للسنة الثالثة عشرة، يقدم مهرجان الحكاية والمونودراما ذلك المزيج الفريد من الحكايات والقصص الممزوجة بين الواقع والخيال يرويها أشخاص يتوقون إلى سرد ما عندهم متوجهين إلى جمهور يتوق للسفر في حكايا يسمعها، تضحكه حيناً وتؤثر به أحياناً. «حكواتيون» من مختلف أنحاء العالم اجتمعوا في مهرجان واحد كي يرووا ما عندهم، كي يرووا غليلهم، كي يرووا عطش المستمعين. من لبنان، فرنسا، اليونان، فنزويلا، وبوركينا فاسو، رجال ونساء من أعمار مختلفة شاركوا في المهرجان فشاركوا الحاضرين في أخبارهم على مدى خمسة أيام. صحيح أن المهرجان لم يضم سوى فن الحكاية ولكن كلمة «مونودراما» مازالت حاضرة في العنوان، لأن المنظمين أرادوا الحفاظ على العنوان نفسه الذي بدأ به. المدير الفني في المهرجان جهاد درويش أجاب على السؤال حول الجو العام الذي لاحظه خلال تلك الأيام الحافلة بالحكايات قائلاً: «هذه السنة كانت مميزة بالمشاركة الواسعة من لبنان بعدما كان يقتصر أحياناً على شخص واحد هو أنا، كما تميزت بالتنوع والغِنى بحيث تمكن الجمهور من التمتع بكافة أنواع الروايات والحكايات من تقليدية إلى معاصرة، من مختلف الثقافات والحضارات». ويشير درويش إلى جانب خفي في المهرجان قليلاً ما يتم الحديث عنه لأنه غير ظاهر بشكل مباشر على المسرح هو جانب الحلقات التي يديرها الحكواتيون في المدارس والمراكز الثقافية والمكتبات في مختلف المناطق اللبنانية مثل بيروت وصور وزحلة وبعلبك وطرابلس حيث يلتقون بأعداد كبيرة من الطلاب ومن الشبان والشابات. مواضيع حكواتية خمسة أيام تتحول كل عام في هذا المهرجان إلى ملتقى حضارات ومساحة يتعارف فيها الحكواتيون بعضهم على بعض كما يتعارف أفراد الجمهور الحاضر على بعضهم. اللافت، بحسب ما يعبر جهاد درويش، هو أن المواضيع التي يتطرق إليها الحكواتيون هي مواضيع أساسية وإنسانية تعني الجميع، لذلك فحين يخبر واحد حكاية ما تجد آخراً من بلد مختلف يتذكر حكاية مشابهة سمعها أو صادفها في بلده. «طبيعة اللقاءات حول الحكاية تفتح أفقاً واسعاً، فتلاحظ مثلاً كيف أن موضوعاً واحداً يعالجه كل شخص من زاويته الخاصة بنظرة فريدة وبطريقة مميزة». إلى أي درجة يمكن اعتبار أن فن الحكاية مازال مطلوباً، وأن الحكواتي مازال حاضراً في زحمة وسائل اللهو وفي ثورة التكنولوجيا والإنترنت؟ يقول درويش إن في كل مرة يعيش المجتمع تغيراً كبيراً تواجه الحكاية مع الأدب بشكل عام أزمات غير سهلة سرعان ما تعرف كيف تخرج منها لتجد مكاناً لها. «المفاجأة التي لم يتوقعها كثيرون هي أن فن الحكاية الشفوية عادت بزخم رغم ثورة الإنترنت ورغم التكنولوجيا التي تسمح للمرء بأن يتواصل مع كل العالم وهو جالس في غرفته» يقول جهاد. حين نسأله عن سبب هذا الاهتمام بالحكواتي يقول إن الناس اشتاقوا إلى التواصل المباشر وجهاً لوجه بعدما صار التواصل يتم عبر الشاشات، واشتاقوا إلى اللقاء الحي مع أشخاص حقيقيين بعدما صارت اللقاءات غير حسية وبالتالي شبه وهمية. ويشير إلى أن ظاهرة عودة الحكاية إلى سابق مجدها ترافقت مع دخول «الحكواتيات» إلى هذا المجال بعدما كان فن إخبار الحكاية حكراً على الرجال فحسب. القلب والعقل يؤكد