حرب ضروس تدور رحاها في كل ركن في مصر يحتمل التفكير والنقاش والجدل، إذ وجد المصريون أنفسهم منجذبين بعيداً من العراك الفكري اليومي، النابع من حراكهم المادي الناجم عن انقطاع الكهرباء وتوقف المياه وانتشار البلطجة وذيوع فوضى المرور ونقص الوقود... ومنغمسين تماماً في غزة. ورغم أن المصريين غارقون منذ عقود في ملف الأزمة الفلسطينية ومنغمسون منذ سنوات في أزمة الحصار المفروض على غزة، إلا أنهم وجدوا أنفسهم يغوصون في مشاكل غزة من دون سابق إنذار. التقارب المصري-الغزاوي الحادث منذ تولي الرئيس محمد مرسي مقاليد الرئاسة، ألقى بظلاله على واقع الحياة اليومية في مصر، الرازحة تحت ضغوط ومشاكل يومية خانقة، ففي وقت يعاني فيه ملايين المصريين انقطاعَ التيار الكهربائي، فوجئوا بأن الرئيس اتفق مع رئيس حكومة «حماس» في قطاع غزة إسماعيل هنية على إنهاء أزمة الكهرباء في غزة على ثلاث مراحل، على أن يبدأ تنفيذها فوراً. وإذا كان من الطبيعي أن ينقسم المصريون إلى مؤيد ومعارض للدكتور مرسي وسياساته، إلا أن ما لم يكن في الحسبان أن تكون غزة عاملاً من عوامل السخط أو الرضا على سياساته، بعدما ظنت الغالبية أنه سيكون غارقاً وفريقه في حل الأزمات الداخلية العاتية، فإذ به يبادر إلى حل الأزمات الداخلية العاتية، لكن... في غزة. بعضهم حاول الإمساك بالعصا من المنتصف، فالمصريون -بغض النظر عن الأنظمة السياسية- متضامنون مع غزة على طول الخط، لكن هذا لا يعني أن يتم تجاهل المشاكل الخانقة المصرية من أجل حل مشاكل غزة. كثيرون يرفعون شعار «ما يحتاجه بيتك يحرم على الجامع»، لا سيما في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية والخدمية المتدنية التي يعاني منها المصريون. أولئك يرفعون شعار «مصر وغزة يد واحدة، لكن الأولوية لأهل البلد». آخرون يدافعون دفاعاً شرساً عن أي قرار يتخذه الرئيس أو مكتب الإرشاد في جماعة «الإخوان المسلمين» حتى وإن كان وضْعَ غزة على رأس قائمة الأولويات وتقديمَها على الملفات المصرية، فهم يؤكدون، عبر مئات التغريدات والمشاركات العنكبوتية، أن الخطوات التي يتخذها مرسي ومكتب الإرشاد تجاه غزة صحيحة مئة في المئة، وهم في ذلك يتراوحون بين الترغيب والترهيب، فيذكرون بأن «دعم غزة واجب وطني وإسلامي وحفاظ على الأمن القومي المصري، شئتم أم أبيتم»، ثم يَصِمُون مَن ينتقدون دعم مرسي لغزة بالوقود بأنهم «مغيبون، لأنهم يعتقدون أن في إمكاننا أن نعيش وحدنا». وهناك مَن مَالَ إلى الترغيب، عبر نداءات ل «المصريين المعارضين تقديمَ المساعدات لغزة، ألاّ يخلطوا بين معارضتهم الإخوان ومرسي من جهة، وبين موقفهم من إخوانهم في غزة والذين هم في أمس الحاجة إلى المساعدة». أما الفريق الثالث، فهو ذلك الذي فشل في سياسة الإمساك بالعصا من المنتصف، ولم ير سوى انغماسه في مشاكل آخذة في التفاقم من دون بادرة حل منطقي. ويبدو أن أولئك فهموا برنامج الرئيس في حل المشاكل اليومية في ضوء ما يتم التصريح به من العودة إلى المروحة الخوص (وسيلة تهوية بدائية) وقطع الكهرباء اختيارياً لمدة ساعة يومياً، والمشاركة بمكنسة ودلو لتنظيف الوطن، وتطبيق العدالة الاجتماعية بالحب... وغيرها من الخطوات التي لم تصاحبها سياسات وحلول منطقية بعد. وتداول الفريق الغاضب دعوات إلى عدم سداد فواتير الكهرباء، المقطوعة أصلاً، طالما يتم تصديرها إلى الغير. ويقول منشور يتم تداوله على «فايسبوك»: «لا تسدد فاتورة الكهرباء، لأنك لست مواطناً درجة ثالثة. تنقطع عنك الكهرباء وتزيد أسعارها وتذهب إلى غزة مدعمة. تسدد رسوم نظافة وتعيش وسط أطنان من القمامة. أطفالنا يموتون في المستشفيات التي تنقطع عنها الكهرباء. مصانع وشركات تخسر البلايين بسبب انقطاع التيار. رئيسك يطلب منك ألا تشغل المروحة والغسالة والثلاجة، وكل ذلك من أجل إنارة غزة. نموت نموت وتحيا غزة». دعوة أخرى وجّهها أحدهم عبر «تغريدة» موجَّهة إلى الرئيس مرسي ليجول في أرجاء مصر ويرى بنفسه أن عائلات مصرية كثيرة تعيش في أوضاع أسوأ بكثير من تلك التي يعيش فيها أهل غزة. ومال البعض إلى الفكاهة حتى في أكثر الظروف ظلاماً وانقطاعاً للكهرباء، فبشر أحدهم بأن «إسرائيل والأردن منورون بغاز مصر، والأردن منورة بكهرباء مصر، وغزة منورة بسولار مصر، وسيارات غزة منورة بوقود مصر، أما مصر فمنورة بأهلها»، فيما نشر شخص مستاء صورة لرجل يبيع مواقيد تعمل بالكيروسين وعلق عليها بأنها الشحنة الهدية التي وصلت لإنارة مصر هدية من أهل غزة لشكر المصريين على الكهرباء التي أرسلوها إليهم. وتوقع آخر أن يتم إقراض الأهرامات الثلاثة لغزة من أجل تنشيط السياحة هناك. وترددت أنباء عن أن «أحد سكان غزة طلب سندويتش شاورما دجاج ولم يصل بعد، وسيتظلم أمام القصر الرئاسي في مصر الجديدة». لكن الأكثر مدعاة للقلق هو أن «شكاوى المواطنين في غزة تتزايد من بطء أداء الرئيس الجديد واستمرار مشاكلهم رغم مرور ما يزيد على ثلاثة أسابيع على توليه الرئاسة». لكن حين تعود التغريدات والمشاركات العنكبوتية إلى مصر، تفاجئ بانقطاعها وبرسالة مقتضبة تقول: «حان الآن موعد قطع الكهرباء حسب التوقيت المحلي لمشروع النهضة»، وهو اسم البرنامج الانتخابي للرئيس وجماعته.