"ليست كلماتنا مقنعة، وهذا ليس فقط لأن السكان في الشرق الأوسط لا يصدّقون ما نقوله، لكن أيضاً لأننا، نحن وهم، لا نتفق على معنى الكلمات التي تشكل قاموسنا الأخلاقي. فالأميركان وأهل الشرق الأوسط قد يوافقون، مثلاً، على أن من الخطأ قتل حياة انسانية بريئة. لكننا لا نتفق على من هو "البريء" ومن ليس هو". هذه احدى الفقرات النادرة التي لا يجانبها الصواب في كتاب عصبي وتحريضي أصدره أخيراً "المحافظان الجديدان" ديفيد فروم وريتشارد بيرل بعنوان: "نهاية الشر: كيف تربح الحرب على الإرهاب" راندوم هاوس، 384 صفحة. والفقرة ص 150-151 تصيب هدفها، وهي بالتأكيد تفعل أكثر مما تفعل الدعاية الانتخابية للرئيس جورج بوش المتحدث عن عالم يتغير نحو الأفضل. وهذا ليس لأنها تردّ الى "صراع حضارات" مزعوم، بل لأنها تحيل الى افتراق في الكونين المفهوميين صادر عن أسباب أشد تعقيداً بكثير من مطالعة صموئيل هانتينغتون ومن أفكار صاحبي الكتاب المذكور. فإذ ينفي دونالد رامسفيلد أن يكون الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين احتلالاً، ويطالب علي السيستاني بديموقراطية انتخابية لا هاجس لديها إلا اقامة حكم أكثري متعجل، ويضع المعلقون العرب مزدوجين حول كلمة إرهاب، ويؤكد الاسرائيليون وقطاع واسع من الغربيين على تأهب اللاسامية للانقضاض من فرنسا، وتشكك أكثرية الكتّاب المسلمين بوجود اللاسامية جملة وتفصيلاً... يتضح هذا الافتراق المفهومي وتلك الأزمة الاتصالية العميقة في زمن موصوف بثورة الاتصال. ويتبدى، تالياً، كما لو أن استقطاباً قَبَلياً يعصف بالعالم مُرسَّماً، في حالات كثيرة، بحدود جغرافية أو اثنية، مذهبية أو دينية. وليس يلوح في الأفق من يملك القدرة على التصدي لمثل هذا الاستقطاب. حتى أوروبا، بصفتها مكاناً وبصفتها مفهوماً، وجد من يحاول فرزها الى قارة قديمة وأخرى جديدة، بينما عجز الأوروبيون، وهم افتراضاً وسط العالم وأعلاه، على برهنة أنهم واحدون يسعهم الاحتكام الى دستور قابل للولادة. أما الأممالمتحدة فجاءت نهاية الحرب الباردة لتلحق بدورها شللاً يعززه صعود مسائل غير مسبوقة لم تُعَدّ أصلاً لمواجهتها. وبدورها لم تقتصد السياسة الاميركية، على الأقل حتى أسابيع قليلة خلت، في استثمار علامات الضعف والتلكؤ عاملةً على ترسيخها ومأسستها. أما المراهنون على الحركة الاقتصادية عنصر توحيد، أو تقريب على الأقل، فلا يجدون الكثير من البراهين التي يُعتدّ بها. فنحن بعيدون جداً من مجرد الحلم بمشاريع من نوع مارشال، فيما التصديع الذي تنزله الليبرالية الجديدة بصمامات الأمان الاجتماعي لبعض البلدان حائل فعلي دون ضبط الأكلاف الجائرة للعولمة النيوليبرالية. يزيد البؤس بؤساً عجز كثير من تلك البلدان عن وقف حروبها الأهلية وفسادها وسوء استخدام نُخبها للسلطة، ومن ثم انشاء دول تستطيع بها الانخراط في العولمة. ومن ناحية مقابلة، يبقى من المرعب أن نفكر بحقيقة تبدو، للوهلة الأولى، بسيطةً هي أن الولاياتالمتحدة التي تفرز الجو، بعد البر، أعطت أولويتها للاعتبار الإيديولوجي وتظاهراته الأمنية على المصالح والمنافع. وربما جاز القول ان آية الله الخميني هو من افتتح عصر القطيعة المفهومية والفعلية هذا. فبإعلانه جمهورية "اسلامية"، وبتأسيسه "ديبلوماسية" من طراز خاص تنطوي، بين ما تنطوي عليه، على خطف الديبلوماسيين رهائن، حقق قفزة نوعية بهتت أمامها دينية بعض البلدان باكستان، اسرائيل أو مداخلات بلدان أخرى في شؤون غيرها، لا سيما سلوك الديبلوماسيتين الأميركية والسوفياتية. وأخطر مما عداه ان الظافرية الخمينية ضربت ضربتها فيما كانت