تدرك الشابة الكردية بيخال، أنها قد لا ترى ربيع العام المقبل. فسرطان الدم النخاعي الذي ينهش جسدها منذ أن تلقت دواء كيماوياً فاسداً في إحدى مستشفيات إقليم كردستان العراق سيقتلها. بيخال ذات ال25 سنة، كانت وسط ساحة الدار، حين كان والدها الحاج صالح يروي لكاتب التحقيق قصتها مع الأدوية الفاسدة التي أطاحت بفرصتها في الشفاء من المرض المميت. فبعد أيام قلائل من تعاطيها للدواء «داخل مستشفى حكومي»، أبلغه الأطباء بأن شفائها في كردستان «بات مستحيلاً». اقتنع والد بيخال أخيراً، بعد أن يئس من تجريم المقصرين على رغم تردده إلى المحاكم، بأن محاربة «الديناصورات» أو تجار الأدوية الفاسدة الذين تحميهم سطوة المال والسلطة في كردستان العراق، لا طائل منها. وها هو الآن يخطط لبيع منزله الصغير كي يسافر نهاية العام إلى الهند مع بيخال، بحثاً عن «فرصة أخيرة» لإنقاذ ابنته الوحيدة. تتذكر نوروز صالح التي تعرضت لتشوهات كبيرة في وجهها وحنجرتها منذ خريف العام الماضي بسبب حقنها ب «حقنة فاسدة»، أنها لم تكن تعاني قبل تلقيها الحقنة القاتلة سوى بعض الالتهابات البسيطة في القصبة الهوائية، تحولت بين ليلة وضحاها إلى مرض فتاك. تماماً مثل آية عبد الكريم التي ما زالت حبيسة منزلها على رغم مرور عامين على تلقيها هي الأخرى «حقنة فاسدة» أفقدتها القدرة على تحريك ساقها اليمنى، وكادت تودي بحياتها لولا أن حياة ثانية كتبت لها بعد سبعة أيام قضتها في غرفة الإنعاش وهي «شبه ميتة». نجت آية من الموت بأعجوبة، ونجت سوزان كمال (32 سنة) هي الأخرى من الموت بعد أن نجح الأطباء في إنقاذها من مضاعفات «حقنة فاسدة» أخرى حُقنت بها لعلاج «التهاب بسيط في الأسنان». بخلاف بيخال، نوروز وآية وسوزان، لم تمهل الحقنة القاتلة الشاب سربست جعفر (18 سنة) الذي توفي في 15 تموز (يوليو) الماضي بسبب حقنة ceftriaxone، ولا السيدة كزاو عبد الباقي (40 سنة) التي توفيت بسبب حقنها بذات الحقنة في 30 حزيران (يونيو) الماضي، ولا أيضاً، معصومة بيرو التي توفيت في 3 آب (أغسطس) بسبب حقنها بال cefotaxiK، وهي من ذات عائلة الحقن التي قتلت سربست وكزاو. الحقيقة المرة هنا كما يقول الدكتور سلام طيب، اختصاصي السرطان في مستشفى اربيل العام، هي أن هذه الحقن أدرجت في قائمة الحظر التي أصدرتها وزارة الصحة المركزية في بغداد مطلع حزيران الماضي، ووزعت في كتاب رسمي على المؤسسات الصحية في كل أنحاء العراق، لكنها بقيت تفتك بالأبرياء بصمت من دون أن تتمكن المنظومة الصحية في كردستان التي تتجاوز موازنتها السنوية 446 مليون دولار أميركي، من الحد منها. معمل «إنتاج الموت» حجم الأدوية الفاسدة والمغشوشة التي دخلت إقليم كردستان العراق خلال السنوات الماضية، يقدرها وزير الصحة السابق طاهر هورامي ب18 في المئة من مجموع الأدوية المتداولة في كردستان. وهذا ما تعترف به نائبة رئيس لجنة الصحة والبيئة في برلمان كردستان، هاوراز شيخ أحمد، فالأدوية المغشوشة والفاسدة كما تقول شيخ أحمد: «تنتشر في كل مكان في كردستان، وهي تدخل إلى الإقليم عبر كل المنافذ، ويحتكرها تجار لا أحد بإمكانه أن يوقفهم، لأنهم باختصار، مدعومون من قبل ساسة متنفذين في الإقليم». يدعم ما تذهب إليه شيخ أحمد، اعتراف وزارة الصحة الكردستانية في آذار (مارس) الماضي بأن معملاً «غير مرخص» تم اكتشافه في مدينة اربيل، عثر فيه على ثلاثة أطنان من مواد كيماوية خطيرة تم تهريبها إلى داخل كردستان لاستخدامها في صنع أدوية مقلدة غير صالحة للاستعمال، كانت توضع في أغلفة دواء سورية وهندية وتباع في الصيدليات على أنها «أدوية مستوردة من مناشئ عالمية»، وبأسعار يصل بعضها إلى 50 دولاراً للعلبة الواحدة. قضية هذا المعمل «غير المرخص» الذي أنتج الآلاف من علب الدواء الفاسدة تعاطاها في ما بعد الآلاف من مواطني كردستان، من دون أن يتجرأ أحد على الضغط لكشف خفاياها، تماماً مثل فضيحة تصريف 2500 علبة من حقن الأنسولين إلى المستشفيات والصيدليات بكتب رسمية صادرة من قبل وزارة الصحة الكردستانية، قبل أن تكشف الفحوصات أنها «أدوية فاسدة». التحقيق الذي أجري مع 27 شخصاً يعتقد أن لهم صلة بالقضية، بمن فيهم مسؤولون في وزارة الصحة، انتهى بتوجيه عقوبة «توبيخ» للمتورطين، كما يكشف برلماني كردستاني طلب عدم الكشف عن هويته لحساسية القضية في الوقت الحاضر. يؤكد مدير معبر باشماغ، سيروان عبدالله، أن مسلسل تهريب الأدوية المغشوشة والتالفة مستمر. فالإجراءات المتبعة تقضي بمطابقة الأوراق التي يقدمها التاجر والتأكد من صحة صدورها من وزارة الصحة، ثم أخذ عينات من هذه الأدوية وإرسالها إلى مديرية القياس الكردستانية، على أن يتم السماح للشركة المستوردة بإدخال البضاعة إلى مخازنها ريثما تكتمل إجراءات الفحص. غير ذلك، كما يقول عبد الله، قد يحدث أن يشك المراقبون في المعبر بشحنات معينة من الأدوية فيعمدون إلى التحفظ عليها لحين ورود نتيجة الفحص من الدائرة. ويكشف عبد الله أن المعبر يتحفظ الآن على 47 طناً من الأدوية التي لن يسمح بعبورها إلى كردستان ما لم يتم التأكد من وضعها القانوني، بالإضافة إلى التحفظ على ستة أطنان أخرى ثبت أنها منتهية الصلاحية، فيما دلت الفحوصات إلى أن 40 صندوقاً من الأدوية التي تم التحفظ عليها أيضاً، هي أدوية فاسدة. في آذار (مارس) 2012، أي بعد نحو عام من العمل المتواصل، اعترفت لجنة الإصلاحات بدخول كميات كبيرة من الأدوية الفاسدة والمغشوشة، وقدر التقرير حجم الأدوية التي لم تخضع للفحوصات، بما نسبته 90 في المئة من الأدوية المتداولة في كردستان. هذه الأرقام الكبيرة، تذكر مواطني كردستان بتفاصيل فضيحة تمرير 400 طن من الأدوية المغشوشة والفاسدة إلى داخل الإقليم من أحد المعابر الحدودية في شتاء عام 2010. فالصفقة التي دخلت على أثرها 20 شاحنة محملة بالأدوية الفاسدة والمغشوشة، عقدها مسؤول كبير في المعبر مع أصحاب الشركتين اللتين استوردتا هذه الأدوية الفتاكة، كما يكشف مسؤول حكومي كان يعمل يومها ضمن طاقم المعبر الحدودي. لا أحد يعرف حتى الآن، أين ذهبت هذه الأدوية، ولا حجم الضحايا الذين فتكت بهم، ولكن القضية انتهت كما يعرف الكثيرون هنا في كردستان، بنقل المسؤول المتورط إلى وظيفة أخرى. وزارة الصحة تعترف تنفي وزارة الصحة أن تكون الأرقام التي طرحتها لجنة الإصلاحات «واقعية»، لكنها في المقابل لا تقدم رقماً، ولو بشكل تقريبي، لحجم الأدوية التي دخلت كردستان من دون خضوعها للرقابة. ويكرر رئيس قسم الأدوية في مديرية السيطرة النوعية بمدينة أربيل، روزكار حميد، ما قاله المتحدث باسم وزارة الصحة حول «قلة