في غضون الأعوام الخمسة عشر تقريباً التي تربع فيها جمال عبدالناصر زعيماً مصرياً وعربياً وإقليمياً أهدت سياساته، في أطوارها ووجوهها المتفرقة والمختلفة، لبنانَ هدايا متعاقبة، أخذت الواحدة بعنق الأخرى وبتلابيبها. فكانت الهدية الأولى أزمة سياسية جرجرت أذيالها طوال الأعوام 1954 - 1957، مدارها على الأحلاف الإقليمية والدولية، وانحياز الدولة اللبنانية، وعلى رأسها كميل شمعون رئيساً وسامي والصلح وزيراً أول ولو "باشكاتباً"، أو مدوناً، على قوله في رئيس الحكومة، السني عرفاً. فمالت سياسة لبنان الخارجية مع "حلف بغداد"، شأن العراق، الهاشمي يومها، والأردن واليمن الحميدية والمملكة العربية السعودية، الى تركيا وإيران البهلوية، على تفاوت كبير في ادوار هذه البلدان، سياسةً وحرباً. وأنشئ الحلف الشرق الأوسطي هذا على طول "الثغور" الجنوبية للاتحاد السوفياتي، بين البلقان غرباً والهند شرقاً، وكان جزءاً من الحزام الأميركي الأوروبي حول السلطنة المتبقية، وحدها، من عصر الامبراطوريات والسلطنات، والعازمة على التوسع تحت غطاء كثيف ومُعَمٍّ من الوعود والمزاعم والصيغ السياسية والاقتصادية والثقافية. وفي الأثناء كان عبدالناصر باشر صوغ الرسوم والمعالم الناصرية: فوقّع معاهدة جلاء البريطانيين من السويس 1954، وحضر مؤتمر باندونغ مع الدول "غير المنحازة" 1955، وابتدأ مفاوضات بناء السد العالي مع البنك الدولي اي الولاياتالمتحدة وشراء السلاح من تشيكوسلوفاكيا، بالوكالة عن الكتلة السوفياتية في 1955- 1956، ثم عمد الى تأميم شركة ملاحة قناة السويس 1956 واضطر الى مقاومة غزو حلف مثلث، بريطاني وفرنسي وإسرائيلي، تباينت مصالح زواياه واتحدت على السعي في طرد الرأس المصري، سند تصفية السيطرة الأوروبية على شرق السويس وشمال افريقيا، وحليف التسلل الفلسطيني من العريش وغزة "المصرية" الى بئر السبع وضواحيها 1956- 1957. وفي الأثناء "طهّر" "الريّس" الصاعد كتلة "الضباط الأحرار"، وانفرد بالسلطة، وحل الأحزاب، وأنشأ حزبه، "المؤتمر القومي"، من موظفي الأجهزة الأمنية والوجهاء المحليين، ووزع بعض الأرض على متوسطي الفلاحين وأعلن عن بعض هيئات القطاع العام "القومية"، ونشر "فلسفة الثورة" الرسمية، وألحق الصحافة والإذاعات، ومنها "صوت العرب"، بهيئة عاد إليه بت شؤونها الكبيرة والصغيرة. فغرق لبنان، دولة أو حكماً وجماعات اهلية، في دوامة تجاذب حادة. فالرسوم والمعالم الناصرية تخالف، خطوطاً عامة وتفاصيل دقيقة، الرسوم اللبنانية، السياسية والاجتماعية، الطرية العود. فلا العلاقة الوثيقة بالغرب، ولا الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولا البرلمانية "الفيديرالية" على ما وصفها مكسيم رودنسون الفرنسي، ولا الموازنة بين المصالح المتباينة - تتفق والمنازع المصرية والناصرية، وريثة دولة مركزية و"آسيوية" سعت في سوس الناس والجماعات والاعتقاد والرأي والكتابة على نحو سوسها الترع والقنوات والسدود والمياه. وكانت الهدية الناصرية الثانية للبنان "حوادث" ربيع عام 1958 وصيفه، على ما سمى اللبنانيون طويلاً تمرينهم الأول على حرب داخلية هي ثمرة زواج خلافاتهم - الوطنية