تكاد تقصر بعض تيارات المعارضة اللبنانية القضية اللبنانية الراهنة منذ استقالة وزراء"اللقاء الديموقراطي"من الحكومة، ومحاولة اغتيال الوزير المستقيل مروان حمادة، وتمديد ولاية إميل لحود على رأس الدولة، وصدور القرار الدولي 1559 وتقرير أمين عام الأممالمتحدة غداة القرار، وأخيراً وليس آخراً كان اغتيال رفيق الحريري - تكاد تقصر القضية وتعليلها على تسلط"جهاز أمني استخباراتي سوري - لبناني"على الحياة السياسية الوطنية، وعلى بعض اوجه الحياة الاقتصادية "المافيات". وحين التدقيق، يرجع بعض هذه التيارات ابتداء الازمة الى التمديد نفسه. وهو يُعزى الى علاقة حميمة بين الرئيس اللبناني وبين رؤساء أجهزة أمنية نافذة لبنانية وسورية. ويحمل"التدويل"، أي صدور القرار الدولي، على محاسبة هذه الدولة السورية على سياستها الأمنية والسياسية في لبنان، والطلب اليها اخراج قواتها العسكرية واستخباراتها من الاراضي، ومن الهيئات السياسية والادارية اللبنانية على حد واحد وسواء. وعلى حين يربط بعض التيارات التشابك السياسي والأمني والمالي ب"ادارة احتلالية"، يحجم بعض آخر عن مثل هذا الربط أو هو كان يحجم الى وقت قريب، ويمتنع من وصف مرابطة قوات مسلحة أجنبية، عربية، واستخباراتها المعلنة والخفية، بالاحتلال. فيميز الاحتياجات العسكرية الصرف، وهي قد تدعو بحسبه الى بقاء قوات رصد ودفاع مسلحة في مواضع معروفة مثل ضهر البيدر والمديرج وربما منحدر جبل الشيخ، من بسط النفوذ الأمني على"الواردة والشاردة"اللبنانيتين، كانتا سياسيتين أم اداريتين أم اقتصاديتين. ولكن التمييز هذا يذهب اليه من لا حول لهم ولا طول من القوى السياسية والأهلية اللبنانية. وهو لا يلزم في شيء الساسة السوريين. فهؤلاء استدخلوا القوى السياسية والأهلية اللبنانية، وتسللوا اليها، وتمكنوا منها، وألحقوها بسياستهم ومصالحهم في أثناء ثلاثة عقود، وليس في غفلة"استخباراتية"من الزمن. وإن كانت غلبة الوسائل الاستخباراتية، من ترغيب وتخويف وتوريط وضم وفرز وإيجاب أمور واقعة، على"السياسة"هذه وهي على معنى السوس، وعلى خلاف معنى التدبير، لا تنكر. وتصدُّر العوامل الاستخباراتية، اليوم، تعليل الازمة والقضية والحوادث اللبنانية، مرده على الأرجح الى عودة الاغتيالات الكبيرة، والاحتكام اليها في معالجة مسائل الحكم وميزان قواه وأجنحته، وذلك بعد طول احتجاب إذا استثني اغتيال إيلي حبيقة، أحد"أسياد"الحروب الملبننة واستخبارييها على وجه الدقة, وبعد طول لبننة. وكان فصلها الأخير إعلان الرئيس السوري، بشار الأسد الى"الجزيرة"عزمه على"لبننة الاستحقاق الرئاسي". وتطاولت الاغتيالات، منذ فترة 1989 وهدأتها اغتيال الرئيس المنتخب الجديد رينيه معوض ومنذ 1994 اعتقال سمير جعجع، الى أركان العقد أو الميثاق اللبناني، والى لُبُنات أساس في هذا العقد. وهي استقرت على هذه الحال، لبنان وأركاناً، في أثناء الأعوام الخمسة عشر التي ساس اللبنانيين فيها مفوضون لا