مهما تكن الانتقادات او الملاحظات التي توجه الى مجلس الحكم الانتقالي الذي اعلن عن تشكيله في العراق فإن من المؤكد انه يبقى اسعد خبر سمعه العراقيون منذ سقوط نظام الطاغية صدام حسين في التاسع من شهر نيسان ابريل الماضي. هذا الاستنتاج لا علاقة له بوجهات نظر عاطفية او شخصية تجاه المجلس او اعضائه او شروط انبثاقه، وانما له علاقة بالحقيقة التي هي في اللحظة الراهنة من تاريخ العراق وضمن العملية السياسية الجارية لا تعريف لها سوى انها كل ما يتفق ومصلحة الشعب العراقي وضمان مستقبل بلاده. ولنبدأ بالملاحظات اولاً. هناك جملة ملاحظات موجهة الى الطرف الاميركي باعتباره قوة احتلال تمتلك السلطة الفعلية في ادارة العراق المحتل، بشأن الطريقة التي تم بها تشكيل مجلس الحكم الانتقالي، اذ يصعب تصور عدم وجود أجندة أميركية هي التي بلورت ظروف اطلاق مجلس الحكم الانتقالي وصيغته وتشكيلته. الواضح ان الادارة الاميركية استغلت حالة الفراغ السياسي التي نشأت عن انهيار الدولة ومؤسساتها وغياب بديل جذاب اضافة الى الوضع النفسي السيئ وحالة اليأس التي نتجت عن الاوضاع المتردية التي رافقت الاسابيع الاولى من الاحتلال لكي تقدم للعراقيين هذا المجلس بصيغته وبتركيبته بعدما كانت امتنعت في البداية ثم ماطلت في تسليم السلطة او حتى القبول بمشاركة اطراف عراقية حليفة فيها مفضلة الانفراد بذلك من خلال الادارة المباشرة للاحتلال والاستعانة بعراقيين كمستشارين. وما يزيد من الشكوك في النيات الأميركية هو غياب أي وثيقة تفصح عن علاقات تعاقدية بين قوة الاحتلال والمجلس - الذي يعمل ك "ممثل للبلد الموجود تحت الاحتلال" - تحدد واجبات ومسؤوليات كل طرف وفقاً للقانون الدولي وللمصالح العليا للشعب العراقي، أو تضع جدولاً زمنياً لإنهاء الاحتلال واستعادة السيادة العراقية كاملة. طريقة اختيار المجلس من دون المرور بأي شكل من اشكال الانتخاب او الاختيار العام اضافة الى غياب رؤية أميركية معلنة يلقي ظلالاً من الشك على الاهداف الأميركية سواء ما يتعلق بالنموذج الديموقراطي المنشود او بدرجة الاستقلالية المطلوبة لعراق المستقبل. الملاحظات المتعلقة بالطرف أو الاطراف العراقية كثيرة بدورها، عبّرت عنها قوى عراقية مختلفة وتمثل نقاط نقد جديرة بالاشارة. في المقدمة هناك تأكيد من جانب الاطراف والشخصيات التي تشكل منهم المجلس وهم عبروا عنه فور الاعلان عن المجلس، بأنهم يمثلون كل مكونات الطيف العراقي الاثني والديني والمذهبي والسياسي، وهذا تأكيد تراه يمنحها الشرعية والصلاحية اللازمتين لممارسة دورها. غير ان الواقع، في هذه الحال، ليس سوى واقع افتراضي. فمثل هذا الادعاء يحتاج الى أدلة يصعب توفرها من غير احتكام الى صناديق الاقتراع. الامر الآخر هو صعوبة الاعتماد، عملياً، وفي هذه المرحلة تحديداً، على صيغة لتوزيع الحصص على اساس الانقسام الافقي والعمودي بين عناصر المجتمع العراقي ومكوناته، من جهة، وتركيبته السياسية المتداخلة، من جهة ثانية، على رغم ان اي تجربة للحكم في العراق المستقبلي تحتم ضرورة تحقيق العدالة في التمثيل النسبي. ان ما يؤكد تجريدية صورة مجلس الحكم هو تمثيل رجال دين ورجال اعمال ليبراليين وبعثيين سابقين الى جانب سكرتير عام للحزب الشيوعي للشيعة، بينما يجمع التمثيل السني بين ممثلين للعشائر واسلامين وليبراليين، وهو الامر الذي يثير تساؤلات حول وحدة القياس في النشاط السياسي الذي