ميزة العقدين الأخيرين في الخطاب الثقافي العربي أنها كانت أشبه بحالة مراجعة، واختباراً للمناهج والطرائق، التي تصلح أو تفي بغرض النهضة المبتغاة للخروج من واقع الهزيمة العربية التي تعددت مسمياتها. لكن مراجعة حقبة التسعينات، والعشرية الأولى من الألفية الثالثة، تميزت بتخففها من الأيديولوجيا، فرسخت قناعة بأن المعضلة ليست في إحلال ثقافة ماركسية أو نزعة ليبرالية أو إحيائية إسلامية، ليحدث الحل، ومع أن شعار الإسلام هو الحل، ظل الأكثر جاذبية وإحراجاً للدولة العربية، إلا أن حالة الثقافة ظلت في مسارها القديم الذي نهضت بمراجعاته أصوات وأفكار تناوب المثقفون العرب فيها على نقد الثقافة العربية المعاصرة، منذ أواخر التسعينات من القرن العشرين. آنذاك، منهم من رآها منقسمة إلى حالة بيان وحالة وبرهان كما هو الحال عند محمد عابد الجابري، ومنهم من رآها ثقافة غربية أو متغربة واثبة وأخرى تقليدية محافظة، وهذه حال عبدالله العروي الذي يقسم الوطن العربي إلى شطرين: محافظ مغلق، ومنفتح واثب على الأفكار الغربية، وبرأيه فإن الشطر المحافظ «هو المتفوق الآن»؛ فالشطر المحافظ يربط هدف التحرر باستعمال المنطق التقليدي. ولكن أخطر ما في المنهج التقليدي عنده - وهو الذي انتصر على التقدمية العربية وجاء بالإسلاميين - يكمن في أن هذا التيار يمهد لمصالحة مع الغرب الرأسمالي. إذاً، ربط العروي بين الإسلاميين، وبين الغرب الرأسمالي، وإمكانية المصالحة بينهما، وفي محاولته لدراسة أسباب التدهور ومراجعة الراهن، يتساءل العروي: هل يمكن فصل الهزائم العربية عن الأنظمة التي كونت أرضيتها؟ فهو هنا لا يضع إخفاق الأيديولوجيا كنتيجة للتناقضات الأيديولوجية بقدر ما كانت الهزيمة نتيجة متوقعة لهشاشة الثقافة، وتراجع العقل، وتحول النخبة المثقفة إلى طبقة مستقلة متعالية على المجتمع ومتحكمة فيه. يقدم عبدالله العروي، مجموعة من التساؤلات حول المسار الثقافي الذي قاد الراهن العربي إلى واقعية أقل ما توصف به أنها – بحسب رأيه - كانت مثخنة بمراحل التدهور. فهو يقول: «لقد ضعفت هذه الحركة – يقصد الحركة التحررية - إن لم نقل مع بعض إنها انحرفت والكل يعرف مراحل التدهور: 1967 هزيمة نظام، 1970 هزيمة معركة، 1973 هزيمة سياسية». هذه الواقعية السياسية قادته للسؤال عن الواقع الثقافي العربي الذي نتج من ممارسة المجتمع العربي وعن الظروف القائمة في البلاد العربية، وهو حين يعيد مقدمته للطبعة الثانية من الكتاب، لا يخفي عتبه عن سوء الفهم الذي استقبل به العقل الثقافي العربي كتابه وبخاصة من قبل الكتاب الذين رأوا في دراسته للفكر التاريخي والايدولوجيا العربية المعاصرة دعوة صريحة لإحلال الليبرالية الرأسمالية في حياة المجتمع العربي، في مقابل بنية ومدرسة فكرية رسخت أقدامها في الثقافة باعتماد منهج التقليد للماضي. لا يخفي العروي عتاباً يواجه به المثقف العربي، فيقول في عتابه للمثقفين العرب: «قدمت هذا التحليل للوضع الثقافي حتى أبرهن على أني أدركه من ناحية البحث الموضوعي، لذلك أتعجب من بعض الردود على محتوى كتابي هذا، لم ير بعض القراء في الدعوة إلى تبني المنهج العلمي إلا تبريراً خفياً لليبرالية الاقتصادية والسياسية ولم ينظر إلى نقد السلفية ومفهوم الأصالة إلا من حيث إنه يضعف القوى المناوئة للاستعمار فوجهت إلى هذا الكتاب انتقادات في هذا المعنى...». منذ ما يزيد على ثلاثة عقود دأب العروي على نقد الأيديولوجيات العربية المعاصرة التي أدت إلى النكسة وقادت إليها، وتولى التنظير لمسألة الدولة الحديثة. وحاول