قضية الدستور لم تكن في لحظة من لحظات تاريخ الشعوب انقاذاً من مستعمر أو محتل، أو مخرجاً من أزمة للديموقراطية أو الحرية، أو مجلباً للخبز من جوع أو تخلف أو أمية. بل هو وثيقة انسانية وعقد جماعي، وخلاصة لمرحلة تاريخية في حياة أي شعب، يأتي توقيته المناسب بعد أن يصبح حاجة اجتماعية وسياسية لتنظيم علاقة الشعب بالدولة، وتكريس مشاركته في القرارات المصيرية العليا. لكن في الحالة العراقية المعروفة تداعياتها بعد الاجتياح والاستيطان العسكري الاميركي، والفوضى الأمنية، هل سيعيد الدستور الدائم الأمن للبلاد مثلما قيل سابقاً عن الانتخابات التي لم تتمكن من اخماد جذوة المقاومة المسلحة ضد قوات المحتل، أو إنهاء العمليات الارهابية ضد المدنيين العراقيين، لكنها حققت هدف الأحزاب الاسلامية الشيعية والكردية في تشريع هيمنتها. وافتراضاً لو جرى اليوم استفتاء شعبي على توقيت كتابة وثيقة الدستور بعيد عن تأثيرات الاحزاب المهيمنة، أعتقد ان الاجابة ستكون بعدم ملائمة الوقت الحالي لتلك المهمة... والسبب بسيط، هو إن الناس تريد الأمن والأمان قبل أي فعالية سياسية هدفها تأمين مشروعية هيمنة الأحزاب على السلطة. لكن مثل هذا الخيار غير مسموح به حالياً في هذا البلد المحكوم بسيناريو صممه المقرر السياسي الأميركي بانضباط عال مرتبط بتضحيات بشرية ومادية. ولا تملك الأحزاب المحلية العراقية الحاكمة حق توجيه استفسارات سياسية وأمنية لقيادة الاحتلال الأميركي، قبل أن تكون لديها اعتراضات جدية تتعلق بمصير العراق ومستقبله. ولهذا وجدت من مصلحتها قبول مقايضة السلطة بالصمت والقبول وتكييف المتطلبات الاميركية على مقاسات مصالحها الفئوية. وكشفت محاضر جلسات مجلس الحكم المنحل عام 2004 التي نشرت أخيراً جانباً من واقع التحكم الأميركي بالقرار السياسي المحلي وإذعان السياسيين العراقيين لذلك، وغياب الرؤية السياسية الوطنية، وغلبة المصالح الخاصة على مصالح المجموع، وغياب عرض هموم الشعب أمام الحاكم المدني بريمر. ولهذا فإن القيادات المحلية العراقية لا تستمع للأفكار والنصائح الوطنية النزيهة، بل تحاول إحاطتها بالشكوك وبذرائع الخضوع لمصالح القوى الارهابية. وسيثبت الرأي القائل بعدم استعجال صياغة وثيقة الدستور قبل انضاج العملية السياسية وتحقيق الشراكة العامة صحته مثلما أثبتت فكرة تأجيل الإنتخابات ذلك حتى وإن لم يعترف الممسكون بالسلطة بذلك. لكن، في المقابل، هل ان استعجال كتابة الدستور حاجة عراقية أم أميركية؟ كل المؤشرات والوقائع تقول بأن الأميركان هم المستعجلون لصياغة دستور العراق، فهم الذين صمموا البرنامج الانتقالي في قانونه وحكومته وانتخاباته، ولأغراض استراتيجية وتكتيكية معروفة... وهم راغبون في التخلص من الضغط العسكري والأمني الذي يواجهونه عن طريق تحويل الصراع والمعارك العسكرية اليومية بين العراقيين أنفسهم داخل العاصمة فيما يتفرغون للعمليات اللوجستية الكبيرة، لخدمة حساباتهم في البقاء العسكري في العراق لسنوات طويلة مقبلة بعد إنجاز معركتهم ضد المنظمات الارهابية التي اختاروا العراق ساحتها الحاسمة، وهذا ما اعترف به أخيراً الرئيس بوش عندما قال بأن سبب الحرب على العراق