لا تزال الانتفاضات العربية تشكل المادة الأساسية في الأدب السياسي العربي، تخضع قراءاتها لتفسيرات متفاوتة في الفهم والتفسير والموقف منها. تتقاطع القراءات عند اعتبارها من الأحداث المهمة والضخمة التي أصابت التاريخ العربي، ولكنها تختلف في تقويم النتائج التي ترتبت عليها وعن صعود قوى لم تكن هي التي أطلقتها ولا تعبر بالتالي عن الطموحات التي انطلقت منها، وهو سجال يتصاعد كل يوم سلباً وإيجاباً. من الكتب المهمة التي تتعرض بقراءة نقدية لهذه الانتفاضات كتاب المفكر السوري هاشم صالح «الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ» الصادر عن «دار الساقي». يعترف هاشم صالح في سياق الموضوعات التي تطرق إليها انه نظر إلى الانتفاضات العربية بأمل كبير عند انطلاقها لكونها ستفتح باب الحداثة والتقدم في العالم العربي. لكنه أصيب بشيء من الإحباط عندما دخل مسار الانتفاضة وجهة صعود قوى التيارات الدينية وهيمنتها على السلطة عبر السلوك الديموقراطي المتمثل بالانتخابات النيابية. ظل مصراً على اعتبار الانتفاضات حدثاً مهماً ومفصلياً في العالم العربي، تراجع واعتذر عن تضخيم نظرته الإيجابية لها، لكنه لم يرجمها كسائر كثير من المثقفين الذين رأوا فيها ربيعًا، ثم قالوا عنها خريفاً أو شتاء، حيث لم تكن لا هذه ولا تلك، بل مرحلة من مراحل التطور العربي المحكوم بمعضلات بنيوية، وإعاقات حداثية. لذا انكبّ هاشم صالح على قراءة هادئة وعلمية للانتفاضات استناداً إلى ما قدمته فلسفة التاريخ على يد مفكري الأنوار، وخصوصاً على ضوء فلسفة هيغل في قراءة التاريخ. منطلقاً من مقولة هيغل انه لا يمكن تجاوز أي شيء إلا بعد معاركته ودفع ثمن المواجهة عداً ونقداً، يستعيد صالح تشديده الدائم على أن المجتمعات العربية لم تتجاوز المرحلة التراثية، الإخوانية منها والسلفية، وأنه يستحيل القفز فوقها، بل لا بد من مواجهتها ودفع ثمن هذه المواجهة. والانتفاضات، إنما، أتت لتعبّر بوضوح عن حجم هيمنة هذه المرحلة التراثية. لذا يتعاطى مع انفلات الفكر السلفي حالياً بنوع من الإيجابية، لأن دخول العرب في «المرحلة الأصولية السلفية - الإخوانية لا يعني انتصار الأصولية بل بداية انحسارها، وهذا ما يدعوه هيغل «مكر العقل أو مكر التاريخ». ففلسفة التاريخ تعلمنا ضرورة استخدام السلبي للتوصل إلى الإيجابي. فالتاريخ «المكبوت والمحتقن تاريخياً ينبغي أن ينفجر بكل قيحه وصديده الطائفي حتى يشبع انفجاراً. بعدئذ يمكن للتاريخ أن يتنفس الصعداء» على ما يقول صالح. لا شك في أن ما نشهده اليوم من صراعات طائفية ومذهبية وعودة إلى التكفير والتخوين على لسان التيارات الإسلامية هو تعبير عن إخراج المجتمعات العربية ما في جوفها، وهذه من حسنات «الربيع العربي» حيث أتاح لكل هذه الأحقاد المتراكمة على امتداد قرون من التاريخ العربي أن تنفجر، وهذه تمثل نقطة تقدمية في المسار العام لحركة التاريخ، على الرغم من الثمن الذي سيدفع نتيجة هذا الانفجار. «فالتاريخ يتقيأ أحشاءه عادة (أو قل يصفي