أن ينظر لمعنى التاريخ في الثقافة العربية ومدى حضور العقلانية والموضوعية في الفكر العربي، وهو يجزم بأن العقل العربي لم يستوعب مكاسب العقل الحديث، لذلك نجد المثقف العربي في البلاد العربية مزدوج الشخصية، فهو يدعو لتطبيق المنهج الموضوعي من جهة على مجتمعه، ومن جهة ثانية يستخدم التقليد في تبرير كل ظاهرة، ومن هذا الواقع يحاول في دراسته للفكر التاريخي إماطة اللثام عن الواقع الثقافي للمجتمع العربي من باب الفكر المهيمن، والمنهج السائد أو الذي يحتكم إليه المجتمع. وهو حين يعاين الثقافة العربية في زمن النكسة وما بعدها يقرّ بأن الوضع العربي بمظاهره العامة ليس إلا وليداً للضغط الإمبريالي والعلاقات الطبقية؛ ومن هذه الزاوية يرى العروي أن كل وضع فكري مطابق للحالة الاجتماعية الناجم عنها، ويفيد بأن أي تغيير لا يتأتّى إلا في نطاق الصراع والممارسة. أما النقد الأوسع لديه فهو الذي يوجهه لفئات المثقفين العرب. فهو يرى أنهم عاشوا دوراً مزدوجاً؛ يتأثرون في الصراعات التي تمزق مجتمعهم ويقاسونها، لكنهم في الوقت نفسه يبدعون أو يقتبسون ويروجون الأفكار والرموز والشعارات التي تقدم للفئات الاجتماعية لكي تستخدمها للدفاع عن مصالحها. وهو يدعو إلى وجوب دراسة النخبة العربية من حيث المنهج المتحكم بها وبتفكيرها، ويحصرها بين منهجين الأول ميثولوجي والآخر موضوعي. وطبقاً لهذا التصنيف، يرى العروي أنه إذا تغلب المنهج الموضوعي تحصل ثورة كوبرنيكية (نسبة إلى كوبرنيكس مكتشف دوران الأرض حول الشمس) في حين يُبقي المنهج الميثولوجي المجتمع في مكانه، لا بل أنه يمعن كثيراً في التردي وهو منهج لا يترك للحداثة، أو بالأصحّ للجديد، وليس للحداثة فقط، سوى هامش ضيق وهزيل في إحداث وعي جديد. الدعوة إلى تحديث المجتمع العربي في رأي العروي كانت تتطلب «جيلاً أو جيلين»، أما الثورة الفكرية فإنها تمس المنهج لا الأهداف التي ستبقى لمدة طويلة شاخصة في النهار السياسي العربي، وهذه الأهداف هي تحقيق التنمية والديموقراطية والاشتراكية والوحدة. ومع صعوبة الإقرار باستمرار هدف الوحدة حاضراً، إلا أنه بالوسع القبول بفكرة انتشاء الديموقراطية في الراهن العربي وتطور المجتمع العربي باتجاهها في شكل بطيء، أما إذا انتصر المنهج التقليدي في حياة المجتمع العربي فإنه سيلجأ إلى الماضي لإنجاز إصلاحات الحاضر، ومثل هذا اللجوء إلى منهج الماضي يمنع فهم إنجازات العصر الحديث التي ضمنت كلمات حرية ومساواة وكرامة مفهوماً موضوعيّاً، وبانعدام الإدراك تتقدم إمكانية الإنجاز الفعلي. يتساءل العروي عن النتائج التي أدى إليها استخدام المنهج التقليدي الذي يخضع الحاضر للماضي، فيقول: «لا يكفي أن يقال بأن علي عبد الرازق مثلاً قد قضى على دعوة الخلافة وأبرز شرعية النظام الوطني التمثيلي في مصر عندما ألّف «الإسلام وأصول الحكم»، هل كان يمهد أم لا الطريق لحركة الإخوان المسلمين باستعماله منهجاً انتهازياً انتقائياً في تعامله مع معطيات التاريخ الإسلامي». في عام 1965، كتب العروي في كتابه الأيديولوجيا العربية المعاصرة: «إن العرب يتساءلون منذ زمن طويل: من نحن ومن الغير؟ وحسب أي منطق نحلل الماضي والحاضر ونخطط للمستقبل، ولو حررت الكتاب بعد سنة 1967 لغيرت الصيغ مع الإبقاء على المضمون ولأصبحت الأسئلة ما هو تجديد الاستعمار؟ وما هي الثورة؟ وما هو واقع أو سر المجتمع المتخلف؟ هل هو آلة ناقصة أم ماضٍ نافذ أم مستقبل غير مستحقر؟ ولماذا التملق والادعاء؟ هل الرؤساء كلهم خونة، أم هناك واقع غير ثابت». * كاتب أردني