قيد، وطنياً او إقليمياً أو دولياً، على تفويضهم وأيديهم. وترجع نذر المعالجة الاستخباراتية القريبة الى افتعال"مؤامرة"7 و8 آب اغسطس 2001، واعتقال نحو ألفي مواطن لبناني، ناشطين وغير ناشطين، والتحقيق معهم من غير استنابات ولا إجراءات توقيف قانونية، وسجن ثلاثة"سياسيين"منهم صحافيين ومحازب بناء على قرائن"تعامل مع العدو"، إما واهية أو متهافتة. ولابس الافتعال - هذا إجراءُ انتخابات المتن الشمالي جبل لبنان الفرعية، وإبطال فوز النائب السابق المعارض غبريال المر، وتولي المجلس الدستوري الإبطال هذا، وتقليده النيابة مرشحاً جمع نحو 4 في المئة من أصوات ناخبي الفائز فعلاً. وأردف الاجراء هذا بإقفال محطة تلفزيونية، يملكها النائب"الباطل"النيابة، إقفالاً نهائياً. وسبق قرارُ الإقفال النهائي هذا نظرَ الادعاء العام في القضية، ولم يكن عليه إلا إثبات القرار أو رده على صفته النهائية السابقة والمبرمة. وفي سياقة هذه الحوادث، استدرج ناشط طالبي سابق ومعارض قواتي، هو رمزي عيراني، واغتيل ترهيباً. واستبقت العثورَ على جثته في صندوق سيارته، بمنطقة الروشة، ثم تبعت العثور على الجثة إشاعاتٌ متواترة نسبت القتل الى خلافات في صفوف"القوات"تارة، والى"أسباب"شخصية تارة ثانية. فتقدمت التهمة التحقيق،"السري"على مذهب قاضٍ"كبير"، على شاكلة قريبة من تقدمها التحقيق في اغتيال رفيق الحريري والمواطنين العشرين الآخرين. وعلى شاكلة حملها على"الموساد"، على لسان رأس الدولة، حين اغتيال قضاة محكمة صيدا في 1999. وعالجت الحكومة، وسلطاتها، قضية الضنية، في ليلة اليوم الأخير من 1999، و"حركة أبو عائشة"المتصلة ب"القاعدة"، قبل وقوعها، معالجة"استدراجية". فسعت في صيد الاسلاميين الطرابلسيين، والإيقاع بهم. ولم تشأ، عمداً، الحؤول بينهم وبين"الخروج"، الى الضنية، على ما كان في مكنتها، على ما أعرب موقوفون كثر. وأرادت السلطات من الاستدراج الى الخروج، والى اعلان القيام على"الكفر"، إبراز محاربتها هذا الرافد من روافد الارهاب، ورد تهمة الإغضاء عن روافد أخرى تتحصن بقضايا"مقدسة"، وبمعاقل أهلية أبقتها السلطات بمنأى من نظرها ومراقبتها ومتناولها. وفي الأثناء هذه كلها، وهي تكاد تكون فصلاً متصل الحلقات، تضامنت"جبهة"السلطة والحكم من غير صدع عملي أو ثغرة سياسية. على رغم مناقشات حادة في مجلس الوزراء، خرج بعضها الى العلانية الصحافية وروتها مصادر وزارية متفرقة، بقي الوزراء المختلفون والمتباينون، وعلى رأسهم رئيس مجلسهم رفيق الحريري، في مناصبهم غداة"مؤامرة"7 و8 آب 2001. فلم ير أركان"الدولة"في حملة بوليسية منظمة ومتعمدة، لابسها تخويف انتخابي وإعلامي وقضائي حاد، وسبقتها وتبعتها أعمال قتل، لم يروا طلائع"ألوية موت"، من فوق ومن تحت، زاحفة على الحياة السياسية اللبنانية، ولا رأوا فيها تظاهرات"تعريب"عميق. فاكتفوا من"الغنيمة"بالمناقشة، وبإعلان الاختلاف. وتفرقوا حكومات وولايات، للواحدة منها سياستها الخارجية