المرجعية الأخلاقية لايديولوجيات ما بعد الحرب العالمية الثانية تنحسر وتنكفئ وتفقد جاذبها. فالماركسية اللينينية، بعدما وعد خروتشوف بتشذيبها من الستالينية، أتى عليها الصدأ البريجنيفي كلياً، بينما كانت الناصرية المصرية تطوي أعلامها ضمن عملية من تنكيس الأعلام أقدمت عليها حركتا "الحياد الايجابي" و"عدم الانحياز". وفيما سجلت أواخر السبعينات خسارة الحزبين المؤسسين لدولتيهما، المؤتمر الهندي والعمل الاسرائيلي، الانتخابات للمرة الأولى، أشارت ثورة ليخ فاليسا البولندية، المدعومة من بابا روما، الى أن أوروبا الشرقية، هي أيضاً، في صدد البحث عن مرجعية أخلاقية يمكث الدين في موقع متصدّر منها. وبدورها، جاءت أفكار النسبية القصوى واتجاهات التمرد على التنوير تكسر الجوامع والمقدمات المشتركة للسعي الانساني الى التقدم، كما حاول نقد الاستشراق عسكرة المعارف وإحكام ربطها بالبيئات واللغات والهويات التي صدرت عنها، وبالسياسات التي "تخدمها". وكانت الستينات، على رغم استثناءات كبيرة كخليج الخنازير وحروب الهند الصينية وحرب 1967 العربية - الاسرائيلية، قد شكلت محاولة بناء جسر يصل الايديولوجيات والأديان و"الحضارات" واحدها بالآخر. فإذ اختُتمت الخمسينات على أصداء المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، افتُتح العقد الجديد بالمجمع الفاتيكاني الثاني. ومثلما صعد حزب العمال البريطاني بقيادة هارولد ويلسون مطالع ذاك العقد، أُغلق العقد على صعود الاشتراكية الديموقراطية الألمانية بقيادة ويلي برانت وسياسته "الشرقية". وعلى هول حربها، لم تستطع فيتنام ان تحجب السياسات الداخلية التقدمية لليندون جونسون ممثلة ب"المجتمع العظيم" وإصدار مرسوم الحقوق المدنية، بعد انفتاح جون كينيدي على عالم ما بعد الكولونيالية في آسيا وافريقيا. حتى الحركات الراديكالية الكبرى في "العالم الثالث" بدت كأنها تغالب حيرتها بين الانتظام في النصاب الدولي القائم والتمرد المحسوب عليه. وبمعزل عن الأوهام وهذيانات العظمة التي عصفت بمعظم زعمائه، لم يفارقهم الظن بأنهم إنما يسعون وراء حداثة ما وأن الدولة، لا الديانة أو القبيلة أو العشيرة، مدارها ومناطها، على الأقل نظرياً. صحيح ان الائتلافات والتحالفات التي قامت إبان الحرب الباردة لم تكن ايديولوجية وقيمية إلا نادراً، بدليل صداقة واشنطن الديموقراطية مع أنظمة لا صلة لها بالديموقراطية والحداثة، وصداقة موسكو الاشتراكية مع أخرى عسكرية أو فردية بحتة. إلا أن الصلات هذه انضوت في النصاب الدولي، السياسي والديبلوماسي، كما لم تخلُ من تأثرات ايديولوجية، ولو في حدود طفيفة غالباً. فالأنظمة المحافظة التي حالفت واشنطن أضافت الى منظومتها المعتقدية مصطلحات "العالم الحر" و"الاقتصاد الحر"، مثلما أدخلت في وعيها وممارستها مفهوم "المصالح المشتركة"، بينما أعلنت أنظمة عسكرية عن تبنّيها "الاشتراكية العلمية"، أو الاستعداد لإجراء مزاوجة ما معها. وفي المعسكرين ضبط الانتظام الاستراتيجي الايقاعات الصغرى والطرفية على إيقاعات مركزية أكبر. غير أن التحالفات الراهنة، وقد ابتدأها حلف واشنطن مع "المجاهدين الأفغان" أواخر عهد الحرب الباردة، لا تندرج في أي وجهة يصح إسباغ المعقولية والمعنى عليها. بل في بؤرة المجاهدين ومختبر تجربتهم، ولد الطرف الذي تحدى واشنطن، كما تحدى حضارة الحداثة برمتها، ما استجرّ إحدى أشرس حروب التاريخ المعاصر. ومع الحرب الاميركية على الارهاب، وعلى رغم محاولات "المحافظين الجدد" إضفاء بُعد ايديولوجي ما على الأحلاف السياسية، تعاظم دور العنصر الأمني مصحوباً بالرشوة