يزمع المجلس القيام به في ظل هذه التشكيلة المتشابكة والمتداخلة اجتماعياً وسياسياً. هناك ملاحظة اخرى، أو تساؤل يتعلق بالرؤية أو المنظور السياسي والفكري المشترك الذي يجمع بين الاطراف المكونة للمجلس بشأن المشكلات والقضايا التي يواجهها الواقع العراقي السياسي والاجتماعي والثقافي المعقد والمتشابك وهل أنها متفقة على برنامج حد ادنى لمعالجة المخلفات التي أورثها النظام البائد وهل يجمعها اتفاق معين حول وسائل التغيير السياسي وآلياته؟ هذه المجموعة من التنظيمات والشخصيات، على رغم اتفاق بعضها على مواقف مشتركة عبرت عنها في مؤتمر لندن للمعارضة السابقة، إلا أنها بالتأكيد ليست حركة تحرر وطني او حتى ائتلاف مؤطر بميثاق او برنامج موحد، ما يثير تساؤلات حول قدرتها ودرجة استعدادها للوصول الى حلول وسط وتقديم تنازلات واستنباط رؤى مشتركة لمواجهة تحديات المرحلة الحالية واستحقاقات المرحلة اللاحقة خصوصاً أنها تنطوي على خلافات وتناقضات عديدة بعضها قابل للحل عبر التسويات وبعضها الآخر قد يكون سبباً لاندلاع الصراعات. ملاحظة اخرى، هي ان هناك طابعاً شديد الرمزية في اختيار الفصائل والشخصيات التي شكّل منها المجلس بخاصة تلك التي خاضت من الخارج بمستويات مختلفة نضالاً مثابراً لاسقاط النظام الصدامي إلا أن الحقيقة التي يجب ان تظل سائدة هي ان اسقاط ذلك النظام كان مهمة تاريخية لم تكن لتنجز من دون اضطلاع فئات الشعب العراقي كافة في الداخل والخارج بها، ما يعني ان الفرصة الاكبر يجب ان تمنح لاسباب عملية واخلاقية لاولئك الرجال والنساء الذين قارعوا نظام صدام فعلاً وبإمكانهم الآن ان يقدموا طاقاتهم وتجاربهم لمهمة انجاز التغيير والعبور. اعلان المجلس بهذه التشكيلة له خصوصية وظروف المرحلة الانتقالية لكن ينبغي ان لا تؤسس منذ الآن قواعد قسرية لاقتسام الحكم او الثروة او الامتيازات، قائمة على رصيد رمزي او قواعد او سلوكيات تغمط حق الآخرين خصوصاً وفي المقام الاول الدور الذي يجب ان تلعبه الفئات الطليعية في المجتمع ذات القدرة على الابداع والابتكار والنخب الثقافية والفكرية التي ستحمل على عاتقها عبء المهمة التاريخية لاعادة البناء المادي والنفسي للعراق والعراقيين. هذه الملاحظات لن تقلل من حقيقة ان الاعلان عن تشكيل مجلس الحكم كان فعلاً خبراً ساراً لجميع العراقيين ولكل القوى التي تحب لهم الخير ولكل المتطلعين في هذا العالم لنجاح التجربة العراقية، وسيكون حدثاً تاريخياً عندما يستطيع المجلس انجاز مهماته الاساسية وعلى رأسها استعادة استقلال وسيادة العراق بأسرع وقت ممكن. ان اهمية الاعلان عن تشكيل مجلس الحكم نابع من الادراك المبكر للعراقيين للمخاطر والشرور التي بدأت تحيق ببلادهم وبمستقبلهم من جراء انعكاسات الحرب وواقع الاحتلال والمشاكل الجمة التي انشأها خصوصاً الفراغ السياسي الذي خلفه. هذا الفراغ خلق الفرصة لبقايا وشراذم النظام البائد لكي يستخدموا اساليب العنف والتدمير التي تمرّسوا عليها للخروج من حال النزع الاخير التي ادخلتهم هزيمتهم فيها، كما خلق الارضية المناسبة لاولئك الذين يكرهون ثقافة التفاوض ولم يألفوها بعد لكي يلجأوا الى الارهاب لتحقيق غايات غير مشروعة ويملوا مطالبهم على الآخرين. هناك ايضاً فئات متضررة من التغيير الذي حصل واطاح امتيازاتها غير المشروعة، لذا فهي تستفيد من هذا الفراغ في تأجيج العلل والمشاكل او تضخيمها اضافة الى بث