تتصور الحملة الانتخابية اللبنانية في صورة مخاض يجيش بالكلمات والخطب والمنابر والوجوه المتلاطمة. ويحظى شطر بيروت الغربي، حيث المسلمون هم الكثرة الغالبة، بالحصة الأعظم من المخاض وجيشانه. فيكاد لا يسلم عمود كهرباء أو جدار في طريق داخلية، ولا تسلم شرفة ولو اقتصر إشرافها على بيت مهجور أو حائط متداع، من الصور الشمسية الفوتوغرافية الملصوقة أو المعلقة والمؤطرة. وكان بعض المرشحين بكروا في رفع صورهم على المواضع "الشريفة" والعالية، ونشروها وأفشوها بأعداد كبيرة، وتعمدوا، هم أو الشركات التي تعهدت دعاوتهم الانتخابية، تعليقها تعليقاً متصلاً يكسو، من غير فراغ أو فجوة، طرقات أو أحياء أو دوائر برمتها. وتبع المرشحين المبكرين هؤلاء - ومعظمهم خرج من المنافسة الانتخابية أو هو لم يدخل المنافسة البتة، وليست أسماؤهم في سجلات وزارة الداخلية، وهم إما من المازحين الهاذرين أو من مقتنصي الفرص "الاجتماعية" أو من المدمنين على إعلان الترشيح والتلويح به- تبع هؤلاء مرشحون جادون وراجحون، واقتفوا أثر السابقين، وزادوا عليهم فأغدقوا موارد لا تقاس بها موارد من قنعوا من الحملة الانتخابية بطباعة بضع مئات من الصور تولى عشرة أولاد لصقها أو تعليقها خلسة في الليل. وحين بلغت الحمى الانتخابية ذروتها، على ما جرى في الثلث الثاني من آب اغسطس، لم تخرج دعاوة المرشحين ولا خرجت خطابتهم حقيقة وفعلاً عن النهج الذي اختطه لها المازحون الهاذرون ومقتنصو الفرص والمناسبات والمدمنون على نشر صورهم والقانعون بها شعاراً وبرنامجاً. وما بدا في الأيام الأولى من تموز يوليو لعثمة وهذراً، ومناوشات شعائرية و"حروباً صغيرة"، على قول عسكريي القرن الثامن عشر الأوروبي تمهد الطريق الى الاشتباك الثقيل، تكاثر وتعاظم من غير أن يخرج عن الحال الأولى. وأقامت الحملة، وإيحاءات الكلمة الحربية، على طياحتها الأولى، ولم تترك لا خفتها ولا تأرجحها ولعبها وزركشتها الملونة والمتنافرة. فحسب المراقبون والمرشدون وأهل الحسبة والمحاسبة والكتّاب والنقّاد ودعاة السياسة على مثال مختلف والمصلحون، حسبوا جميعهم أن غلبة الصور، وأحوالَ الصور في الهواء الطلق وعلى الشاشة الصغيرة، والقولَ السياسي الذي يصاحبها ويبدو تعليقاً عليها لا يتعداها، هي قرائن ثابتة ومفحمة على "هبوط" الخطاب السياسي، وعلى الاستقالة من المناقشات السياسية البرنامجية. وشفع لهذا الرأي، وهو يصدر على حد واحد وسواء عن المنتصبين للإرشاد وعن الخصوم المتبارزين أنفسهم، وزكّاه انفلاتُ الحملات الكلامية من عقالها، وتعمدها تجريح الخصوم "في أنفسهم"، على قول أهل الحديث والآثار، والطعن على صدقهم وأمانتهم ونظافة يدهم وحسن تدبيرهم واستعمالهم المال العام والنفوذ. فاتفق بابا الحملة الانتخابية ووجهاها، وجه الدعاوة من طريق الصورة الفوتوغرافية والتلفزيونية ووجه القول والخطاب والكلام، اتفقا على الإغراق في التشخيص والتجسيد، ونزعا إليه، وبالغا فيه. فأينما توجه الناخب العتيد، أو أصاخ السمع، وقع على أشخاص من "لحم ودم"- أي من أسماء ووجوه ولحمة عصبية وولاء وحلف، وتقدمت هذه مواردَهم السياسية وأفعالَهم