على الهوية والسياسية على السلطة والاجتماعية على العوائد والتوزيع - بالسياسات والمنازعات العربية والإقليمية. فغداة الوحدة المصرية السورية، وهي اعلنت في شباط فبراير 1958، انفجر الخلاف المبكر بين كميل شمعون، "الحلفي"، وبين الرئاسات السياسية المسلمة. واقتصرت "الحرب" بين المسلمين العروبيين الحاجين الى دمشق وبين المتحفظين، على مناوشات وجبهات محلية مدّتها الاستخبارات "المتحدة" بمغاوير فلسطينيين عسر على مراقبي الأممالمتحدة رصد آثارهم. فلم تتجاوز "الحرب" مدن الساحل السنية من طرابلس شمالاً الى صيدا جنوباً وبيروت بينهما إلا الى "الغرب" الدرزي المطل على الساحل، والمتصل بالداخل السوري من طريق وادي التيم. وقام على الرئيس الماروني، المتحدر من عروبة ما بين الحربين وهواها البريطاني وطاقمها من الأعيان، قام حلف من رؤساء الطوائف والأسر الذين رعى رئيس الجمهورية سقوطهم الانتخابي المدوي من غير ان يتستر على الأمر. اما الهدية الناصرية الثالثة فكانت مهادنة الجمهورية العربية المتحدة - على ما سميت دولة الوحدة الى حين تصدعها في ايلول سبتمبر 1961، واحتفظ عبدالناصر بالاسم لمصر وحدها - الدولة اللبنانية في عهد فؤاد شهاب، قائد الجيش السابق. وآذن بالمهادنة هذه لقاء الرئيسين اللبناني و"العربي" على أرض بعضها لبناني وبعضها الآخر سوري. فوسع فؤاد شهاب جمع متقاتلي 1958 في مجلس نيابي زاد عدد نوابه من 44 الى 99، وفي وزارات جمعت "الأقطاب" وعمَّر بعضها عشرين شهراً، وهي مدة طويلة قياساً على الأشهر السبعة التي كانت متوسط "عمر" الوزارات. وكانت تتمة هذه المهادنة، أو وجهها الآخر والملازم، سفارة مصرية فلا قبلها ولا بعدها ندبت الدولة السورية الى لبنان سفيراً تولاها سفير مزمن قام من السياسة اللبنانية الداخلية والإقليمية مقام الرقيب والحسيب، ومن الجماعات الموالية مقام المرجع والحكم. ولم تضعف رقابة السفير اللواء عبدالحميد غالب غداة الانفصال السوري. وخلف ما سمي "الحلف الإسلامي" "حلف بغداد" على العداوة الناصرية. وملأت منازعاته، والمنازعات في صدده، الثلث الثاني من عقد الستينات. ففي صيف 1958 استولى ضباط عراقيون، ناصريون و"تقدميون" وبعثيون ورفقاء درب الحزب الشيوعي، على بغداد. وفي 1961 انقلب ضباط يمنيون ناصريون على العاهل اليمني. واندلعت في شبه جزيرة العرب حركات استقلالية مسلحة، كانت القاهرة سندها ولسانها. واستقلت الجزائر في صيف 1962، وتربع في رئاستها احمد بن بلة، وكان من ضيوف القاهرة الثابتين، وكانت القاهرة معقل الحكومة الموقتة، قبل ان تثقل اجهزتها على الجزائريين وتضطرهم الى جوار الحبيب بورقيبة. وأنشأت القاهرة منظمة التحرير الفلسطينية، وضمتها الى جامعة الدول العربية. ودعا تحويل اسرائيل روافد نهر الأردن الدول العربية الى عقد قمتها الأولى في آخر 1963 وأول 1964. وكان عبدالناصر ادخل مصر، في 1961 - 1962، في طور إدارته الاشتراكية. فأمم معظم الشركات والمنشآت الكبيرة والمتوسطة وأعاد توزيع الأرض للمرة الثالثة. وأنشأ "الاتحاد الاشتراكي" في صيف 1962، وأوكل إليه قيادة "ايديولوجية" متشددة وسوفياتية لفظاً. وعلى رغم تعثر مباحثات "الوحدة" بين مصر الناصرية وبين القيادات السياسية والعسكرية المنتسبة الى الناصرية في العراق وسورية واليمن والجزائر، فلا شك في ان عبدالناصر كان يتربع في سدة قوة عربية وإسلامية كبيرة، وإن ضعيفة التماسك. وحملت الانقلابات "الناصرية" السياسة المصرية على محاصرة منطقة الخليج وشبه جزيرة العرب، شمالاً العراق وجنوباً اليمن، ومن ورائهما تركيا وإيران. فلما حرّكت روافد الأردن المسألة الفلسطينية من جديد، ودعت الدول العربية الى الرد على المبادرة الإسرائيلية الى التحويل، وكان حزب البعث الاشتراكي نجح في الاستيلاء على الحكم ببغدادودمشق معاً في خريف 1963، وخطت حرب اليمن الأهلية خطواتها الأولى، انفجر الخلاف العربي والإقليمي على سياسة الشرق الأوسط "حرباً عربية باردة"، على قول مالكولم كير الأميركي. وكانت الحرب هذه اوسع من بلاد العرب، وتخطتها الى تركيا وإيران. ولم تكن باردة كلها، فاليمن كان مسرح عنف متعاظم، شارك الجيش المصري في تعاظمه، واستعمل السلاح الكيماوي في بعض الوقائع الحربية. وأدى كشف كامل مروة، منشئ صحيفة "الحياة" اللبناني، الأمر الى اغتياله عن يد ناصري بيروتي في ربيع 1966. فكانت الهدية الناصرية الرابعة الى لبنان العودة عن المهادنة السابقة، وخوض معركة "الحلف الإسلامي" الصحافية والأمنية، وبعض المعركة الديبلوماسية على أرضه، أي بين جماعاته وفي مؤسساته وعلاقاته الديبلوماسية. ودامت المعركة هذه الى عشية حزيران يونيو 1967. ولم يفض ضعف الرئيس المصري، غداة حزيران، الى استقرار لبناني. فتوجه الناصريون والعروبيون اللبنانيون الى المنظمات الفلسطينية المسلحة، وأيدوها، وانقسموا على مثالها، وطلبوا مساندتها السياسية، قبل ان يطلبوا المساندة العسكرية، على هيئات الدولة التمثيلية والتنفيذية والأمنية. فكان الحلف الثلاثي، الماروني، عشية انتخابات 1968، وهو الهدية الخامسة، ثأراً من الشهابية، وبقاياها الأمنية، تضافر عليه رئيس الجمهورية المستضعف، شارل حلو، والغرضية الشمعونية "المعزولة" والمستبعدة من الوزارات والخدمات، والجمهور الناخب المسيحي المنكر سطوة الموظفين واعتباراتهم على مقدَّميه وناخبيه الكبار وعلى فوضاه الاجتماعية. وزاد عبدالناصر هداياه هدية سادسة، هي اتفاق القاهرة في خريف 1969، بين الدولة اللبنانية، أو قائد جيشها الموعود بمساندة "الناصريين" له في انتخابات رئاسة الجمهورية الوشيكة في صيف 1970، وبين منظمة التحرير الفلسطينية، أو منظماتها المسلحة الكثيرة المشارب والمتنازعة المصادر والمصالح. وكانت القوات المصرية تخوض "حرب استنزاف" محدودة، يتولى عسكريون سوفياتيون التخطيط لها وقيادتها السياسية الفعلية، فلا تجنح الى مواجهة مبكرة، تأكل الجيش المصري قبل ان يستعيد بعض مقوماته، ولا يبرد رمادها برد الموت. فكان لا بأس، في ميزان سياسة ناصرية لا تزال تحتسب الساحات العربية في مواردها المتناقصة، من فتح كوة لبنانية في جبهة شمالية أي سورية مهيضة. وأراد جمهور المسلمين اللبنانيين، وخصوصاً السنة هذه الكوة. فأوكلوا إلى التلامذة والطلاب الشيوعيين، وإلى "قبضايات" الأحياء وزعمائها النابتين وأولاد أسرها القديمة ومخاتيرها، الدعوة