الكوادر، وندرة الأجهزة اللازمة لفحص الأدوية الداخلة إلى الإقليم». حميد يقول أن الإجراءات تقضي بأن على موردي الأدوية الانتظار لفترات طويلة قبل أن تظهر نتائج الفحوصات، وقد يستغرق فحص نموذج الدواء الواحد ثلاثة أشهر كمعدل تقريبي. لا أحد ينتظر لكن لا أحد بإمكانه أن ينتظر ريثما تكتمل إجراءات الفحص المطولة في المديرية، لا مرضى الإقليم الكردي الذي يتجاوز عدد سكانه الخمسة ملايين نسمة، ولا تجار الأدوية، كما يقول التاجر أبو أيوب الذي وضع ثروته في صفقة أدوية لأمراض الضغط والسكري ما زالت قابعة في المخازن بانتظار ظهور نتائج الفحص، منذ أكثر من شهرين. 14 صيدلانياً فقط يقر مسؤول السيطرة النوعية روزكار حميد بأن عدد الصيدلانيين الذي يعملون على فحص عينات الأدوية المستوردة، لا يتجاوز ال 14 صيدلانياً فقط، وخبرة هؤلاء «محدودة لا تتجاوز بضع سنوات من العمل». ولكن مهمتهم تتطلب فحص كميات ضخمة من الأدوية. لهذا، يرى حميد أن من الممكن، نظرياً، أن يقوم عدد من التجار فعلاً بتسويق بضاعتهم قبل انتهاء عملية الفحص. ضعف الكوادر الطبية، وعدم وجود أجهزة كافية لمتابعة عملية الفحص كما تقول وزارة الصحة الكردستانية ، لا تتناسب مطلقاً، كما يعتقد الناشط المدني أحمد بيرة، مع الموازنة الهائلة التي تتلقاها حكومة إقليم كردستان من خزينة الدولة في بغداد (قرابة 12 بليون عام 2012 فقط)، بالإضافة إلى الموارد المتحصلة من عقود النفط التي وقعتها حكومة كردستان ومنافع الاستثمارات الأجنبية الضخمة التي ترد إلى الإقليم. وقياسا إلى حجم التوظيف الحكومي والبالغ مليون و350 ألف موظف حكومي وعنصر أمني من بين عدد سكان كردستان البالغ 5 ملايين نسمة، يمثل وجود 14 صيدلانياً فقط لفحص آلاف الأطنان من الأدوية المستوردة لتغطية احتياجات هذا العدد من السكان، «جريمة» كما يقول بيرة. يسند ما ذهب إليه بيرة، ما يؤكده عضو برلمان كردستان برهان رشيد، فهو يقول إن عمليات فحص الأدوية في كردستان «فاشلة»، والعمل الذي تقوم به مديرية السيطرة النوعية «سيء جداً»، فكردستان صارت الآن «محطة لبيع كل ما هو سيء النوعية وفاقد للصلاحية». خلل في النظام هناك كارثة إضافية تشير إليها بوضوح المعلومات التي يدلي بها نقيب صيادلة كردستان، فهناك 320 صيدلية و57 مخزناً فقط يمتلكون إجازات رسمية، مقابل أكثر من 4 آلاف صيدلية ومخزناً وعيادة شعبية غير مرخصة تقوم بتصريف الجزء الأكبر من الأدوية المستوردة. وهذه الأرقام تعني، أن عدد الصيدليات والمخازن المرخصة لا يتجاوز 9 في المئة من عدد الصيدليات التي تغص بها مدن إقليم كردستان. وهذا يعني أيضاً أن 91 في المئة من الصيدليات ومنافذ البيع، لا تصل إليها قوائم إتلاف الأدوية الفاسدة والمغشوشة التي تصدرها وزارة الصحة. أدوية «حسب الطلب» نقيب صيادلة كردستان، يعترف بحاجة إقليم كردستان إلى تصحيح الإجراءات الخاصة باستيراد وتوزيع الأدوية، وأهم الإجراءات التي ستكون ناجعة، حسبما يراه، هو حصر استيراد الأدوية بالمتخصصين، إذ أن الكثير من أصحاب الشركات لا علاقة لهم بمهنة الصيدلة ولا بعالم الأدوية. بخلاف شيت، يرى تاجر الأدوية غريب سعد الله، أن الأمر يتعلق أساسا بنظام فحص الأدوية المستوردة، وليس بمن يستوردها. فسواء كان من يشتري الأدوية صيدلانياً أم لا، سيكون الحكم