وقدراتهم ومقاصدهم. فظهرت الصورة الشمسية والفوتوغرافية كناية قوية وراجحة عن غلبة الشخص الفرد، إسماً ووجهاً، على السياسة العامة وما تفترضه من عموم ومن تجريد لغوي وفكري ومصلحي وزمني. ولعل لوم هذه الظاهرة، والعيب عليها إنكارها السياسة، وإنكارها عموم السياسة وتجريدها "الوطنيين"، وحطها بالسياسة الى تقديم الأشخاص الأفراد والأعيان واختصار الجماعات فيهم، لعل اللوم والعيب هذين يغفلان عن الحال التي صارت دائرة العلانية إليها. فما يخرج الى العلانية، ويتقاسم هذه العلانية ودائرتها وحيزها، ليس الحجج والبراهين والعلل المتبادلة والمحتكمة الى "عقل" مشترك، ولا الاحتكام إلى معايير مشتركة ينتج الاشتراك فيها عن الإحتجاج والإختبار والمنازعة. فمثل دائرة العلانية هذه تعرِّف أطرافها ومتجاذبيها بالقيام بأنفسهم، والصدور عنها، وانفكاكهم من عصبياتهم السابقة دخولهم الاجتماع السياسي، وتعرِّفهم بفصلهم بين خاصهم وعامهم، وباضطلاع الدولة برعاية هذا الفصل وحماية الحقوق المتساوية الناجمة عنه. ويفترض هذا التعريف صدارةَ القول والإحتجاج به، وتقديمَه معياراً للتمثيل والنيابة والتكليف، على نحو ما يفترض تمايز أسباب القوة السياسية من أسباب القوة الاقتصادية ومن المكانة الاجتماعية، واختلاف علل هذه عن علل تلك. وتؤدي الشرائط مجتمعةً إلى كثرة معايير التمثيل، وإلى ارتهان التمثيل بأوقات وعلاقات وموازين. وهذا ما يستحيل معه التمثيل المستغرق، أو التمثيل المستوفي الذي يجمع التمثيل على شخص، أو على حزب أوحركة، جمعاً غير مشروط. فإذا حصل مثل هذا الجمع غير المشروط لم يبقَ التمثيل تمثيلاً، نيابياً أو انتخابياً وسياسياً، بل انقلب الى تجسيد وتصنيم وتشبيه، على المعنى الديني، وعلا الهتاف القبلي والأعرابي من الأعرابية العصبية التي تسبق الهجرة والمعاهدة "بالروح، بالدم...". والحق أن المرشحين الى النيابة البرلمانية عن مواطنيهم اللبنانيين لا يملكون، اليوم، عدة التمثيل المستغرق ولا آلاته وشروطه. فالجماعات المتماسكة بالقرابة والإقامة وأسباب المعاش تصدعت منذ عقود. والبيروتي "الصميم"، على قول بعض الكتابات، أو "المصيطباوي من محلة المصيطبة البيروتية الصميم"، على قول لافتة أخرى، إنما تقال على سبيل المبالغة في التبني، وتوضع على "دخيل" صيداوي تارة أو عاملي جنوبي تارة ثانية. والجماعات الانتخابية التي نشأت عن هذا التصدع، وعن فعله، جماعات صناعية ومولَّدة زادتها الحروب المتطاولة، وهجراتها الداخلية والخارجية وتهجيرها صناعة على صناعة، وتوليداً على توليد. وقد يعود قسط من تصدي الجماعات الدينية المسلمة الى الاضطلاع بدور تمثيلي، سياسي واجتماعي من غير تمييز ولا فصام، إلى انفراط عقد الجماعات العصبية الناخبة في غمار الحروب الداخلية طوال ربع القرن المنصرم. فهذه الجماعات مثل "الأحباش" والأحباب و"الجماعة الإسلامية" والحلقات الصوفية أو الدراسية في مساجد بعض الأحياء في مدن الساحل والداخل، تضوي إليها في المرتبة الأولى شراذم أهل الضعف أو فتات العائلات الصغيرة، عدداً ومرتبة ونفوذاً. وكان أقطاب الأحلاف العائلية المتصدرة، منذ العقد