غير خافٍ على أي متابع للمشهد العربي بعامة إدراك أن الصورة بين المثقف والسلطة قائمة على نوازع الصراع والتضاد، فما فتئ «المثقف» يرى في السياسي عائقًا أمام حريته بما يملكه من سلطة تسير وفق منهج محدد لا يسمح بخرقه أو مناوشته بنظريات تنحرف عن مساره المرسوم، و»السياسي» كذلك لا يقف عند تصوير المثقف في سياج الحالم ب»يوتوبيا» لا مكان لها في حيز الممكن ومضمار الواقع.. هذه الحالة والصورة تمثل نوعًا من الصدامية، وشعورًا بالتنافر بين الطرفين.. فقد عاش المثقف العربي مراحل متحولة كثيرة في مجتمعه وفي كل مرّة كانت أصابع الاتهام تتوجّه إليه وتتهمه بأنه أهمل دوره التاريخي حيث ترك الجماهير وانخرط في صف السلطة تارة أو ضدها تارة أخرى ولكن دون مشروع أو تأثير. وما هزيمة 1967، وحرب الخليج الثانية سنة 1991، وتفجيرات نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001، والربيع العربي، إلاّ مواقف متكررة تطرح العديد من القضايا عن المثقف، وتتجلى بصورة أكثر وضوحًا فيما يشهده العالم العربي اليوم في ما بات يعرف ب»الربيع العربي».. فهذا الربيع العربي ولّد لدى الكثيرين حالة من توجيه أصابع الاهتمام للمثقف بالدرجة الأولى، وأنه كان الصوت الذي لم يعلُ يومًا على السلطة، بل لم يستطع أن يتفوه بحديث عنها، ووصل الأمر بالبعض منهم إلى أن يعمل في كنفها بعيدًا عن هموم الشعب، وأحلام رجل الشارع البسيط. العلاقة بين المثقف والسلطة ظلت على مدار الحقب محل شد وجذب، وطرح للآراء، ولعل آخرها كان في مهرجان الجنادرية 27 حيث طرح هذا الموضوع ضمن محاور البرنامج الثقافي.. وكشأن كافة النقاشات التي دارت حول هذا الموضوع تباينت الآراء والنقاشات.. وأظهرت ذات السياق القديم الذي توزعت فيه الرؤى بين ضرورة أن يقترب المثقف من السلطة شريطة أن لا يسيطر عليه المنصب أو الإغراء السياسي عن همومه وقضاياه الكبرى، ورأي مقابل يرى عدم الاقتراب مولية من السلطة لأنها نار تحرق كل من اقترب منها.. «الأربعاء» طرح قضية المثقف والسلطة أمام طائفة من المثقفين والأدباء، مستعيدًا قبل إيراد آرائهم موقف المفكر العربي إدوارد سعيد حول هذه العلاقة؛ فهو يرى أن صورة المثقف من خلال تعريفاته تطلعنا على عدة آراء وتعريفات منها: أنه يوجد في كل مجتمع أشخاص يتمتعون بحساسية فذة للقداسة، ولديهم قدرة خاصة على تأمل الطبيعة والكون والقواعد التي تحكم مجتمعاتهم، وبالمقابل هناك فئة تتمتع بقدرة عالية على التساؤل والبحث تحفزهم على التواصل المتكرر مع الرموز الأعم والأشمل من المواقف، في الحياة اليومية، ويعبرون عنه بطرق شتى، كالشعر والفن التشكيلي أو غيره ككتابة موقف يسمح بالتكيف والتوافق لتوفير الاستمرار في الحياة العامة. ويشخص الصورة في العالم الثالث بأن الأصوات تتصاعد مطالبة بالديمقراطية وحرية الكلمة، ومحاربة كل أشكال الزيف والفساد، ومقابل كل ما ورد يوجد مثقفون عاملون، ومثقفون «ابن البلد» ومتثاقفون لا عمل لهم إلاّ رفع الصوت. والعلاقة بين المثقف والسلطة تاريخية، وسابقًا كان يطرد من يتعارض مع السلطة ويعاني الغربة والحرمان، وقد يتطور هذا النفي ليطال شعبًا بأكمله، وقد حصل عبر التاريخ «بهذا الخصوص» إبادات