إلى "اتفاق" يُخرج الدولة اللبنانية وسياستها المتحفظة من المخيمات الفلسطينية ويُدخل إليها، من غير رقيب، السلاح السوري والعراقي، وأجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية، والجماعات الإرهابية الأوروبية، وتجار التجارات على أنواعها، و"الأحزاب" اللبنانية العروبية. فكانت هذه مطية انتشار المسلحين في ربوع لبنان وسياسته. وعندما توفي عبدالناصر، في أواخر أيلول سبتمبر 1970، اتفقت وفاته مع إخراج القوات المسلحة الأردنية المنظمات الفلسطينية "الفدائية" من مخيمات شرق الأردن ومدنه وأغواره. وكان خروج المنظمات إلى الأراضي السورية. وحاول الجيش السوري دخول الأراضي الأردنية ليحول بين المنظمات الفلسطينية وبين هزيمة ساحقة، فمنعه سلاح الجو الإسرائيلي وسلاح الدروع الأردني من التقدم في أراضي الأردن. ولما استولى الفريق الطيار حافظ الأسد على الحكم علانية، وهو كان رجل الظل القوي منذ نيف وعامين، في تشرين الثاني نوفمبر 1970، أوكل إلى "ضابطة فدائية" حظر العمل الفلسطيني المسلح والسياسي على الأرض السورية ومنها، وتوجيه الفلسطينيين إلى لبنان من طريق وادي التيم وجبل الشيخ ومزارع شبعا إياها، أو من طريق الشام العريضة، بذريعة اتفاق القاهرة. فكان "تخزين" الفلسطينيين في لبنان على قول صلاح خلف "أبو اياد" إبان أزمة ربيع 1973 بين الدولة اللبنانية وبين "الأهل" اللبنانيوالفلسطيني، والتمهيد المباشر والقوي للحروب الملبننة، خاتمة هدايا السياسة الناصرية، الهدية السابعة، إلى اللبنانيين وعلاقاتهم المضطربة. وما لا تلم به رواية الوقائع الناصرية في لبنان، على هذا النحو، هو مفارقة الأثر الناصري في الحياة السياسية اللبنانية. وتتصل بموقع لبنان من مجتمعات الشرق الأوسط أو الأدنى، بالأحرى. فالناصرية - على الوجوه التي تلقتها عليها الحركات والتيارات والانفعالات السياسية والاجتماعية في مصر نفسها وفي المجتمعات هذه - كانت حركة عامية نسبة إلى العامة والعوام وعلى خلاف الأعيان والكبراء في مجتمع مرتب على مراتب موروثة، تفصل بينها فروق عميقة وبعيدة، وتنهض بعض عناصر الفروق هذه على تحدر شطر راجح من الطبقات العليا من أصول أجنبية، وعلى رجحان كفة الأرض وملكها واستثمارها في الميزان المرتبي. فصبغ قيام "أولاد البلد"، من أبناء الفلاحين، على "الباشوات"، من أصحاب الأطيان ومستثمري عوائد القطن في العقارات والنسيج ومخازن السلع الفاخرة وأسهم الشركات المالية الأجنبية، صبغ بصبغته الفاقعة الناصرية المصرية والإقليمية على حد يكاد يكون سواء وواحداً. فكان الأثر الناصري قوياً في مجتمعات ودول عربية، على مثال مصر نفسها في مستهل الخمسينات من القرن العشرين، لم تنجز بعد "ثورتها" العامية و"الوطنية" أي الحاملة الضغينة والكراهية على الأجنبي الغربي، على ما تصورت وتمثلت الناصرية إلى يومنا، ولا تزال متعثرة بعلاقات مرتبية متينة تحول بينها وبين نشأة حركات سياسية واجتماعية "من تحت"، أي من المجتمعات نفسها، ومن عامتها ونخبها العامية. ولعل القرينة الأقوى على هذا هي الأثر الناصري في الطاقم العسكري العراقي، والطاقم اليمني، والطاقم الأردني، قبل الطاقم