جهاد درويش أن لا خوف على فن الحكاية أو على الحكواتيين من الاختفاء باعتبار أن الحكاية تتوجه إلى أعمق ما في الإنسان من إنسانية، وهي تحاكي القلب والعاطفة أكثر مما تحاكي العقل بشكل مباشر فتعود به إلى براءة طفولته، لذلك ما دام الإنسان إنساناً فسوف يجد نفسه مشدوداً إلى هذا النوع من الفن. أما ميزة الحكاية التي تعطيها أهمية كبيرة تمنعها من الاندثار، فهي أنها تجمع بين المتعة والإفادة، على حد ما يقول درويش، فإذا سمعها الطفل اكتسب منها على قدر حاجته، وكذلك إذا سمعها الشاب أو الرجل أو حتى الكهل والعجوز. «الحكاية تترك لسامعها حرية أن يأخذ منها ما يحتاج إليه في اللحظة التي يسمعها فيها، لكنها تبقى ساكنة في داخله مستعدة لأن تعطيه إفادة جديدة في وقت آخر» يقول جهاد، قبل أن يتابع شارحاً هذه الفكرة: «الحكاية نفسها تسمعها اليوم فتكتسب منها فكرةً معينة، ثم تسمعها أو تتذكرها بعد عشر سنوات فتستقي منها فكرة أخرى تتناسب مع ما تكون قد وصلت إليه من منطق ورأي وإحساس». غياب الحكاية من المجتمع سيسبب، بحسب درويش، خللاً واضحاً. «يمكن الإنسان أن ينمو من دون موسيقى وأدب ومسرح وسينما وفن وقراءة، ولكن هل يكون نموه كاملاً؟ هل يكون مشابهاً لنمو شخص استفاد من كل تلك العناصر؟ قطعاً لا! والأمر ينطبق أيضاً على شخص لم يذق طعم الحكاية» يقول. أما العدو الأول للحكاية فليس الصمت، كما يمكن البعض أن يظنوا انطلاقاً من أن فن إخبار الحكاية شفوي يعتمد على الكلام، فجهاد درويش يرى أن عدو الحكاية هو الثرثرة! «الحكواتي الجيد هو الشخص الذي لا يتفوه بكلمة لا حاجة لها، ولا يقول جملتين إن كان المعنى يصل في جملة واحدة، فكل كلمة يجب أن تكون في مكانها، لذلك تجد بعض الحكواتيين، كي يحضروا حكاية شفوية من خمس دقائق، يستغرق الأمر معهم أسابيع أو حتى أشهراً»! ما الذي يميز الحكاية من المونودراما؟ وهل يمكن أن يُدمجا؟ يجيب درويش أن الحكاية يقدمها شخص بصفته شاهداً على الحوادث التي يرويها، وكأنه يقول: «أنتم أيها المشاهدون لم تكونوا هناك، أما أنا فكنت وسوف أخبركم ما حدث»، أما المونودراما فيقدمها ممثل يستفيد من كل عناصر المسرح من إضاءة وصوت وديكور وملابس، ويكون عليه أن يلبس الشخصية التي يؤديها كي يتمكن من تجسيدها. «يمكن أحياناً أن يدخل الحكواتي إلى القصة التي يرويها فيتقمص شخصية معينة لكنه سرعان ما يخرج منها ليعود إلى موقعه الأساسي في سرد الحكاية من موقع الشاهد». في الختام، يركز جهاد درويش على فكرة أن المهرجان هو جزء مما يُسمى «مدرسة الحكاية» التي تنظم دورات تعليم فن الحكاية للشباب وتهتم بجمع الحكايات وسائر التراث الشفوي. انطلاقاً من سعيه إلى تطوير فن الحكاية يدعو درويش كل شخص إلى تدوين ما يسمعه من تراث شفوي، أكان أدباً أو شعراً، حتى لو لم يكن التدوين يتم بطريقة علمية، لأن المهم في هذه المرحلة هو محاولة إنقاذ ذلك التراث الذي يختفي شيئاً فشيئاً عندنا. وينهي كلامه بنبرة لا تخلو من الحزن: «لا يجوز أن نجد الغربيين مهتمين بتراثنا أكثر منا! هم يأتون من بلادهم البعيدة للبحث عن كنوز تراثنا ونحن غير واعين لما نملك من كنوز آن لنا التوقف عن التفريط بها».