هناك تقويم للحالة العراقية يوافق عليه أيضا بعض المسؤولين الاميركيين، ومن ضمنهم السفير في بغداد زلماي خليل زاد، بأن ما تبقى من هذه السنة ربما سيكون المنعطف الذي سيحسم مستقبل العراق في أن يتمكن من تجنب حرب أهلية مدمرة، وبالتالي أن يبقى كياناً موحداً، أو أن ينشطر إلى كيانات طائفية وعرقية متعددة. الأساس الذي يقوم عليه هذا التقويم هو أن الوضع على الأرض بعد ثلاثة أعوام ونصف عام من الاحتلال، سواء ما يتعلق بالمأزق الخانق الذي وصلت اليه العملية السياسية أو الفشل المرير الذي واجهته جهود فرض الأمن والاستقرار، هو على وشك أن يتحول إلى أمر واقع تتخندق فيه الأطراف المتصارعة في جزر طائفية وقومية تستحيل إزالتها من بحر الدم المتدفق في معظم نواحي العراق. هذا يعني أن هناك فرصة أخيرة توفرها بعض الجهود المبذولة عراقياً وعربياً ودولياً لتحقيق وفاق وطني من خلال سلسلة لقاءات المصالحة المستندة إلى مبادرة رئيس الوزراء نوري المالكي وجهود الجامعة العربية ولقاء مكة للمرجعيات الدينية، إضافة إلى محاولات القوات الأميركية والحكومية مواجهة الميليشيات وجماعات العنف المسؤولة عن التدهور الامني المتنامي بخطط لم تحقق نجاحاً حتى الآن. إلا أن الإخفاق الذي لازم المسارين السياسي والأمني خلال الفترة السابقة لا يبشر بأية إمكانية حقيقية للوصول بالعراق إلى بر الأمان، مما يعني أن استنفاد هذه الجهود خلال الفترة القصيرة القادمة يعني انهيار العملية برمتها وافتقار الوضع الحالي ليس فقط إلى الإجماع الوطني العام بل أيضا الى الشرعية الداخلية والدولية لاستمراره. المسؤول عن هذا الفشل ونتائجه المريعة المتوقعة هو الاحتلال الذي لا تزال أخطاؤه وسوء حساباته تتوالى حتى بعد الكارثة التي حلت بالعراق، وكذلك القوى العراقية، سواء من تمكن منها من الهيمنة على السلطة ومارس وصايته عليها أو تلك التي تنازعها عليها باستخدام العنف والإرهاب، إضافة إلى التدخلات اللامسؤولة والأنانية لدول الجوار التي ساعدت على الدفع باتجاه هذه النتيجة المأساوية. إن عجز هذه الأطراف عن وضع العراق على سكة الأمن والاستقرار وإعادة البناء معناه أنها غير مهيأة وغير قادرة على إدارة دفة الأمور، هذا إذا كانت راغبة فعلاً في الوصول بالعراق الى بر السلام. ويبقى التحدي الأكبر الذي سيواجه الجميع هو كيفية الخروج من هذا المأزق، إذا ما كان الأمر يتعلق حقيقة بالسعي لانتشال العراق من مصير مدلهم وإنقاذ العراقيين من محنتهم القاسية. بعد كل التجارب الفاشلة التي تمت منذ الاحتلال لإعادة بناء الدولة والمجتمع اللذين قام بتفكيكهما، لا بد من التفكير الجدي بخيارات وبدائل أخرى، تستفيد من تجارب تاريخية ناجحة جرت في مناطق عدة من العالم. ولأن من المشكوك فيه أن تمتلك الأطراف التي ساهمت في إيصال العراق إلى ما هو عليه الآن، البصيرة والحكمة والشجاعة للإقرار باخطائها، وستبقى متمسكة بمواقفها القديمة الرافضة لنهج التفكير المشترك، فقد حان الآوان كي يجري البحث عن عملية سياسية جديدة وتحت رعاية وإشراف دوليين. إن انخراط المجتمع الدولي في مشروع حقيقي وفاعل لإنقاذ العراق بقدر ما هو مسؤولية اخلاقية، فهو واجب سياسي وقانوني، يتحتم القيام به لتجنيب المنطقة والعالم