جماعية، ولا يزال حتى اليوم يعيش بعض المثقفين في المنفى. وأمام هذا الواقع لجأ بعض المثقفين إلى المراوغة السياسية في التعبير عن رأيهم، أو باتخاذ موقف جديد للتأقلم مع السلطة الجديدة الناشئة ومنهم من اختار المقاومة أو الهجرة والتهجير أو التغرب الخارجي. ويضيف: إن المثقف يجب أن يكون مستقلاً عن أية جهة أو سلطة كيلا يرتبط بأية قيود تحد من تفكيره أو توجيه مساره، وعليه أن يتبنى قيمًا ومثلاً عليا كالعدالة والحرية له ولغيره، وعدم قبوله الحلول الوسط فيما يخص هذه القيم، ليشارك في الحياة العامة. وعليه أن يتجاوز التوجيهات أو الإيديولوجيات الجذابة الخادعة، فهو وكما يجب يتجاوز أية صفة حزبية أو فئوية متعصبة أو مذهبية متجمدة. والمثقف ليس كل من يحمل شهادة عالية، أو يملك نواحي الخطاب الطنان، يحمل ثقافة عامة تخاطب كل الناس بعقلانية ووعي، يدافع عن أفكاره وثقافته لتغيير الواقع السيئ، وصاحب رسالة سامية يؤديها من خلال علاقته بالمؤسسات دون الوقوع في أطيافها، أو أن يقف موقف المشاهد والمنزوي، وعليه أن يسجل بكل جرأة ووضوح شهادته ورأيه. ويفند أنواع المثقفين فمنهم: مثقفو الإدارات، ومثقفو الخطابات، ومثقفون حقيقيون من أصحاب المواهب الخلاقة والإطلالة الرفيعة. والمثقف الذي يتخلى عن رسالته ويفرط بمبادئه يعد مثقفًا خائنا لأفكاره ولشعبه، لأن المثقف الحقيقي أصبح وجوده نادرًا، ربما بسبب تراجعه أو انطوائه تحت أية سلطة «فكرية - ثقافية - سياسية - دينية اجتماعية». وهناك فئة تعيش في أبراجها العاجية، تكرس حياتها لموضوعات غامضة يصل بعضها إلى حد الشعوذة والعرافة. الصدق رائد المثقف في الحياة وهذا ما يدفعه إلى فضح الفساد والدفاع عن المستضعفين، وتحدي أية سلطة غاشمة تكرس لذلك، وهناك فرق بين الخطابة السياسية والثقافة أو كيل الناس بالشتائم، أو صب اللعنات على الجميع، فهذه الأوهام الفردية تندرج تحت اسم «الدونكيشوتية». ومنهم من يتخذ موقفًا وطنيًا براقًا فارغًا من المضامين والسلوك وقد قدم «جرامشي» نموذجًا للمثقف الحقيقي، بأنه يؤدي مجموعة من الوظائف في المجتمع، وهو قريب إلى الواقع، وهناك مثقفون عالميون أفادوا البشرية جمعاء لما لهم من دور اجتماعي هام يتفردون به. ويعد الفنان المستقل والمفكر المستقل من الشخصيات القليلة الباقية المؤهلة لمقاومة ومحاربة تنميط كل ما له علاقة بالحياة. وهذا يستلزم طاقة عقلانية فائقة، وكفاحًا معقدًا للحفاظ على التوازن بين مشكلات الذات عند الفرد، ومتطلبات الإفصاح عن رأيهم علنًا ودون مواربة. إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة وهنا نتذكر أيضًا قول الراحل المفكر محمود أمين العالم الذي يرى أن أكثر ما تعالج قضية العلاقة بين المثقفين والسلطة معالجة تبسيطية. فالمثقفون يتقلصون في نموذج لمثقف فرد مطلق يقف في مواجهة سلطة مطلقة. وبين هذا المثقف الفرد والسلطة تقوم علاقة محددة. فالمثقف إزاء هذه السلطة قد يكون «ناقدًا أو مبررًا أو متفرجًا»، وقد يكون داخل السلطة أو خارجها، وقد يكون مع السلطة أو ضدها. وعلى هذا فالعلاقة بين المثقف والسلطة لا تخرج عن أن تكون علاقة ثنائية سواء كانت استبعادية أو توفيقية. ويضيف: إن