الاحابيل والاكاذيب بهدف افشال مشروع التحول والبناء واستعادة مكاسبها او للعبث والابتزاز. الفراغ خلق ايضاً حالة من اليأس بسبب المصاعب التي ولدها عدم القدرة على مواجهة مشاكل الفوضى وانفلات الامن وانعدام الخدمات الاساسية والانهيار شبه التام للنشاط الاقتصادي الضروري لإدامة الحياة. الآن يمكن القول إن ثمة أملاً، مهما كان رفيعاً، بأن يكون الاعلان عن تشكيل المجلس بداية لنهاية الفوضى وانعدام الامن وللمعاناة الانسانية ولحالة الاحباط التي رافقت الاسابيع التي تلت الحرب والتي رسمت صورة كالحة لامكان ان يقدر العراقيون على انجاز التغيير المنشود كما هي ايضاً بداية للشروع في بناء التجربة العراقية التي طال انتظارها للقطيعة مع ماضي النظام الصدامي البغيض بكل ما يمثله من ظلم وظلام وخراب مادي وروحي. هي خطوة اولى ربما، متواضعة وملتبسة ومحفوفة بالشكوك مثلما هي محفوفة بالمخاطر والصعاب، لكنها غنية بالفرص وبالآفاق التي يمكن ان تفتح السبل امامها في المستقبل. إن اللحظة التي يمر بها العراق هي لحظة تاريخية بكل المقاييس تتطلب وعياً تاريخياً وادراكاً واقعياً للحاضر بروح المسؤولية الوطنية اضافة الى احساس عال بمتطلبات المستقبل ومهماته. لكننا كعراقيين يجب ان ندرك ايضاً ان ليس بالأمل والتفاؤل وحدهما يمكن ان نبني بلادنا التي دمرها الطغيان والاستبداد الذي مارسته عصابة منحطة ارتكبت بحقنا وبحق اجيال مقبلة من العراقيين ابشع الجرائم. بل لا بد من البدء سريعاً بعمل خارق يرتقي الى نبل تضحياتنا وتطلعاتنا، عمل يعيد الثقة الى انفسنا ويعيدنا الى دورنا الحقيقي كأحفاد لبناة اولى الحضارات الانسانية التي قدمت للبشرية اروع انتاجاتها المادية والفكرية. بالمعنى العملي هذا يتطلب الاسراع بإتمام مهمات المرحلة الانتقالية ووضع لبنات المرحلة الدائمة من دستور وقوانين وانظمة ديموقراطية تتجاوب مع تطلعات الاغلبية التي ستقرها في استفتاء عام كما يتطلب انجاز المهمات العاجلة والمباشرة من استتباب الامن وتوفير الخدمات الضرورية واعادة تشغيل عجلة الاقتصاد. هذا يضع على اعضاء مجلس الحكم الانتقالي امام مهمات جسيمة لكن عليهم ان يعوا أن ليست هناك شيكات على بياض تقدم اليهم، وان الهم الوطني والاحساس بالواجب هو الدافع لتقديم الدعم والعون لهم وان مسؤوليتهم هي العمل لتلبية تلك المطالب الوطنية. كما يضع على كل الفئات الاجتماعية والقوى السياسية والنخب الفكرية والثقافية امام واجب ومسؤولية أن تنحّي جانباً انانيتها ورؤيتها الضيقة الى مصالحها وخلافاتها، وان تضع أيديها بأيدي بعضها بعضاً للشروع منذ الآن بمبادرة نهوض وطنية شاملة. انه قدر العراقيين والسؤال الذي يواجههم منذ الآن هو ان يكونوا أو لا يكونوا ابداً. بل انه قدرهم في ان يقدموا للمنطقة التي هم قلب نطاقها الجغرافي والسياسي والتي يسودها العجز والشلل والمهددة بالانهيار نموذجاً انسانياً فريداً قدمته من قبل وعلى مر اكثر من سبعة الاف سنة سومر وأكاد وبابل والكوفة وبغداد. هذه الحقيقة تضع على نخب المنطقة العربية ايضاً واجب الدفاع عن التجربة العراقية الوليدة ودفعها حتى لو حفلت بالاخطاء والعثرات لأن في نجاحها سيكون لهم ما يمنون به انفسهم ويتطلعون اليه ويطالبون به انظمتهم. أما الفشل، لا سمح الله، فإنه لا يعني غير عزف سيمفونية الوداع لكل الآمال والتطلعات والبقاء في مستنقع الشمولية والتخلف والبؤس والخضوع. * كاتب عراقي.