الليبي، وفي الطاقم السوري نفسه على تنازع وتخصيص، إلى الأثر الناصري في بعض بلدان شبه جزيرة العرب والخليج. فما يجمع بين هذه البلدان، أو بين أبنيتها السياسية والاجتماعية، هو ضعف حواشيها العامية والمحدثة إذا استثنيت سورية، يومها، واستثنيت بعض النخب المجتمعية العراقية، وقوة مراتبها الموروثة وحصرها السلطة بيدها، واستبعادها العاميين المحدثين وأبناء الريف وهذا يدخل سورية والعراق في الباب. وعلى خلاف المجتمعات هذه، وأبنيتها السياسية والاجتماعية، كان لبنان المجتمع أنجز "ثورته" العامية بحسب الرطانة "التقدمية" نفسها قبل قرن من الزمن، في شطره المسيحي، وابتدأ انجازها منذ نصف قرن في شطوره المسلمة، على تفاوت وتقدم وتأخر - فلم تكن "الثورة" العتيدة حامت حول الحمى الدرزي وهي لم تحم بعد إلى اليوم... فنشأ لبنان عن حركات فلاحية، وعن فلاحين ومزارعين ملكوا الأرض، حواكير وقطعاً صغيرة في معظمها، باكراً. وكان "رؤساؤهم"، على قول شاهين مكاريوس المرجعيوني الأرثوذكسي، منهم، ومن تجارهم وكهنتهم وكتبة دواوين الأمراء ومدبري "بكوات" الدروز وبعض الشيعة. وربطت هؤلاء الرؤساء والعامة بالغرب الأوروبي، ودوله وكنائسه ولغاته وسلعه وموانئه وبعض أسره، أواصر بعيدة من المرتبية وعارية منها، وواعدة وعداً محققاً في أحايين كثيرة بحراك اجتماعي رفدته الهجرة برافد قوي وفاعل. ولعل الفرق الزمني هذا، بين ابتداء الجماعات المسيحية اللبنانية دخولها الحداثة الاجتماعية والسياسية وبين دخول جماعات المسلمين هذه الحداثة، مفتاح من مفاتيح الانقسام اللبناني، الطائفي والسياسي، وأثر السياسة الناصرية فيه. فانحياز جماعات المسلمين اللبنانيين الى الحركات العروبية، او إلى "الداخلية"، على ما سميت البلاد الفلسطينية والسورية وما وراءها شرقاً، كان انحيازاً عصبياً وقرابياً في شطر منه. وتغذى من علاقات القرابة والمصاهرة و"الصداقة" بين الأعيان والنخب "العثمانيين"، على ما لم يفتأ الرئيس السوري الراحل، حافظ الأسد، يذكر معجباً ومزكياً ومؤبداً. ولكن هذا الانحياز كان، في شطر آخر منه، اجتماعياً. وتغذى من تأخر قيام جماعات المسلمين، في الريف والمدينة، قبل "إلحاقهم" بلبنان و"ضمهم" إليه على ما قيل في الأقضية الأربعة غداة 1920 وإنشاء لبنان "الكبير" بما سبقت إليه جماعات المسيحيين من اضعاف روابط القرابة والجوار، وتفتيت الملكيات الزراعية، واستعمال التعليم والهجرة في التحول من مرتبة اجتماعية قليلة الموارد الى اخرى أغنى موارد وأكثر تنوعاً. فأقامت جماعات المسلمين اللبنانيين، وخصوصاً الشيعة والدروز، على موالاة زعامات اهلية قديمة". فكان احمد الأسعد وصبري حمادة وكمال جنبلاط وقبلهم عبداللطيف الأسعد وماجد حمادة والست نظيرة جنبلاط "زعماء - طوائف" على معنى تقمص طائفة الواحد منهم زعيمها وشيخها. وهذا لم ينفك، الى يومنا المبارك، دأب "القيادات" العروبية وقبلة سعيها وسعي من يرمي بواسطتها الى تثبيت سلطانه "الأبدي" على اللبنانيين. ولما لاحظ الرئيس اللبناني والاستقلالي الأول، بشارة الخوري، وهو المتحدر من جيلين من "كتّاب" المتصرفية، لما لاحظ نازع المسلمين، ولا سيما الشيعة الى التخلص