هو الهجوم الذي وقع على بلده في 11 سبتمبر 2001 وليس امتلاك اسلحة الدمار الشامل. من هنا فإن الولاياتالمتحدة تريد تقنين الاحتلال عبر حكومة عراقية محلية لتأمين بناء قواعد عسكرية كبيرة تتناسب مع ما أعلن عن تشييد أكبر سفارة أميركية في العالم تقام في العاصمة العراقية. نظرياً تبدو المسألة يسيرة، لكن حقائق الواقع تقول عكس ذلك. فهناك عدد من التعقيدات تتكشف يوماً بعد يوم. كذلك تواجه الحكومة الجديدة المأزق ذاته الذي واجهته سابقتها، وهي لم تحاول تعديل قواعد العمل السياسي وفعاليته، لتحقيق انفراج في الأزمة السياسية، بل شككت في الفعالية العسكرية والأمنية للحكومة السابقة، فاختارت أكثر وسائل العنف المستوردة والموروثة لتطبيقها ضد المدنيين الأبرياء، في وقت يتم تجيير مصادر الارهاب وأدلجتها بما يخدم الأحزاب الحاكمة وصفقتها مع الأميركان. وإذا كانت هناك نية حقيقية وجادة لإزالة بؤر التوتر والاحتقان والعنف المسلح، فلا بد أولاَ من تخلص الممسكين بالسلطة من مأزق الاستحواذ القبلي على الحكم وإقصاء المزيد من منتسبي الجهاز الاداري الحكومي وفي حلقاته الدنيا بسبب انتمائهم البعثي السابق، وكذلك في تصحيح قاعدة الشراكة السياسية من وصفة التميز لمن ناصر المشروع الأميركي وخدمه إلى وصفة الكفاءة والاخلاص الوطني. فخطوات مثل توسيع أعداد لجنة الدستور ووضع كتبة له من عرب السنة، لم تحل الأزمة، لأن الجدية الحقيقية هي في إحداث اختراق حقيقي للأزمة عبر إعادة الاعتبار لمن لحق بهم الأذى والعذاب والقتل والترويع والتدمير من الاحتلال ومناصريه في مدن الفلوجة والرمادي والموصل وكركوك والنجف ومدينة الصدر وبعقوبة وسامراء وتكريت وهيت وحديثة والقسم الأعظم من العاصمة بغداد، وقد فاقت في سنتين ما تعرض خصوم الدكتاتور السابق صدام من أذى خلال ثلاثين عاماً. الواقع السياسي الحالي يدور حول تقديرات ومواقف أكثر إلتباساً وعزلة، بل أكثر خطورة على الوطنية العراقية اذ ينتقل مشروع التفتيت الطائفي الى حلقة إثارة النزاعات والانقسام داخل الطائفة الواحدة بعدما ذهبت حلقة التقسيم الطائفي إلى مديات عميقة من خلال دعوة بعض ممثلي الطائفة السنية للمشاركة الاستشارية في صياغة وثيقة الدستور بناء على ضوابط قانون الادارة الانتقالية. وليس غريباً خضوع كثر ممن ظهروا على المسرح كممثلين للعرب السنة لمشروع الاستلاب الطائفي والامضاء على وثيقة الدستور المصممة على توافق بين الاحزاب الاسلامية الشيعية والاحزاب الكردية بتغييب مقصود لعروبي العراق وعروبته. والأفضل لهؤلاء الذين خضعوا للابتزاز بعد اعلان كونهم لن يدخلوا في لجنة صياغة الدستور أن يتراجعوا عن هذه اللعبة ويتركوا الأمر مضطرين كما هم أبناء العراق للاعبين المهيمنين للذهاب إلى آخر مدى وحصاد نتائجها. ومع ذلك فإن فرضية احداث اختراق كبير في الأزمة السياسية تبدو منطقية وواقعية إذا ما تم اطلاق مشروع جدي للحوار الشامل قائم على التراضي خصوصاً مع الأطراف العراقية الرافضة للاحتلال سياسياً أو عسكرياً، وعدم تجاهل حقيقة إن هناك مقاومة لا يكفي وصفها بالارهاب لكي يتم القضاء عليها، وانهاء دورها السياسي، وما أطلق أخيراً من تصريحات عراقية رسمية