نحتاج نحن العراقيين الجدد إلى وقفة تأمل جادة وعميقة بعد احتفالنا الرائع بيوم الانتخابات العظيم الذي سطرنا فيه ملحمة برهنا فيها لانفسنا، قبل أن نبرهن للعالم، بأننا حقاً ورثة شرعيون لبناة حضارات عريقة قدمت للبشرية منذ لحظة إشراقها معينها الذي لا ينضب من العلم والثقافة والفكر والمعرفة. نحتاج نحن العراقيون الجدد إلى وقفة التأمل هذه كي نستخلص الدروس ونستلهم العبر ليس فقط مما جرى على ايدي جلادينا وقتلتنا او على ايدي هذه الضواري التي تجوس بين ظهرانينا باحثة عن فرائس بريئة، ولا مما يجري لنا على ايدي وألسنة البعض ممن لا يزالون يستخفون بمعاناتنا وآلامنا وبكدحنا وعنائنا من اجل النهوض من رماد المآسي، بل ايضاً على أيدي البعض من بيننا الذين لا هم ولا شاغل لهم الا السلطة والوثوب عليها، عبر تكتيكات تفتقد للحس السياسي والاخلاقي السليم ولاستراتيجيات وطنية لاعادة بناء الدولة على اسس صحيحة. أول هذه الدروس ان جمهورية الخوف التي اقامها نظام الطغيان الصدامي قد انهارت بأسوارها وزنازينها، والاهم من كل ذلك، بثقافتها المشينة وإلى الابد. فملايين العراقيين التي خرجت متحدية الإرهابين، سواء من بقايا زمر ذلك النظام او من حلفائهم الجدد، لم يرد في خيالها أدنى شك في انها حين تفعل ذلك فإنها تزيل بمعول ورقة الاقتراع آخر حجر في جدران الخوف التي شيدها صدام وظل يتحصن خلفها الإرهابيون الساعون إلى استعادة جمهورية الخوف او استبدالها بأمارة او خلافة على غرارها. فقد كان الاذعان لتهديات الإرهابين والقتلة والمهرجين يعني تحول العراقيين إلى مجرد مسوخ مجردين من قيم الارادة والشجاعة والكرامة وكان ذلك سيعني المهانة بعينها والخضوع إلى ارادة الشر وإلى الاحابيل الماكرة التي تنطوي عليها مخططاتهم. ثاني هذه الدروس ان العراقيين لم يعودوا يسيروا نياماً خلف شعارات الكذب والتلفيق التي كانت تنتجها آلة غسيل العقول الصدامية كما لم يعودوا متلقين لكليشيهات التهيج التي يطلقها المطبلون والمزمرون من الوسطاء والسماسرة بل أصبحوا اليوم منتجين حقيقيين للفعل والافكار والمعايير الخاصة بحياتهم بعد ان ظلوا سنوات طويلة في محبس افكار لا تتلاءم مع قناعاتهم ولا مع قيمهم ولا مع مصالحهم. كما أن انطلاق العراقيين من عزلتهم وخروجهم إلى العالم وانتقالهم إلى زمن رحب آخر تمخض عنه زيادة وتوسيع الوعي اضافة إلى نبذ السلبية والتساهل وتزايد الدور الذي يمكن ان يلعبوه في ادارة اللعبة وفرض أنفسهم كمنتجين للقوانين التي تتحكم بصنع مستقبلهم. ان كل هذا يعني ان العراقيين بدأوا باستعادة ارادتهم الحرة الواعية والتي اختبروا جاهزيتها في معركة الانتخابات. ثالث هذه الدروس هو ان الديموقراطية بما تعنيه بداية من حق الاختيار الحر ليست هجينة او مستوردة كما انها ليست دواء لا يتقبله الجسد العراقي العليل كما ظلت تروج ثقافة الاستبداد والفكر الشمولي دائما. فلقد خرجت الحشود الهائلة من المقترعين في المدن والأرياف لتؤكد على خطل الخرافة المزدوجة بأنهم غير جديرين بتحمل مسؤولياتهم السياسية وان مجتمعهم ليس مؤهلاً بعد لخوض غمار التجربة الديموقراطية. فعلى رغم كل اسوار العزلة التي فرضت عليهم خلال كل هذه العقود فإن ابلغ ما كشفت عنه العملية الانتخابية للعراقيين هو هذا التوق والحماس ليس فقط إلى استكهان ما تعنيه حقا تلك الكلمة الساحرة، الديموقراطية، بل إدراك تجلياتها وتطبيقاتها العملية. ان اهم وأخطر نتيجة لذلك هو أن العراقيين يقفون للمرة الأولى في حياتهم امام تجربة يصنعونها بأنفسهم وبحرية، وهو امتياز انتزعوه بإرادتهم ووعيهم، بقدر ما هو واجب يقتضي أيضاً إلزامه مسؤولية توفير ضمانات استمرار وديمومة التجربة. إن من الطبيعي أن