تداعيات فظيعة ستعاني منها لو تحقق الكابوس الأسوأ وانهار العراق. ولعل صيغة وضع العراق تحت وصاية دولية، قد تمثل مخرجا قانونيا وسياسيا موقتاً للمأزق العراقي، ريثما يتم وضع أسس جديدة لعملية إعادة بناء العراق المدمر تحافظ على كيانه وتوفر العدالة والمساواة لجميع مكوناته الدينية والقومية. عراقياً هناك حاجة لإعادة بناء الدولة والمجتمع والهوية الوطنية العراقية ضمن إطار نظام سياسي شرعي توافقي يحقق مصالح الجماعات المختلفة، ولم يعد ممكنا تحقيق هذا النظام وفق الصيغ الحالية، وبواسطة الجماعات المهيمنة. أميركياً، ومع تزايد ضغوط الفشل والتراجعات هناك حاجة لمخرج مشرف يمنع هزيمة قاتلة للولايات المتحدة. اما اقليمياً ودولياً، فهناك دوافع سياسية واستراتيجية تتعلق بالأمن والاستقرار، وبخاصة إزاء تنامي ظاهرة الارهاب، تفرض مشاركة فعالة من المجتمع الدولي في بناء عراق موحد ومستقر وآمن. بينما تبقى هناك أرضية قانونية لفرض الوصاية الدولية الموقتة على العراق توفرها قرارات مجلس الامن ذات الصلة بعملية احتلاله وكذلك ميثاق الأممالمتحدة الذي يمنح الحق بفرض الوصاية الدولية تمكيناً لشعوب الأراضي المحتلة والدول الفاشلة من تحقيق مصيرها، وفق إرادتها، وليس إرادة المحتل، أو القوى التي يأتي بها إلى السلطة. تنبع الحاجة إلى فرض الوصاية الدولية على العراق من الحاجة الى المحافظة على كيانه، وتوفير الحماية للعراقيين في أرواحهم وحقوقهم الإنسانية، ومصادر ثرواتهم التي عجزت سلطات الاحتلال والإدارة الحالية عن حمايتها، إضافة إلى ضرورة ضمان السلام والأمن الدوليين من احتمال امتداد النزاع إلى مناطق أخرى. ويوفر ميثاق الأممالمتحدة في فصوله 11 و12 و13 جوهر وروح القواعد القانونية اللازمة لنظام الوصاية وتحقيق الأهداف المرجوة منه، بغض النظر عن الدوافع الأصلية التي بني عليها نظام الوصاية الدولية، الذي يستثني الدول الأعضاء، مثلما الحالة العراقية، من الوقوع تحت وصاية الأممالمتحدة. فالحقيقة الساطعة أن الدولة العراقية غير موجودة حاليا على الأرض والحكومة التي تتمتع بسلطات السيادة غير فاعلة وغير قادرة على ممارستها، لا لحماية أرواح وممتلكات شعبها، ولا لحماية ثرواته الوطنية مما يضع العراق فعلياً تحت شروط وضع الوصاية، كما جاءت في الميثاق بهدف توفير الأمن والاستقرار، وتحقيق المصالحة الوطنية، وبدء عملية إعادة البناء على أسس من الشرعية والاستقلال الحقيقي. لقد ارتكبت أخطاء فظيعة منذ بداية الاحتلال حالت دون إيجاد الصيغة المناسبة لإعادة بناء الدولة ولإدارتها بما يحفظ وحدتها وتطلعات مكوناتها الطائفية والقومية المتعددة وفق صيغة تدعم الهوية الوطنية وتصالح بين توقعات ومصالح هذه المكونات. وبدلا من ذلك تعزز الشرخ الطائفي وتحول إلى صراع دموي وأصبحت مدن العراق دويلات تتحكم فيها الميليشيات وجماعات العنف، وانفرط عقد الدولة التي استبيحت هيبتها وسلطتها، وانهار السلم الاجتماعي، وعاث الفساد الذي جاء بأقل الناس كفاءة لإدارة السلطة الجديدة، التي هيمنت على موارد الدولة الطبيعية، وبخاصة النفط. والأهم من كل ذلك قضى الفساد على الحقوق الأساسية للإنسان العراقي، الذي أصبح يقتل لأسباب تتعلق بدينه ومذهبه وأفكاره، أو حتى