المستقلة، وبنودها الاقتصادية والاجتماعية الخاصة وطاقمها الاداري الموقوف عليها. وتعلَّلَ بعض أصحاب الأصوات الجهورية تارة ب"قرارات كبيرة"وخفية، وتارة ثانية ب"ممنوعات"منها الاستقالة، وثالثة ب"ظروف خطيرة ودقيقة"، ورابعة ب"علاقات مميزة معمّدة بالدم والمقاومة". وبعض العلل والذرائع هذه لا يزال سارياً الى اليوم. وتلهج به الأصوات الجهورية نفسها. وهذا إقرار بازدواج السياسة اللبنانية سياستين، واحدة ظاهرة تتولاها هيئات الدولة على قواعد وسنن معروفة ومقبولة، وأخرى خفية يعود امرها والبت فيها الى اشخاص لا يحاسبون ولا يسألون. وهذا أي العمى عن زحف"ألوية الموت"، والتعلل بالقرار الكبير والممنوع والظروف والعلاقات إنما يرث، من طريق نسب متصل ومباشر، الأبنية الاستخباراتية والأمنية التي استقرت عليها الحركات والجماعات السياسية في سنوات العقد ونصف العقد التي سبقت"الطائف"وسلمه الأهلي المزعوم. ففي غضون هذه السنوات، وهي"فلسطينية - لبنانية"في شطرها الاول و"سورية - لبنانية"في شطرها الثاني، جنح العمل السياسي، ومقوماته الاهلية والمطلبية والانتخابية والتعبوية والثقافية الدعاوية، الى الاقتصار على التسلح والتدريب والتحريض والتأليب والرصد والإيقاع، وعلى"العمليات الخاصة"، من اغتيالات وغارات. فكان على رأس كل منعطف كبير في سياق الحوادث اللبنانية اغتيال مدو. وفي الأحوال كلها تطاول الاغتيال الى صاحب شرعية اهلية او وطنية في وسعها ان تستقل بنفسها عن"اللاعب"السياسي والأمني المحكم قبضته تدريجاً على لبنان. وانقلب الناشط السياسي والنصير والمحازب الى"مقاتلين"على جبهات يتربص الأعداء والقتل بها وبهم. وانقلبت"النخب"السياسية والحزبية الى أجهزة اتصال ومفاوضة ومقايضة ومقاسمة وتوزيع وتعويض وإقصاء وتصفية. وتبوأت مقومات"القتال"المادية والسياسية، من علاقات شخصية وسلاح ومال ومعلومات وأحلاف وولاءات، مكانة عالية، واضطلعت بأدوار حاسمة. فبرزت الى أداء المهمات، والاضطلاع بالمقومات هذه،"كفاءات"جديدة ومختلفة عن سابقتها قوامها المرونة، والمعرفة الشخصية والمباشرة، والقدرة على إيحاء الثقة والأمانة، والولاء القوي و"المزدوج"لطرفي العلاقة أو أطرافها، والسرية والكتمان والتقية، بديهة. ولا تكبل هذه"النخب"نفسها وقد انتهت السياسة الى الحال التي انتهت اليها، وخسرت عموميتها وعلانيتها واحتكامها الى الرأي والحق - والحساب - بقيود بائدة مثل العمومية والعلانية والرأي. فرابطها الاول والامتن بمركز السياسة وقطبها، أي بالزعيم أو القائد أو الرئيس، هو رابط خاص، من شخص الى شخص. ولا ينتهك الرابط الخاص والشخصي، القائم على الولاء والجزاء المعنوي والمرتبي والمالي، اعتبار من ضرب مختلف. فلما آن أوان الحصاد الانتخابي والوزاري، منذ 1989، تصدت له، ولقطاف ثمرات"الانتصار"،"النخب"الاستخباراتية الحزبية. فحظيت بحصص الأسود من مراتب السياسة ومعارجها وعوائدها، على نحو توزيع"شعبة الكوادر"في الأحزاب