الواقع في العلاقة بين المثقفين والسلطة أكثر تعقيدًا من هذه الثنائية التبسيطية. بل لعل هذه العلاقة أن تختلف باختلاف الملابسات الاجتماعية والتاريخية التي تتحقق فيها، كما يختلف ذلك الوعي بها باختلاف هذه الملابسات واختلاف المواقف منها.. في ضوء هذين النموذجين لإدوارد والعالم، تأتي رؤية المشاركين في محاور هذه القضية.. د. محسب: النظر للعلاقة بينهما لا تتم من منظور الجواهر المستقلة فبداية يقول الدكتور محيي الدين محسب: إن طرح سؤال العلاقة بين المثقف والسلطة على هذا النحو يفترض أن ثمة دائرتين مستقلتين، ربما على صورة فريقين يواجه كل منهما الآخر. هذا المنطق - في تصوري - غير دقيق. فليس ثمة ممارسة سياسية للسلطة دون مرجعية ثقافية ما؛ ببساطة لأن هذه الممارسة هي تكريس لمشروع ومصالح وغايات يجمعها في المحصلة ما نسميه بالإيديولوجيا؛ أي أنها ممارسة لتكريس وعي ثقافي معين. وفي الجهة الثانية ليس ثمة ممارسة ثقافية للمثقف مجردة من رؤية للعالم لها تصوراتها وتفسيراتها لحركة المجتمع والذات والقيم والعلاقات؛ أي ببساطة أيضًا لها أبعادها السياسية، إن لم نقل لها مشروعها السياسي الضمني. وهكذا فإن النظر إلى العلاقة بين المثقف والسلطة لا ينبغي له أن يتم من منظور (الجواهر المستقلة) أو (الماهيات المجردة)، وإنما من منظور المنطق التاريخي. وفي هذا السياق فإن التاريخ يطرح أمامنا تجارب وتمظهرات متغايرة ومتنوعة لهذه العلاقة. ولأن المثقفين لا يشكلون فئة اجتماعية متجانسة بالمعنى الدقيق للكلمة، فإنهم لا يسلكون مواقف متجانسة، أو يظهرون ردات فعل أو أفكارًا متطابقة. ولذلك كثيرًا ما نجد أن الواقع التاريخي يقدم لنا مواقف متفاوتة بتفاوت الوعي المعرفي للمثقف، أو بتفاوت وعيه الاجتماعي والسياسي.. الخ. ويضيف محسب: في هذا الإطار نجد أحيانًا اقترابًا يصل إلى حد التبني والتبرير في العلاقة بين السياسي وشريحة معينة من المثقفين، في الوقت الذي نجد فيه تعارضًا يصل إلى حد المعارضة في العلاقة نفسها مع شريحة أخرى مزامنة. إذن مسألة (حجر العثرة) هذه تكون واردة مع هذه الشريحة الثانية. وبطبيعة الحال فإن هذا الحجر تختلف نوعيته من سياق مجتمع إلى آخر. فعلى ضوء درجة العلاقات المنظمة للحوار ولحرية التعبير قد يكون هذا الحجر أداة لدق العنق، وقد يكون الحجة العلمية والدليل الأكثر إقناعًا وتحقيقًا للمصلحة العامة. د. المالكي: استخدام الثقافة وسيلة سياسية أقوى في المرحلة الحالية ويشارك الدكتور عبدالرحمن المالكي الأكاديمي بجامعة الملك عبدالله في القضية بقوله: إن معالجة موضوع المثقف بشكل عام ليس بالأمر الهين، فكلمة «مثقف» أو كلمة «ثقافة» تنطوي على الكثير من التعريفات على اعتبار أنهما متداخلتان في كثير من مجالات الفكر الإنساني، ومن ثم فإنني أتيح لنفسي أن أركز على الثقافة كهوية، وارتباطها بالسياسة كأفكار ونظم، ولعل هذا يؤكد على فكرتي التي تبنى عليها هذه المقالة ألا وهي «الثقافة وسيلة سياسية»؛ فالحضارات كلها أفرخت للبشرية أنواعًا ثقافية مختلفة يحمل كل نوع في داخل هوية الجماعات البشرية التي أنتجته، ومن ثم يرتبط بها وتوسم به. إذن فالثقافة هي غاية الأمم التي تحرص على بناء