتنا في القرن ال21، وهو تحدِّ مضاعف بسبب تأثيرات ثقافة العولمة التي تنتهك الحدود والقيم والخصوصيات، وتعيد إنتاج القيم الأخلاقية والدينية والسياسية وفق مصالح ثقافة السوق التي تهيمن عليها كبرى الدول والشركات. انحسار الجهل والفقر هما الشرطان المقدمان على كل مشروع يرصد البناء والتطور. عندما يتطرف المثقف! عبدالحكيم باقيس باتت مظاهر العنف بمختلف مستوياته تحيط بحياتنا من كل الجهات، بداية بعنف الأفكار والآيديولوجيات والسلطات والمجتمعات، وعنف العادات والتقاليد التي تتحكم بكل شيء فينا، بما في ذلك طريقتنا في الملبس! وليس نهاية بالعنف الذي نمارسه على ذواتنا وهوياتنا، فتحولنا جميعاً إلى ممارسي وضحايا عنف، ولو بدرجات متفاوتة، غير أن عنف المثقفين هو الأكثر خطورة، لا من حيث درجته أو مستوياته، وإنما لأن أصحابه هم الأكثر انفتاحاً وتقبلاً للاختلاف، وبعداً عن التعصب، فهم يؤمنون بالتعدد الفكري، وقيم احترام الرأي وحريته، والتسامح وتقبل الآخر والاختلاف معه، وغير ذلك من الأفكار الجميلة! لكن ما يدفع إلى التساؤل والمكاشفة المؤلمة، هل مثقفونا ونخبنا الفكرية قبل السياسيين يتمثلون حقاً هذه الأفكار؟ قبل ثورات الربيع العربي ما انفك كثير من المثقفين العرب الذين شكل بعضهم جماعات «نخبوية» أو «الآنتلغنتسيا»، كما يصفهم البعض أحياناً، ينادون بتطبيق الأفكار الليبرالية والديموقراطية في العالم العربي سبيلاً للتقدم الحضاري، ويتوجسون من الجماعات «المغايرة» من التيارات المفارقة آيديولوجياً كالراديكاليين والإسلاميين و «السلفيين»، ويرسمون لهم صورة نمطية مكررة، بوصفهم متطرفين لا يؤمنون بثقافة الآخر أو التعايش معه، ويرفضون مبادئ المشاركة الاجتماعية والسياسية، وذلك ما عبر عنه الإنتاج الثقافي على نحو ملفت في العقدين الأخيرين، الإنتاج الأدبي الدرامي والإعلامي الذي ظل ينمّط هذه الصورة السلبية في تقاطب واضح مع صورة المثقف الإيجابية، ولكن اليوم في زمن الثورة العربية، زمن الاختبار الحقيقي للآيديولوجيات والأفكار الذي لا يضع السياسيين والاقتصاديين وحدهم في موضع المساءلة وفي مأزق الاختبار، وإنما يضع المثقفين أنفسهم في اختبار حقيقي، وأية رؤية استشرافية للمشهد القادم توحي بعنف ثقافي مفرط، ربما يمارسه المثقفون على خصومهم الذين حشروهم في مأزق اختبار آيديولوجياتهم وأفكارهم الليبرالية، وهنا تكمن المفارقة العجيبة، إذ تتبدل المواقع بفعل ما أفرزته تحولات المشهد السياسي وممارسته الديموقراطية في بعض أقطار الربيع العربي. وقد يعزل فيها بعض المثقفين أنفسهم عن واقعهم ومجتمعاتهم، فيستعيرون خطاب نفي وإقصاء تجاهها، ويرسمون لها صوراً وهمية، فلم يعد ذلك الآخر المفارق مجرد فكرة أو آيديولوجيا تمكن مطارحتها في بياض الكتابة أو تنميطها وشيطنتها في المتخيل الثقافي، وإنما مجتمع عربي يخوض معركته ضد أصنام الاستبداد السياسي والاجتماعي، الثقافي بعيداً عن النخب الثقافية! صحيح أن أكثر المثقفين العرب انحازوا إلى قيم الحرية والديموقراطية في ربيع الشعوب العربية، لكن جزءاً مهماً من نخبة الحداثة العربية لاذ بصمت عجيب في زمن فيه شرف الكلام أغلى من قناطير الذهب، فأصبح السكوت عنفاً مضمراً، وجماعة أخرى من المفكرين والأدباء والصحافيين والنقاد والفنانين وأمثالهم مارسوا خطاب عنف ثقافي وفكري معلن في تبشيع مجتمعاتهم، والسخرية والاشمئزاز من خياراتها، لأنها تعارضت مع مواقفهم، وربما مصالحهم، فمارسوا نظرة استعلائية فوقية تحول فيها الناس إلى مجتمعات لا تعي واقعها، ولم يتردد بعض المثقفين في وسم مجتمعاتهم بالأمية والجهل وعدم كفاءتها في اختياراتها الديموقراطية، فأخذ خطاب ثقافي في التشكل يؤمن بديكتاتورية النخبة، وإذا لم يتنبه أصحابه إلى متغيرات الواقع الثقافي وتحولاته الجديدة لوسم هذا الخطاب بالعنف والتطرف، ولأصبحت شخصية المثقف المتطرف تحتل مكانة لا بأس بها في الأعمال الأدبية القادمة، في مقابل شخصية المتطرف الديني.