الرابع الى منتصف العقد الثامن، يتعهدون مصالح العائلات الصغيرة هذه، ويدرجونها في خدماتهم الانتخابية، ويقايضون ولاءها الانتخابي رعايةً كثيرة الأوجه، "الدولة" و"أعمالها" مصدر معظمها أو الوسيلة الى بعضها. وهذه المقايضة أودت بها الحروب الملبننة. فأحلت الحروب التي خاضتها أجهزة سياسية وعسكرية وأمنية، محلية وإقليمية، أحلت محل الأقطاب والرئاسات الأهلية حركات من طينة الأجهزة نفسها. وكان شطر من هذه الحروب خاضته القوى المحلية والقوى الإقليمية ضد الأقطاب والرئاسات الأهلية، وعلى الأقطاب والرئاسات هذه. فهؤلاء يميلون الى الوطنية "القطرية" ويحتمون بها وبسيادتها من الاستتباع المستقوي بمصالح قومية خفية، وينزعون الى مراعاة مصالح جماعاتهم المباشرة وإلى الخندقة بها والإنكفاء عليها" ويخالف هذا السياسات التي تتولى مصالح تنسب نفسها الى آفاق أوسع وأعرض. وعلى هذا كان جمهور الأجهزة الحزبية، السياسية والعسكرية والأمنية والإجتماعية، من العائلات الصغيرة، ومن المراتب الدنيا من هرم العصبيات المخلخل والمستمر. وكان قيام أهل المراتب الضعيفة على أصحاب النفوذ والقوة والجاه وجهاً من وجوه الحروب الداخلية. وعللت الأجهزةُ الحزبية، وهي نشأت في هذه التربة الأهلية والاجتماعية معاً، قيامها تعليلاً اجتماعياً وسياسياً وعصبياً طائفياً من غير انفكاك. فمهدت الطريق لغلبة الروابط العصبية المتجددة على العلاقات والمباني السياسية والاجتماعية، وعلى المنازعات "الوطنية"، وآذنت بتجديد قوة هذه الروابط وبجمع العصبيات تحت لواء ضعفائها هذه المرة. وردد تعصب "المحرومين" مع موسى الصدر، ثم تعصب "المستضعفين" و"المظلومين" مع الجهاز الخميني الحزب اللهي، أصداء التحزب والتجمع السياسيين والاجتماعيين على نحو متطرف. وصبغ التعصبان اللاحقان التحزب والتجمع السابقين بصباغ تراث مهدوي وخلاصي. ووجد هذا التراث في "مجتمع الحرب"، وهو صنع بعضه، وفي عنفه المدمر وتهجيره القاسي وتقطيعه العرى الاجتماعية، مسوغات ماثلة وملحة ما زالت تهيمن على مخيلة الجهاز وخطب قادته وانتقلت صور الجهاز وكلماته الى "الدولة" من طريق العدوى والمحاكاة. وتولى الحكم، منذ نيف وعقد من السنين، التأليف بين خاص الأجهزة، وبواطن الجماعات التي تسوسها، وبين عام الدولة ومشتركها. وهذا التأليف محال وممتنع. فهو يخلط نوازع متنافرة بعضها ببعض. فيؤجج الخصوصيات ويدعو الى تقديم القواسم المشتركة" ويعوِّل على التضامن فيما هو يقسِر على الإعالة" ويطلب للسلطة السياسية والدولة الجامعة صلاحيات الجمع وقوة الحق العام ويتذلل لجماعة من الجماعات ويستقوي على أخرى بالتخويف والترهيب والإنتهاك. والحكم في أحواله كلها هذه يصدر عن إرادة دخيلة متسلطة تقصر السياسة على ذريعة عملية خالصة، وعلى احتساب نتائج عسكرية واقتصادية مباشرة يتستر احتسابها على دمار العلاقات والمباني السياسية والاجتماعية والثقافية المنتجة. وتظهر الحملة الإنتخابية والنيابية حال السياسة، وحال دائرة العلانية العامة والمشتركة في ختام ثلاثة عقود من تسلط الأجهزة، وفي ختام عقد من تسلط "الدولة" المؤتلفة من الأجهزة ومن