وحزبية متناقضة لا يشير إلى وجود جدية في هذا المجال، وقد تكون أهدافها تعبوية وإعلامية لتمرير ملف الدستور ولفلفته بالسرعة المطلوبة. إن الخطأ الفادح الذي تقع فيه الحكومة الحالية هو مضاعفة العنف بأساليب أكثر قساوة وبطشاً بالأبرياء مما حصل في ظل حكومة علاوي، لكن وفق زخم اعلامي وتعبوي آخر وتحت عناوين مقتبسة أو محورة ومترجمة عن فنون الجيش الأميركي القتالية كالبرق والخنجر والسيف وغيرها. وهي استراتيجية فاشلة لأنها ستضاعف من الضحايا الأبرياء، وتوجه المعارك وجهة طائفية، قد تسيطر على نشاطات الجماعات الاجرامية لكنها تفتقد إلى أرضية وطنية جادة للحل السياسي. كما إن التوجه نحو بعض ممن يدعون تمثيلهم للعرب السنة وإغرائهم ببعض المكاسب، لن يحل الأزمة. فالحوار السياسي الحقيقي لا يقوم على التشكيك بوطنية الوطنيين أو تهميشهم أو إثارة النعرات الطائفية بين الطائفتين الشيعية والسنية لأن كليهما هما المكونان الاجتماعيان الرئيسيان في العراق، أو حفر الأخاديد والانقسامات داخل الطائفة السنية ذاتها بحجة عدم وجود مرجعية واحدة لها، والتي لم تكن طائفية عبر عمرها الطويل منذ الرسالة الاسلامية الأولى. فالفرصة أمام حكومة الجعفري ما زالت قائمة. ليست على أساس ترضية الأميركان وإشعارهم بأن مطلب وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس خلال زيارتها لبغداد بضرورة إشراك العرب السنة قد تحقق، والقيام باجراءات شكلية لرفد ودعم لجنة كتابة الدستور عبر اختيارات فردية قائمة على الولاء للمشروع الامريكي. في تقديرنا إن على حكومة ابراهيم الجعفري، كجهة مسؤولة أمام المواطنين مباشرة في هذه الفترة إن كانت راغبة بحل وطني يضعها في موقع متميز أمام العراقيين، تستطيع أن تقف وقفة جادة لفحص السياسات القائمة، والمبادرة الى انتهاج سياسة واضحة ترضي عرب العراق وإزالة الحيف عنهم، وتحقيق رضا وطني عام. ولعل وصف"الوطنية العراقية"لا يعجب الراغبين في ابقاء الاوصاف الطائفية حتى وإن كانت تثير الفرقة وتفتح جروحاً داخل جسم المجتمع. وكان ممكناً استثمار فرصة كتابة وثيقة الدستور، وقبل الاندفاع في آلياته التي يمكن أن تنجز سريعاً مثلما انجزت الانتخابات وتحقق تكريس الانفراد بالحكم، لكن الفرصة ضاعت. المطلوب الآن دعوة إلى حوار جدي عبر اجراء اتصالات بالقوى والشخصيات الوطنية الفاعلة والمؤثرة في الواقع من داخل وخارج العراق، وعقد مؤتمر مؤتمر وطني عام تدعو إليه زعامات وقيادات وطنية عراقية من حكماء العراق من داخل السلطة وخارجها، يطرح مشروعاً سياسياً للانقاذ ويتفق على وثيقة الدستور العراقي بعد تعديل موازنات العملية السياسية لكي تشمل جميع المكونات، على ان تكون قيادة هذا المؤتمر وفعالياته بعيدة عن هيمنة الاستحقاقات السياسية التي فرضت نفسها منذ سقوط نظام صدام حسين حتى اليوم، وان يتحرر ذلك المؤتمر من الوصاية الخارجية، ويحضره مراقبون من الأممالمتحدة والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي... مثل هذه الخطوة الجريئة وحدها ستضع الحكومة الحالية في موقع قريب من تطلعات العراقيين، وإلا فإن عدم الاستقرار سيكون للأسف علامة المرحلة. كاتب وسياسي عراقي - لندن.