من رئاساتهم الأهلية، والاستقلال برأيهم في احزاب حديثة ينقلون إليها ولاءهم، نصحهم، في خطبة ألقاها فيهم في 1949، بصون زعاماتهم، وحذّرهم الخلافات والانقسامات التي تنشأ عن الاستقلال بالرأي، وخوفهم ما صار إليه اللبنانيون المسيحيون جراء الرأي "العامي". فلما ائتلفت حركات سياسية أو تيارات "رأي" و"حساسية" على المعنى الفرنسي من اولاد المهاجرين من الضيع والبلدات الى المدن اللبنانية، كان قيام هذه الحركات على الزعامات الأهلية والعصبية وخروجها عليها قطب الائتلاف هذا، وباعثه المحلي. وعزا اصحاب التيارات والحركات الحديثة دوام الزعامات الأهلية والعصبية الى "النظام" اللبناني، ونزولها منه منزلة عالية، وإلى تحكمها في الحصة التي تعود الى الجماعات الأهلية من الوظائف الإدارية، وهي قبلة الأنظار يومها، والجسر الى تعليم الأولاد وارتقائهم الى المهن "الشريفة" والمجزية". فقلبت التيارات والحركات السياسية الحديثة، من شيوعية وقومية عربية و"سورية" وبعثية وناصرية فيما بعد، قلبت تأخر جماعاتها الموقت والظرفي عن الركب اللبناني، الى علة في الزعامات اولاً، وفي "النظام" الطائفي، الإقطاعي، والانعزالي، والموالي الاستعمار، والتبشيري، ثانياً. واضطلع القلب هذا، على معنى كيميائي أو تحليلي نفسي، بدور ايديولوجي متشعب. فعيّنت الحركات والتيارات العربية، من هذا الطريق، غاياتها السياسية والاجتماعية في التقدم من غير الإقرار باحتذائها على المثال المسيحي اللبناني والعربي، بل هي انكرت هذا الاحتذاء. فجمعت بين "الطبقات القديمة" الغالبة على جماعات المسلمين اللبنانيين وبين "النظام" اللبناني برمته. فزعمت تجانسه الاجتماعي والسياسي، وهو بعيد منه. ونأت بمطلبها الحقيقي في التلبنن والتبرجز "الصغير" الاجتماعيين والثقافيين عن الاندماج السياسي في لبنان و"نظامه". وكأن تحصيل الحقوق الاجتماعية، وشرائط التنمية والمساواة، امر منفصل من المواطنية المواطنة ومستقل عنها. ف"اقتصر" تورطها اللبناني، "القطري"، على الرسوم الاجتماعية، من تعليم ومهنة وسكن ودخل واستهلاك وذوق وبعض الحرية الشخصية او الفردية. وأقامت، من وجه آخر، على عصبية سياسية اهلية وجامعة، وجهها الى العواصم "العربية"، وكأن بيروت ليست منها، وإلى القضايا "العربية"، وكأن إرساء الدولة اللبنانية على تماسك وطني ودستوري جامع ليس قضية انموذجية ومصيرية. فنجم عن انفكاك السياسة العصبية والأهلية و"الدينية" من المصالح الاجتماعية انفكاكاً يكاد يكون فصامياً، دوران السياسة على شلل وشراذم محلية وعائلية، يتصدرها "قادة" تحركهم الاستخبارات المصرية في انتظار الأجهزة الفلسطينية والسورية والليبية والإيرانية وموظفوها، من وجه، ودورانها، من وجه آخر، على مسائل "الوحدة العربية" و"التحرر" من الاستعمار و"تحرير فلسطين" و"الاشتراكية" و"الحياد الإيجابي" و"قوى الشعب العامل". ولم يكن بين وجهي السياسة هذين رابط . فوسع الجماعة الناصرية الانصراف الى مشاغلها ومسرح عملها، من غير التفات الى الجماعات الأخرى. وعلى هذا، نشأت ناصريات عددها على عدد العصبيات الأهلية، وعلى مراتب هذه العصبيات من الاجتماع والسياسة. فكان للمتعلمين