من كان متابعاً لمسيرة مجلة «الطريق» اللبنانية، لا بد من أنه أصيب ببعض الإحباط يوم أعلنت «الطريق» نفسها في حضرة الغياب في عددها الأخير الذي صدر عام 2003. واليوم، وبعد ثماني سنوات على غيابها، فاجأت قراءها والباحثين عن فكر نقدي وأفق تنويري بالعودة مجدداً، متزامنةً مع الانتفاضات العربية. هنا، ووفقاً للحدث الهائل الذي زلزل عالمنا العربي، قد يبدو غياب «الطريق» ضرورياً قبل سنوات، وربما كان في توقفها ضرورةٌ تجنّبها أخطار الوقوع في فخ الرتابة والتكرار الممل لبعض الملفات والكتابات، كما أن من شأن الربيع العربي الذي بدأت براعمه بالتفتح أن يكون حافزاً لمجلةٍ حافظَ ورثة أنطون تابت على اسمها الذي يفترض أن يكون معيناً في رسم «طريق» التحرر الطويل من نير هذا الاستبداد العربي ومفرزاته، يشهد على ذلك الملف الممتاز الذي احتضنته صفحات العدد الأول من المجلة وحمل عنوان «في خصوصية ثورتي تونس ومصر والانتفاضات الشعبية». ولما كان القول والمحور قد خصا تونس مصر وانتفاضات غيرها، فهذا كان سيثير بداهةً لدى كاتب سوري كحال كاتب هذه السطور تتعلق بالقلق من تكرار معزوفة يسارية ترددها جوقة اليسار الشعبوي الممانع كثيراً هذه الأيام، بخاصة أن هذا المحور قد عنون مجلة يسارية اتخذت الماركسية منهجاً فكرياً لها. فشريحة كبيرة من اليساريين اللبنانيين والسوريين، الشيوعيين خصوصاً من الموالين لنظام الاستبداد في سورية لا يجدون حرجاً في الانتصار لانتفاضة الشعب المصري مثلاً بالقدر ذاته الذي يجاهرون به العداء للانتفاضة السورية وشبابها وصانعيها ومثقفيها. لكن، وطالما أن الحديث عن مجلة «الطريق» المعروفة بأن محرريها ممن كانوا دوماً من دعاة التجديد والانفتاح وتطليق الجمود العقائدي والفكري الذي يضع السلفية الماركسية والسلفية الحزب - إلهية في الخانة ذاتها موضوعياً بحجج الممانعة، بات هذا الاحتمال غير واردٍ إلا لماماً، قبل أن تحسم مقالة صادق جلال العظم هذا الموضوع وهي التي تتحدث بوضوح عن الانتفاضة السورية وتعود سنوات بالتاريخ إلى الوراء، إلى أيام قمع ربيع دمشق على يد النظام. هنا يصاب المرء بلوثة من الزهو الجميل واليقين أن المدرسة البكداشية هي أبعد ما تكون عن تلويث مشرع نهضوي فكري عودتنا «الطريق» دوماً أنه يُرسم بريشة فنان ومبدع اسمه المثقف النقدي العربي... ولا يغيب في أي سطر من سطور ملف العدد الأول من المجلة ذلك التلاقح الفكري الذي تبدى واضحاً بين إعادة إصدار «الطريق» و «هاجس» الربيع العربي والهدف الأساس والأول لصانعيه «الشعب يريد إسقاط النظام»، انطلاقاً من المقولة الماركسية الشهيرة التي أوردها محمد دكروب في تقديمه للعدد الأول: «الصدفة هي شكل ظهور الضرورة». واستطراداً، وفي ما خص الماركسية العربية التي بقدر ما بدأت عملية تنظير ونقد وإعادة إنتاج لمفاهيمها بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، فإن أفول مفاهيم عدة وولادة غيرها في زمن التغييرات العاصفة التي تعصف ببلداننا العربية اليوم من شأنه أن يضع التمسك بالمصطلح ومؤسسه موضع التساؤل والنقد، هذا موضوع بحاجة إلى استفاضة وملفات للبحث من واجب «الطريق» أن تفتحها على مصراعيها أمام باحثين ومثقفين وكتاب ومفكرين ماركسيين وغير ماركسيين، ففي ذلك التمسك بالهوية الماركسية على ما تبدو المجلة عليه تبعاً لافتتاحية محمد دكروب، رئيس تحريرها التاريخي، عودة إلى كلاسيكية فكرية تريد منها المجلة البقاء على الهوية ذاتها التي تشكل بعداً ضيقاً من ضمن أبعاد فكرية وسياسية تشكل اليسار بالمعنى العريض الذي يتسع للماركسية وغيرها. فالماركسية تيار من ضمن تيارات يسارية عدة وليست المعبر الوحيد عن ذلك اليسار، أي «الماركسية حزب وليست الحزب» وفق ياسين الحاج صالح، وهو يسار بات بدوره في هذه المرحلة التاريخية التي نكابد مردودها الفكري والسياسي والميداني بحاجة إلى إعادة تعريف. وهو لن يكون إلا يساراً ديموقراطياً منفتحاً على تيارات نهضوية يسارية وغير يسارية أيضاً كالإسلام المتنور والتشكيلات الشبابية المدنية ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها، سيكون الانزلاق نحو «السبات الإيديولوجي» وفق تعبير محمد أركون مقتلاً له وبحجج لا أساس أخلاقياً لها، كأن يضحى بالحرية على مذبح المعركة مع العدو الإسرائيلي، على ما يفعل كثيرون من رفاق محمد دكروب في السنديانة الحمراء. ومبروك للمجلة، وإن كان ثمة تمسك رتيب بالماركسية. ومن يدري، فربما يتزامن العدد المقبل من «الطريق» مع انتصار مأمول للشعب السوري وإنجازه الهدف الأول من أهداف انتفاضة الكرامة والحرية التي يخوضها اليوم. * كاتب سوري