نوازعها المتنافرة. فالحملة هي وارثة إفحام صور "الشهداء" وصرعى الأجهزة المنظمات المتقاتلة في "حروب" معظمها اغتيال مدنيين بواسطة القصف والقنص، وبعضها أعمال نهب و"خوة"، واقتسام مناطق نفوذ وجباية موقتة توقيتاً استراتيجياً، على معنى السيد سليمان طوني فرنجية، وعصياً على أفهام العامة تالياً. ف"السياسة" على المثال الذي بلورتها عليه الحوادث الحربية والأهلية والإجتماعية والإقتصادية المالية اللبنانية في غضون العقود الثلاثة الأخيرة، هم أقرب الى الأقدار المقسومة منها الى الأعمال المحسوبة. وتنزل الحوادث على الناس من خارج، أو من علٍ، نزول النعمة، وعلى الأكثر نزول النقمة. وعلى هذا انقلب جلاء القوات الإسرائيلية المحتلة عن الأراضي اللبنانية الى "معجزة"، أو الى علامة من علامات الغيب. والأثر الذي خلفه في لبنان، غداة أسابيع قليلة على حصوله، يقتصر على فولكلور سياحي رتيب وربما على زيادة كتلة "حزب الله" النيابية نائباً مارونياً وآخر مسلماً سنياً، إذا صدق المتكهنون. ويتصور خارج السياسة العامة هذا، وتقف المجالس النيابية دونه وتنكص عن تناوله والنظر فيه، في صورة السحر وطرقه الخفية والملتوية. وتفترض دائرة العلانية العامة والمشتركة، بصحافتها وجمعياتها ومداولاتها وتكتلاتها، توليد السياسة من داخل منازعات الدائرة هذه، وتفترض صنعَ السياسة من مادة هذه المنازعات. فإذا انقطعت السياسة، وقراراتها وأفعالها وخططها، من دائرة العلانية ومن منازعاتها وموازناتها، نُسبت السياسة، والقرارات والأفعال والخطط، الى مشيئات قادرة. ويزيد تصدع الجماعات السياسية والإجتماعية وضعفُها هذه المشيئاتِ وهم قوة على قوة، ووهم علو على علو. وعلى هذا يقوم داعي العمل السياسي على التقرب من المشيئات المتوهمة قوية وعلية. وعلى نحو ما هي صور "الشهداء"، ومجالس التبريك بهم، والاحتفالات بأعدادهم وأسمائهم، والخطب التي تجهر إراداتهم وتعقل عللهم القاطعة، هي حججُ الأجهزة على جمهورها، وعلى جماهير الأجهزة المنافسة، ومصدقُ دعوتها الى المسير على الطريق نفسها- على هذا النحو تبدو صور المرشحين قرابين يتقرب بها المرشحون "الضعفاء" الى أصحاب المشيئات العلية. فاقتصار معظم الصور على وجه المرشح العاري، وعلى اسمه ولقبه والمرشحون كلهم يثبتون ألقابهم: المهندس، القاضي، "الدكتور"، المحامي... إثباتاً قوياً، وعلى شعار خلقي عام النزاهة، الصدق، الأمانة، القضية، أنتم...، يبدو دعوة حارة الى اعتبار المرشح "في نفسه"، هذه النفس التي تمتد من الوجه والنظرة الى التحصيل الدراسي والمهني، وتقترن بالموضع الدائرة الانتخابية والمذهب المقعد. وكأن السياسة، أي ما اصطلحت المنظمات الحزبية على تسميته "خطاً" أو نهجاً سياسياً، تبعث على قدر من التجريد الذهني لا يتفق مع التشخيص والمحايثة الفرديين والأهليين، ولا يتفق مع التعالي البطولي والجمعي الذي تزعم بعض الجماعات والأجهزة الصدور عنه. ويماشي ذهاب بعض الكبراء والأعيان والمرشدين الى وصف الانتخابات وحملاتها تارة بالسأم من السياسة على قول السيد رفيق الحريري، وتارة أخرى بالقرف على قول مار نصرالله بطرس صفير، البطريرك