اللبنانيين في مدارس جمعية المقاصد الإسلامية الخيرية ببيروت وصيدا وإقليم الخروب وريف طرابلس وعكار ثم في جامعة بيروت العربية بعد 1960، ولمتعلمي الفلسطينيينوالأردنيين في الجامعة الأميركية ببيروت، ناصريتهم ومنظمتهم ودعاوتهم. وكان لأحياء بيروت، وعائلاتها، ونقاباتها اصنافها القديمة ناصرياتها المستقلة والمتناسل بعضها من بعض، والمنشق بعضها عن بعض. وكان لبعض اعيان السياسة مثل رشيد كرامي المتحدر من اسرة مفتين طرابلسية يرجع اجدادها الى اوائل السلطنة العثمانية في الديار المشرقية، او مثل معروف سعد، "الفتى" الصيداوي على معنى فتوة المدن الإسلامية والمتطوع للقتال بفلسطين في 1948، كان للواحد منهما ناصرية انتخابية عريضة. وأدخل كمال جنبلاط في عداد المصادر التي استلهمها حزبه "التقدمي الاشتراكي"، وهي كثيرة ومتجددة بين الوقت والوقت، ادخل الناصرية مصدراً. وتعاظمت مكانة المصدر الناصري مع تعاظم دور السياسة المصرية العربي، ومع تعاظم حاجة الزعيم الدرزي الى جسر يخرج طائفته وزعامته من حلقتهما الضيقة. وكانت هذه الجماعات، على اختلاف احوالها ومشاربها، تلبننت على مقادير ووجوه متباينة ومتفاوتة. وآية لبننتها التحاق العامة فيها، أو "عوامها"، بمعايير اجتماعية وسياسية لبنانية، وأخذها بهذه المعايير. وكان التعليم، وتوسع تقسيم العمل وازدياد مرافقه، ونشاط التجارة والمصارف، وسياسة سوق الصرف المرنة، وضعف تكلفة الإدارة، عوامل في انتشار المعايير الاجتماعية والسياسية اللبنانية من غير حاجز طائفي او محلي. ولكن اللبننة المتعثرة وهي تعثرت بتأخر الالتحاق بلبنان أولاً،وبقوة العصبيات الأهلية ثانياً، وبفصام السياسة من الاجتاع ثالثاً، وبضعف سيادة الدولة رابعاً حالت بين مراتب الجماعات هذه وبين دمجها في كتلة اجتماعية متماسكة بعض الشيء، على خلاف ما حصل في "مجتمع جبل لبنان" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكان من ثمرته تبلور حركات عامية نهضت على قوة اجتماعية متنامية. ومهما كان من امر التيارات العامية الإسلامية اللبنانية، وقعت العامية الناصرية في لبنان موقعاً مخالفاً ومفارقاً. وكان ميشال عفلق، أحد مؤسسي حزب البعث العربي قبل زيادة "الاشتراكي" وقلمه ولسانه، ذهب، مبكراً وقبل انقلاب السياسة إلى استيلاء، الى أن "معركة لبنان أي استمالته الى التوحيد العربي هي معركة تقدمية العروبة"، وخروجها من القسر العصبي والعسكري الأمني إلى رحاب الحركات السياسية والاجتماعية الطوعية والائتلافية الكونفيديرالية. فتحلق حول السياسة الناصرية أو مشى ركابها على ما مر بعض أعيان الجماعات الأهلية الإسلامية، القدماء والجدد. فاجتمع أعيان الناصرية اللبنانية وعامتها، وهم على ما هم عليه من التفرق والتعادي والانحصار الطائفي والارتداد على ثقافة مجتمعهم السياسية وحركته الاجتماعية، اجتمعوا على عروبة شعبوية، أو قومية شعبوية تترجح بين الانقلاب من فوق، أو دخول الحكم محاصصة، وبين "الانتفاضة" التحتية المدمرة التي تبيح السلب والتحريق والقتل وينهض حريق القاهرة، في كانون الثاني / يناير 1952، الفصل التمهيدي من حركة "23 يوليو"، علماً عليها. * كاتب لبناني.