هيكل فكري معرفي خاص بها، تستطيع من خلاله السير وفق نظمها هي، ويؤكد هذا النموذج الأقرب لنا وهو الحضارة العربية الإسلامية. إذ إن إحساس الأمة الإسلامية الأولى بعظمة الدين الإسلامي جعلها تقطع شوطًا كبيرًا في إنتاج خميلة ثقافية ومعرفة مؤطرة حسب تعاليم الدين، وحسب النظام السياسي الذي فرضه الإسلام على البقعة العربية وغيرها من البقاع التي تبعث الدين الحنيف، فوسمت الحضارة العربية بأنها ذات طابع إسلامي. إذن كان الوصول إلى هذا الطابع الإسلامي للثقافة غاية في حد ذاته، وهذا ينطبق على باقي ثقافات البشرية، إذ إن جل الحضارات الإنسانية سعت إلى إنتاج طابع توسم به. ولا يقتصر الأمر على الخصوصية الثقافية للحضارات؛ بل يتعداه إلى نشر هذه الثقافة، لتخرج الثقافة من إطارها المحلي إلى إطار العالمية، ولا يكون نشر الثقافة فرضًا أو حدًا، بل يتعداه ليشمل الهيمنة والسيطرة على الأمم التي تملك أنماطًا ثقافية ضعيفة، أو تملك تراثًا ثقافيًا بائدًا، وعندئذ تخرج الثقافة من كونها غاية إلى كونها «وسيلة» وسيلة هيمنة وسيطرة. فالأمم صاحبة الثقافات القوية تبقى تفرض هيمنتها السياسية والاقتصادية والعسكرية على غيرها من الأمم التي أقل منها شأنًا ثقافيا، وهنا ترتبط الثقافة ارتباطًا وثيقًا بالأغراض السياسية. ويستطرد المالكي في حديثه بقوله: حقيقة ليس هذا هو أول ارتباطها بالسياسة، إذ أن نشأتها ترتبط ببعض الأهداف السياسية، لكن هذا الارتباط في هذه المرحلة وهي مرحلة استخدام الثقافة وسيلة سياسية هو الارتباط الأقوى والأعمق وهذا ما نلمسه على أرض الواقع من محاولات الغرب السابقة لتدخلهم العسكري في المنطقة العربية، فأوروبا المتمثلة في القوى الاستعمارية الكبرى، وأمريكا حاولتا بشكل قوي بث أنماط ثقافية مختلفة داخل المنطقة العربية وحتى تتغير أشكالها الثقافية، وبالفعل نجح هذا الغزو الثقافي في أداء مهامه، فأصبحنا كعرب نرتدي الأزياء الغربية، ونتذوق أشكالاً مختلفة مع الطعام الغربي، ونقرأ في الأدب الغربي، ونفضل اللغة الانجليزية أو الفرنسية باعتبارهما لغتا الثقافة والعلم، وبتنا نفر من اللغة العربية التي هي أساس هويتنا ولب جوهرنا. وهذا الفرار كان هدفًا رئيسا مقصودًا، فمتى تركنا الأساس الذي قامت عليه ثقافتنا، أصبحنا أكثر استقبالاً لأية أفكار سياسية واقتصادية واجتماعية تبثها فينا اللغات الأخرى. لذا لا عجب أن نرى دولة كأمريكا أو فرنسا أو انجلترا، تسعى إلى فرض هيمنتها علينا، وبالفعل نجحت بعض محاولات هذه الهيمنة. إذ باتت أمريكا كقوة عظمى ثقافيا وسياسيًا قادرة على استصدار أي قرار أو القيام بأي عمل تريده دون رادع أو وازع. وذلك لأنها استطاعت ترويض أذهاننا بما بثته قنواتها وأفلامها وكتبها. لكني في النهاية أحمل هما ثقافيا فرضه عليّ قلمي هذا الهم دومًا ما يردد: «لن تنهض أمة لا تحترم نفسها ثقافتها». ويختم المالكي قائلاً: أننا الآن أصبحنا لا نملك من حطام الحضارات سوى إرث ثقافي خلفته لنا حضارتنا العربية الإسلامية. هذا الإرث يجب علينا أن نركن إليه في ظل التيارات الاستعمارية المحلقة بنا، مع انفتاح على حضارات العالم الآخر، انفتاح ينبع من ثقتنا في أنفسنا وثقتنا في حضارتنا.