شعباً عانى كل هذا الألم على يد نظام تسلطي قمعي لا تزال فلوله تحلم بالعودة إلى السلطة ينشغل ايضاً بما يضمن له تحقيق الحكم الراشد وكفالة عدم العودة إلى تلك الايام السود البغيضة تحت اي مسمى كان. الدرس الرابع يكمن في ارادة الوحدة الوطنية التي اظهرها العراقيون سواء من بين الاكثرية العددية الذين تشبثوا بخيار الانتخابات وواجهوا افخاخ الموت بكل شجاعة وكبرياء كي يدلوا بأصواتهم أو من بين الآخرين الذين تخلفوا عنها مفضلين الجلوس على الأسوار او من بين فئة صغيرة من الذين قاطعوها وراهنوا على فشلها. هناك اليوم تجربة مشتركة واضحة الدلالة تجمع العراقيين سيكون من المحتم البناء عليها خارج أطر الغالب والمغلوب والاغلبية والاقلية وبعيدا عن الحسابات الضيقة وروح الانتهازية السياسية المجردة من المبادئ، والاهم من كل ذلك، انبثاق وترسيخ القناعة بأن العراق الجديد لا بد أن ينهض على أسس جديدة من العدالة والمساواة والثقة المتبادلة ونبذ سياسات الماضي القائمة على التمييز والاحتكار والاقصاء. لقد اختلف العراقيون على الانتخابات وجدواها وربما نتائجها ولكنهم لم يختلفوا على العراق ذاته وعلى عراقيتهم، وهذا أبلغ الدروس وأغناها عبراً. وماذا بعد؟ ليست الانتخابات بحد ذاتها غاية بل هي وسيلة لإخراج العراق اولاً من محنته الحالية، وثانياً من الاحتمالات السيئة التي تحيط به والسيناريوات الكارثية التي ترسم له كما انها الطريقة السلمية الوحيدة الناجحة لإعادة بنائه. لذلك فإن المرحلة التي تلي عملية الاقتراع هي التي يجب ان يتوجه اليها الاهتمام بهدف اكساب العملية الانتخابية جدوى بعيداً عن جو الاثارة والشحنات العاطفية التي صاحبت واحتفت العملية ذاتها. فاختزال ما جرى بمجرد التعبير عن الحق في الاختيار ستكون عملية لا قيمة لها وساذجة بل تشكل خطراً حقيقياً على انجاز الاهداف المطلوبة ان لم يكن انتكاساً اكيداً لمشروع إعادة بناء العراق برمته، مما يستدعي السؤال مرة ثانية وثالثة وأخيرة وماذا بعد؟ قد لا تكون نتائج الانتخابات نموذجية ومعبرة عن كل توقعاتنا وآمالنا بل ستكون بكل تأكيد محفوفة بالكثير من الشكوك والهواجس وربما الممارسات الشاذة. فلربما سيهيمن على المجلس الوطني الانتقالي جماعات لم يكن بالإمكان ادعاؤها وضعاً متميزاً لو كانت الانتخابات جرت في ظروف أخرى. من المحتمل أن تعلو اصوات لا تعبر بالضرورة عن التنوع في غنى الإرث العراقي والإنساني المشترك ولا عن المصلحة الحقيقية للعراقيين. قد تجلس في المقاعد الامامية للمجلس القادم إلى جانب قادة وطنيين وممثلين حقيقيين للشعب شخصيات لا همّ لها الا لعبة السلطة والاستحواذ عليها لغايات ذاتية ومصالح ضيقة بل ربما سيكون من بينهم من يحتقر الديموقراطية والسياسة بل وايضا ممن تلطخت أياديهم بدم العراقيين وشاركوا في تعذيبهم واهانتهم اضافة إلى نصابين وفاسدين وسراق أموال عامة ومن توجه نحو ذممهم السبابات وتثار حول ماضيهم الظنون. ومع ذلك فليس هناك أمل من غير نجاح هذه الانتخابات واتمام نتائجها بتشكيل المجلس الوطني الانتقالي وبدء عمله. إن المهمة الرئيسية لهذا المجلس هي وضع اللبنات الاولى لإعادة بناء الدولة العراقية من خلال صياغة الدستور الدائم الجديد وهي مهمة وطنية شاملة يجب أن ينهض بها الجميع بشكل مسؤول ومتساوٍ وتكافلي وقائم على رعاية مصالح الشعب والوطن وبعيدا عن الحسابات الشخصية والفئوية الضيقة. لقد افرزت الحرب التي قادت إلى سقوط النظام الصدامي اوضاعا واصطفافات اجتماعية وسياسية جديدة بفعل تفكيك بنى الدولة والمجتمع وبسبب التباينات الشديدة بين الهويات او المكونات العراقية من قوميات وأديان ومذاهب وعشائر وعوائل وشبكة الولاءات التي تحوكها حولها