حساباته مع نفسه) على هيئة حروب أهلية أو مجازر طائفية وآلام بشرية لا توصف. وهذا ما وصلنا إليه الآن. ولكن فلسفة التاريخ تقول لنا إن هذه العملية إجبارية وإلاّ فان التاريخ العربي لا يمكن أن ينطلق خفيفاً قوياً بعد أن كان قد تخلص من أحماله وأثقاله التي كانت ترهق ظهره وتعرقل حركته وانطلاقته». لا يوفر صالح الأنتلجنسيا العربية من النقد، فهي عجزت عن فهم دلالات انفجار الموروث الطائفي أو القبلي خلال هذه الانتفاضات، لذا بدت عليها حالة الذهول والضياع في التحليل، يميناً ويساراً. لم تدرك أن المرحلة التاريخية التي يمر بها العالم العربي هي مشابهة لما كانت تعيشه أوروبا في القرون الوسطى، عشية انبعاث النهضة والإصلاح الديني ومرحلة الأنوار لاحقاً. هذا الماضي الممسك بتلابيب مجتمعاتنا العربية لا يمكن تجاوزه إلا بمواجهته وتصفية الحسابات التاريخية معه. ما يعني نقد ما كانت الحركات الأيديولوجية التي استولت على السلطة منذ قيام حركة الاستقلال في العالم العربي التي أوهمتنا «بإمكانية حل هذه الرواسب التاريخية عن طريق القفز عليها وعدم مواجهتها وجهاً لوجه كي لا تستيقظ وتنفجر وتحرق الأخضر واليابس». لذا أتت الانتفاضات العربية لتفجر هذا الموروث المكبوت من عصبيات طائفية ومذهبية وأحقاد تاريخية. إذا كان للمجتمعات العربية أن تتقدم إلى الأمام، فهي ملزمة بمواجهة هذا الماضي الثقيل بكل معوقاته. انطلقت الانتفاضات العربية جواباً عن جملة عوامل تتصل بالاحتقان الداخلي أمام انسداد آفاق التطور، وسيادة الاستبداد العربي، والتراجع في الأوضاع الاجتماعية بكل ما تعنيه من فقر وبطالة وتهميش لمعظم الشعوب العربية. اقترنت الانتفاضات بمنتجات العولمة خصوصاً التقنية الحديثة في ميدان الاتصالات، ما ساعد على التواصل بين قوى الانتفاضة في كل بلد وكسر قيود الإعلام والكبت والتعبير عن التمردات الشعبية. رفعت شعاراً مركزياً هو تحقيق الديموقراطية، وانطلقت سلمياً نحو هذا الهدف. اصطدمت هذه الانتفاضات، ولا تزال، بعاملين مركزيين جعلاها تنفجر خارج منطق هدفها كما هو ظاهر الآن. تصدت الأنظمة الحاكمة لهذه الانتفاضات بالقوة ورفضت التخلي عن سلطتها، وأجبرت القائمين بها على تحويلها من سلمية إلى عسكرية. كما اصطدمت بما هو أدهى وأصعب، وهو سقوط هذه الانتفاضات على مجتمعات عربية لا تزال بنى ما قبل الدولة من عصبيات طائفية وعشائرية وقبلية وإثنية تتحكم بها، فانفجرت هذه البنى حروباً أهلية، لا يبدو أن أي بلد عربي سينجو منها. هنا يشدد هاشم صالح على الاعتراف بهذا الواقع ومواجهته وليس القفز فوقه، في وصفه مساراً إجبارياً على المجتمعات العربية أن تقطعه بثمن باهظ جداً، وهو ما أصاب المجتمعات الأوروبية عندما كانت تنتقل من عصورها الشبيهة بعصرنا، نحو النهضة والحداثة. يشكل كتاب هاشم صالح مادة ثمينة في قراءة هادئة للانتفاضات العربية، بعيداً من التضخيم الذي أصيبت به عند انطلاقتها، وبعيداً أيضاً من العدمية التي ترمى بها، حالياً، من أطياف واسعة من النخب العربية.