الشيوعية والسوفياتية الوظائف والمراتب والمهمات. وحل"المسؤولون"الأمنيون، والمستشارون والموفدون الشخصيون، محل"الأعيان"السابقين الذين عركتهم أنشطة التنسيب والدعوة، والحملات النقابية والانتخابية والتظاهرات، والتأهيل المهني، والتحكيم العائلي الموروث أو الطريق المستجد، حلوا محلهم على لوائح الترشح، وسجلات الوظائف ورتبها ورواتبها. والحق أن رجحان القيادات الامنية على الجماعات والاحزاب السياسية، في مرحلة السلم المفترض شأنها في فصول الحروب والاقتتال، لم يكن"خطأ"او انحرافاً ارتكبته القوة الإقليمية"المنتصرة"وشركاؤها المحليون، على ما يقول القاصي والداني، والسياسي والموظف الامني. فهذا الرجحان وجه لازم، ولا يزال يلازم اصطناع دولة ومجتمع لبنانيين يقومان من العلاقات الاقليمية، السورية والاسرائيلية في المرتبة الاولى، مقام المسرح الفرعي والاحتياطي، وينبغي له ألا يخرج عن الدور او المقام هذا. وجزاء الخروج, فعلياً او جائزاً ومحتملاً،"استخباراتي"، ويترجح بين الإقصاء والعزل وبين القتل، بحسب خطورة العصيان ومكانة العاصي. ولا شك في أن"المقام"كرسه دور"حزب الله"، وصوغ الحزب على الشاكلة التي صيغ عليها، جماعة أهلية مسوّرة بمنظمة عسكرية وأمنية واجتماعية متماسكة حول قيادة كلية الولاء والانقياد السياسيين والشخصيين. وعوض ان تحذو المنظمات والاحزاب والجماعات السياسية على مثال سياسي مدني، علني وعمومي وحقوقي، فتنبعث الاجنحة والتيارات، ومعها الخلافات والبرامج والأفكار، غداة الحروب المتناسلة من رمادها الأهلي والعصبي، نسجت"الدولة"، إدارات وأجهزة وهيئات، على مثال المنظمات الامني. وحين يقرر مدير عام الأمن العام اللبناني، جميل السيد، ان الزعماء والوزراء والنواب و"شخصيات اخرى""انتقلوا من الشارع الى الدولة، ونقلوا اليها حواجزهم وخواتهم وسرقاتهم ... فدمروا الادارات الرسمية واقتسموها حصصاً وأزلاماً..." فهو انما يصف، شأن بشار الاسد، الرئيس السوري قبله، على وجه التقريب سياسة متعمدة قصدت الى إعالة"المنتصرين"، وجزائهم ومواليهم على ولائهم، وتمتين العلاقة الرحمية و"الضرورية"بقياداتهم المنظورة والخفية، وبسياستها"القومية"والاقليمية والدولية. وقصدت هذه السياسة الى اعتراض التغير السياسي والاجتماعي المتوقع، وإبطال توجهه شطر تكوين شرعية وطنية داخلية مستقلة ركنها تمثيل التغير وتعبيره أو التعبير عنه. وذلك على خلاف القسر والفرض اللذين يتوسلان بالأجسام العصبية، والحزبية و"العلمانية"منها والطائفية أقلها ضرراً، وبلحمتها الامنية ومنافعها ومراتبها، الى دوام الاستيلاء والتسلط. وعلى هذا ف"الانتماء الى الدولة"، بحسب عبارة جميل السيد، بينما"يأتي رؤساء الاجهزة في لبنان... مع سياسة ويتغيرون عند تغيرها"، على قوله كذلك، أمران متناقضان اليوم. فمنذ"الطائف"، لا ينفصل الانتماء الى"الدولة"من غرضية عصبية وسيطة، حملت على"القومية"وعلى"الثوابت الاستراتيجية"أو لم تحمل. * كاتب لبناني