الماروني، وثالثة بمستشفى المرضى العقليين على قول السيد نبيه بري، "مدير" المجلس النيابي - يماشي هذا المذهب حملَ جمهور المرشحين والناخبين ربما الانتخابات العامة على نوازع وانفعالات وأهواء غير سياسية. وطي صفحات الماضي، وهو ذريعة التحالف في لوائح مشتركة بين متقاتلي الأمس أو متخاصمي عقود طويلة خلت، قناع تُلبسه السياسةُ وجوهاً لم يبق للسياسة وجه أو معنى يحملها المرشحون عليه. وتتوالى فصول الحملة الانتخابية صوراً "عملاقة" تعلو المباني العالية، وتسبح في أثير سماوي أزرق، وتذيع على سواد الناس وعامتهم صفات أصحاب الصور البطولية: فهذا "صدى" البلاد وأهلها يوم النقع ضمناً، وذاك "درعها" ومجنُّها وحاميها، وثالث "كرامتها"، ورابع ديدبان "عرضها وأرضها" عند امتحان قوة الجماعة على البقاء... وتتوالى الفصول أخباراً تلفزيونية وصحافية محمومة، ومشاهد احتفالات أشبه بالمسيرات الحربية والزحف الجماهيري تحت غابة من الأعلام والألوية وفي وسط جموع من الهامات والقامات والأذرع والأعناق على ما يرى في صور صحيفة "المستقبل" الحريرية اليومية وصفحتها الأولى في الأيام العشرة الأخيرة من الحملة ببيروت، وعلى ما سبق "حزب الله" إليه في مهرجاناته المستمرة. فإذا نزلت الفصول الانتخابية من علياء مهرجاناتها ومسيراتها، ودخلت الحياة اليومية وسعيها المتثاقل، تهيأت بهيئة الإجتماع في المكاتب والمضافات و"الديوانيات" المبثوثة في أحياء السكن. وينصرف الأنصار في المكاتب و"الديوانيات" الى بث النراجيل أنفاساً حرى، وإلى لعب الشدة الورق، ومشاهدة التلفزيون، ورشف القهوة، وإلى صمت طويل وتحديق في قوائم الكراسي أو في جدران المكتب المكسوة بصور مرشحهم كسوة تامة لا فجوة فيها ولا ثغرة. فقد يسخر الكبراء والأعيان والمرشدون، ويسخر "المواطنون العاديون" والكتّاب والنقاد معهم، من ضحالة السياسة وتفاهة حالها. وقد يدعو هؤلاء وأولئك الى "الإرتفاع بمستوى الخطاب السياسي" وإغنائه بمشكلات الناس "الحقيقية". والسخرية والدعوة يحملان حال السياسة، والحياة العامة اللبنانية، على ما تظهران في مرآة الحملة الانتخابية، على العَرَض المفاجئ والفاقد مقدماته ومسوغاته وعلله. وكأن تآكل دواعي السياسة العامة والمشتركة، وضعف الباعث على التجريد والإحتجاج والحساب، وتقديم صورة القادة "في انفسهم" على الفعل وتاريخه ومنطقه، أو كأن انهيار اللحمات والمراتب الموروثة وتولي الأجهزة صناعة لحمة أهل الضعف وتجديدها محل المراتب القديمة، وإقحام السياسة من خارج وعلٍ - كأن هذه كلها من عَرَض التاريخ السياسي والعروبي اللبناني، أو من نوافله. وهذا إمعان في الغفلة عن تدبر التاريخ السياسي والعروبي القريب، واسترسال مع فعل هذه الغفلة. فالصورة تدعو إلى الإنبهار والإفتتان. والإنبهار والإفتتان غرق في اللحظة، وانقياد الى أبديتها الكاذبة وتشبيهها، وعزوف عن العالم المركب من أفعال ومعانٍ مختلفة المصادر. وهذا ما تدعو إليه العروبتان، السياسية والاقتصادية، الناس إليه صباح كل يوم وعشيته. وهو ما تصنع في سبيله حروب تحرير "مذهلة جداً"، على قول عَلَم ثقافي معروف. * كاتب لبناني.