على جودة الأدوية في النهاية هي نتائج الفحوصات التي تجريها السلطات المختصة، وليس «ضمير التاجر». يكشف سعد الله أن بوسع أي تاجر أدوية أن يسافر إلى الهند أو الصين أو إيران ويختار أي نوع من أنواع الأدوية التي تحقق له الربح الوفير. ففي هذه البلدان، تعرض شركات الأدوية على التجار خيارات متعددة للنسب التي تحويها الأدوية من المواد الفعالة، مقابل أسعار تنخفض مع انخفاض هذه النسب. وبوسع التاجر «سواء كان صيدلانياً أم لا»، كما يقول سعد الله، أن يتفق مع الشركة المنتجة للأدوية على منتجات تحوي نسب منخفضة من المواد الفعالة قد تصل إلى 1 في المئة فقط. وهنا بالضبط، كما يقول سعد الله، «تكون الأرباح التي يسيل لها لعاب التجار». وجود شركات متنفذة تتشارك مع مسؤولين كبار، يؤكده مريوان كريم، وهو صاحب شركة أدوية يفكر جدياً في ترك تجارة الأدوية منذ زمن، فهو يشير إلى أن هناك شركات «متنفذة» تبيع أدويتها بعد دخولها إلى الإقليم مباشرة، فيما يجب على الشركات غير «المسنودة» أن تنتظر أشهراً طويلة، وربما عاماً كاملاً للحصول على نتائج الفحوصات ثم البدء بعملية التسويق. كريم يعتقد أن الهدف من تأخير الفحوصات وإرغام الشركات على الاحتفاظ ببضائعها في المخازن، هو «سد الطريق أمام الشركات غير التابعة للمسؤولين المتنفذين، وإجبارها على الانسحاب من المنافسة». ويؤكد تقرير لجنة الإصلاحات الكردستانية ما يذهب إليه كريم، فهو يتحدث عن وجود ثلاثة مسؤولين كبار «لم يسمهم التقرير»، يقفون خلف ظاهرة استيراد الأدوية المغشوشة والفاسدة. الشيء ذاته يؤكده النائب رشيد، فهو يحمل الأحزاب الكردستانية الكبيرة مسؤولية ما يجري من تجاوزات في مجال تجارة الأدوية لأنها «تسيطر على غالبية الأعمال التجارية في كردستان، وبضمنها تجارة الأدوية». بانتظار تفعيل «مبدأ المحاسبة» تشير المادة 50 من قانون الصيادلة في كردستان، إلى أن عقوبة تعريض حياة إنسان بسبب الإهمال في مجال الأدوية، تصل إلى السجن 3 سنوات. لكن وجود أربعة آلاف صيدلية غير مرخصة في إقليم كردستان، يجعل من المستحيل الإحاطة بشكل كامل بتفاصيل عملية متابعة تسويق الأدوية، أو ضبط المخالفين. وقد لا تمثل المسؤولية التي تقع على عاتق أصحاب الصيدليات أو العيادات الشعبية، إلا جزءاً يكاد لا يرى من حجم المسؤولية التي يتحملها «حيتان الأدوية الكبار»، كما يقول الصحافي الناشط محمد، فالصيادلة في النهاية ليسوا أكثر من «ضحايا للخلل الكبير في النظام الصحي في كردستان». التحقيقات التي أجريت حول مخالفات الكبرى، مثل تهريب الأدوية المغشوشة أو صناعة أدوية مقلدة داخل المدن، ومن دون ترخيص، لم تسفر عن إجراءات حقيقية رادعة. يضيف محمد مستشهداً بالإجراءات التي تحدث عنها تقرير لجنة الإصلاح الكردستانية. تؤكد النائبة شيخ أحمد، أن أياً من المسؤولين الفعليين عن إبادة مواطني كردستان بالأدوية الفاسدة «لم يقدم للقضاء أو يتعرض للمحاسبة مطلقاً»، تشير شيخ أحمد في هذا السياق إلى أن معمل الأدوية الذي تم اكتشافه في مدينة أربيل وأعلن حينها أنه يقوم بصناعة أدوية مغشوشة، قد يعود مجدداً إلى العمل بناء على محاولات يقوم بها البعض، ولكن تحت اسم جديد. * انجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج) وبأشراف محمد الربيعي وسامان نوح.