مما يحتم انبثاق دولة جديدة بكل معنى الكلمة بمؤسسات وأطر سياسية تكون حاضنة لكل هذا التنوع البشري وحامية لاندماجه الطوعي ومدافعة عن مصالح كل فئاته. هذه المهمة ليست باليسيرة وينبغي التنبيه منذ البداية إلى ضرورة عدم التهوين من شأنها كي لا تتكرر المأساة التي رافقت تشكيل الدولة العراقية السابقة عام 1921 بسبب التدخلات الاستعمارية والتعالي المفرط على الواقع وهويات الذين أقاموا على المشروع القديم. إن السؤال الذي يواجه اعضاء المجلس الوطني الجديد والجماعات السياسية التي تقف وراءهم هو أي عراق جديد يريدون إعادة بنائه؟ لن تكفي الإجابة طبعاً بأنهم بصدد بناء عراق ديموقراطي تعددي فيديرالي موحد فذلك شعار براق يحتاج نقله إلى ارض الواقع إلى اكثر من النيات الطيبة وخطابات سياسية وايديولوجية غامضة بل حتى متناقضة. ما هو مطلوب من هذه الجماعات النظر إلى القضايا الرئيسية خصوصاً مستقبل اوضاع التشكيلات القومية والمذهبية والدينية بقدر كبير من الوضوح والصراحة وبشكل يستند إلى الجدوى السياسية والاقتصادية الكلية للمشروع الوطني الجديد، أي بمعنى آخر تقاسم السلطة والثروة على أسس عادلة لكن واقعية. وينبغي أن يكون واضحاً منذ البداية أن هذا التقاسم لا يجب أن يكون بأي شكل من الاشكال محاصصة في الوظائف والنفوذ والمكانة ومصادر الاموال العامة بين زعامات هذه الجماعات وما يتوقعون الحصول عليه من منافع ومصالح شخصية او فئوية، مثلما جرى في الفترة الانتقالية الماضية، بل هي تأسيس لمبدأ المشاركة الحقيقية بين مواطنين متساوين وضمان علاقات تبادلية في اطار توزيع منصف للانتاج والثروة. ولذلك، فإن على كل عضو في المجلس الانتقالي من العرب والاكراد والشيعة والسنة والآخرين ان يدرس بشكل جيد ومستفيض قصة تأسيس الدولة العراقية القديمة وما آلت اليه قبل أن يبدأ الخطوة الاولى في سن الدستور الجديد. عليه ان يتقصى بحذر ووعي اسباب فشلها في تحقيق دولة قومية حديثة تكون لكل مواطنيها وليس لجماعة منهم فقط. عليه ان يبحث في الاستراتيجيات والتكتيكات التي اتبعتها الزعامات والنخب الدينية والاجتماعية والعشائرية لصياغة سياسات تهدف لخدمة اهدافها الضيقة وليس بناء وطن متين الاسس والقواعد. عليه ان يجهد في الكشف عن العلل التي أدت إلى خيانة وتخلي تلك الزعامات والنخب عن الآمال العريضة التي وضعتها فيها القطاعات الواسعة من العراقيين. عليه أن يتعمق في درس علاقات الموالاة والتبعية التي حاكتها تلك الجماعات مع القوى الاستعمارية حينئذ والانتكاسات التي خلفتها بسبب مراهناتها على الخارج ومحاولات الحصول على الدعم والحماية منه والانعزال عن قواعدها في الداخل مما خلق تلك الفجوة الهائلة بينها وبين مساحاتها الاجتماعية مثلما سهل الطعن في شرعيتها. وعليه اخيراً ان يراجع ما خلفته سياسات التيارات الطائفية والشوفينية البلهاء على تشكيل هوية عراقية وطنية أضر غيابها أشد الضرر بفكرة الدولة ذاتها وتركها كما رأينا في الحرب الاخيرة هشة وضعيفة تهوى مثل قصر من الرمال. واذا كان ذلك هو دور النائب والحركات السياسية التي يمثلها في المجلس القادم فإن دور المواطن العراقي الذي دفع ثمنه دماً وعرقاً ودموعاً وهو يوصل صوته إلى صناديق الاقتراع أهم وأخطر. فالعراقي الذي نبذ الخوف من قلبه واستعاد وعيه وأصر على ممارسة دوره لا يجب أن يترك مصيره يقرره له حفنة من السياسيين المحترفين مهما كان ماضيهم ومهما كانت صدقيتهم وإخلاصهم للقضية طالما أن صوته هو الذي أوصلهم إلى مواقعهم. لقد حققت الانتخابات غايتها التي كانت بنظر الكثيرين مستحيلة والآن على العراقيين أن يثبتوا مرة أخرى أنهم قادرون بأصواتهم ايضاً على تحويل المستحيل إلى ممكن. كاتب عراقي.