من دون سبب، وترمى جثته في مياه الأنهار أو فوق أكوام القمامة. إن مثل هذا الواقع المرير لا يمنح شرعية لأية حكومة ولأية عملية سياسية، مهما ادعت انها جاءت كي تنقذ العراق من نظام استبدادي دموي، وأنها أتت على أساس انتخابات ودستور. إن هدف الوصاية الموقتة يجب أن يكون واضحاً ومحدداً منذ البداية، وهو تحقيق الأمن والاستقرار بالطريقة التي تمهد لإطلاق عملية سياسية جديدة، هدفها النهائي إعادة بناء الدولة في العراق بطريقة سليمة، وإنهاء الاحتلال أو الوجود الأجنبي بكل صوره. هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق لا بالوسائل ولا بالقوى المهيمنة على المشهد السياسي حالياً، وعلى رأسها الاحتلال نفسه والإدارة العراقية والجماعات المعارضة لها، التي ساهمت جميعاً في الوصول إلى هذه النتيجة المروعة. لا بد إذن من إدارة دولية تمتلك تفويضاً لفرض السلام والأمن، وتبدأ عملية سياسية قائمة على مشروع وطني بقوى سياسية واجتماعية ترتكز على مشروعية تمثيلها للقوى الحية في المجتمع، لا على ميليشيات أو جماعات إرهابية أو دعم خارجي. ومع هذا فليست الوصاية الدولية وصفة سحرية لعلاج الوضع العراقي المعقد، بل هي مجرد مقاربة جادة لم تختبر، وفرصة لم تنتهز، وحسنتها الوحيدة أنها جربت ونجحت في مناطق مشابهة كثيرة في العالم، اتيح للسكان فيها ممارسة حقهم في تقرير مصيرهم بحرية، من دون ضغوط أو هيمنة أو تضليل وبلا إرهاب وترويع. أستطيع القول بثقة إن العراقيين لم يتح لهم أن يجربوا بحرية الخيارات الحقيقية التي تمكنهم من الاختيار، وأنهم خضعوا بسبب سياسات الاحتلال وتجاربه المختبرية إلى عمليات غسل دماغ وتهييج وتلاعب وخداع مورست من فوق المنابر بعناوين شتى منها الديموقراطية أو كليشيهات المقاومة، مما يستوجب إتاحة المجال أماهم لاختبار قدراتهم الحقيقية، بعيدا عن أولئك الذين تكلموا باسمهم طيلة الفترة الماضية وخاضوا مغامرات السيطرة على السلطة من دون إنجاز حقيقي. أدرك مشاعر الإحساس بالعجز والإحباط وربما بالمهانة الوطنية التي يمكن أن تأتي من فكرة وضع العراق تحت نظام للوصاية الدولية طالما ارتبط بعهود الاستعمار البغيضة. لكن آن الأوان أولا للإقرار بالحقيقة المرة بأن جزءاً كبيراً من التدمير قد تحقق على أيدي العراقيين أنفسهم، وثانيا بتفحص اجتهادات أخرى لإنقاذ العراق من محنته عبر فتح القنوات التي أغلقها الاحتلال على العالم، كي يتحمل هذا العالم مسؤوليته أيضا في إصلاح الخراب الواقع. وأدرك أيضا أن الأممالمتحدة خذلت العراقيينمرات عدة خلال العقدين الماضيين بسبب خضوعها للهيمنة وفسادها وسوء إدارتها، مما يثير الشكوك في قدرتها على إدارة وصاية دولية كفوءة على العراق. لكن التجربة أثبتت، مرة تلو الأخرى، بأن التدخلات الدولية في شؤون الدول الفاشلة ستستمر وأن من المؤكد أن العراق، سواء بقي على حاله الآن، أو تقسم إلى دول وكيانات، سيكون محطة لهذه التدخلات، المشروعة منها وغير المشروعة. ولذلك سيكون من الأفضل حل المسألة العراقية عن طريق دولي ووفق مرجعيات القانون الدولي والضمانات التي يوفرها، حتى لو أضاف ذلك ندبة جديدة في الروح والجسد العراقيين، كجزء من متطلبات الصراع الذي يخوضونه من أجل البقاء. * كاتب عراقي