في بعض الحالات في رسم خريطة العلاقات الديبلوماسية الدولية. ومفارقة كهذه انما تبلغ اليوم ذروتها الكوميدية-التراجيدية في "الصداقة" المستجدة بين واشنطن و"الجماهيرية" الليبية. والراهن ان صداقات من هذا الصنف، أو تلك التي يعاد اختراعها في حالة باكستان الاسلامية ودول مماثلة، إنما تنم عن انعدام كل نسقية في العلاقات الدولية لما بعد 11/9. وهي، تالياً، تنم، وهنا الخطورة الأعظم، عن تموضع هذه العلاقات في موقع ضدي من الشرعيات التكوينية للأنظمة المذكورة، كائناً ما كان الرأي بهذه الشرعيات. فلأن الحرب على الارهاب تستدعي نشاطية مبالغاً فيها من الأصدقاء الجدد نرى النظام الباكستاني، مثلاً لا حصراً، ينتقل بين ليلة وضحاها من شراكة أمنية مديدة مع الأصولية الأفغانية الى مكافحة ضارية لها، ومن بيع أو نشر المواد الأولية لأسلحة الدمار الشامل الى الوشاية بمشتريها ومتلقّيها. وهذا ما يسمح بافتراضات تشكك بديمومة مثل هذه الصداقات المتعجلة والانقلابية، وبكونها غلافاً رقيقاً لانفجار محتمل يطيح، بين ما يطيح، جسور الاتصال المتوهمة. ولئن شهدت الحرب الباردة، من ناحية أخرى، صراعاً موازياً هدفه الاستحواذ على الهيمنة الثقافية كونياً، وهو ما تعدى الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي الى المنافسة داخل المعسكر الواحد نيويورك/ باريس أو موسكو/ برلين، فإن استحواذاً كهذا ليس مطروحاً الآن على أي كان. وتدل معركة الحجاب التي اندلع لهيبها في باريس وبلغ عواصم الشرق الأوسط الى أن الرمزي والقطعي هما فعلاً سيدا الموقف. فالمعركة، بتعريفها، ومن قبل طرفيها، من النوع الذي يسد الطريق أمام معانٍ ومصالح أبعد وأشد اشتراكاً، فيما يرسّم الحدود بدقة بين كل طرف وبين "آخر" له. وليس بلا دلالة، هنا، أن معظم النقاش الغربي لم يتطرق الى الاسلام وثقافته ومجتمعاته وحركات إصلاحه، علماً أن المسألة المطروحة تندرج في خانة التلاقُح بين جسمين، فيما لم يتطرق معظم النقاش المسلم الى التجربة الجمهورية ومفاهيم العلمنة ودور المدرسة ومعنى الحيّز العام. وقد يقال ان الولاياتالمتحدة، لا سيما "المحافظين الجدد"، معنيّة بالموضوع الايديولوجي تغييراً لمناهج تعليم، أو حضاً على تأويل أشد عصرية للدين في البلدان الاسلامية، أو نشراً وتعميماً لمنتوج أميركا الثقافي. غير أنها، على ما تنجزه من مكاسب هنا وهناك، تبقى محاولتها هذه متعثرة، وربما متناقضة النتائج والآثار، بنتيجة غياب الأطراف المحلية الوازنة التي تحملها وترعاها. وأما الوجه الآخر لهذا الغياب فقصور المحاولة نفسها، والذي ترفعه النزاعات السياسية والاقتصادية، وأحياناً العسكرية، مع البلدان المعنية، الى مصاف بنيوي. فالمحاولة المذكورة إنما تفد في سياق تناحري على غير صعيد، ما يسهّل إلحاقها ب"العدو" الاميركي والاسرائيلي، حيث يتبدى الأخذ بها مجرد إذعان لإملاء المنتصر. وإذا ما قيل ان الحقب الاستعمارية شهدت كلها مثل هذا الإملاء الثقافي، بقي ان الفارق صارخ بين الدول والإدارات وأنظمة التعليم في بدايات تشكلها، أو في ما قبله، بالتوازنات التي تعكسها والمصالح التي تؤديها، وبينها بعد ذلك التشكل. وهذا فضلاً عن أن الشيوع الشعبوي لنُتَف من أفكار المساواة والديموقراطية والخيار الحر يزيد الفارق المذكور صراخاً. ثم أنها، في العهد الأميركي الحالي، ثقافة تنوء بمحمول ديني وقومي يعيق تنفيذ رغبتها في تطويق الديني والقومي لدى الثقافات الأخرى، ناهيك عن أن السمة المذكورة تجوهر الشعور بالاذعان وتمنحه أبعاداً وجودية تفيض به عن ضفاف السياسة. وفي المعنى هذا، بدل أن ينعكس حب الثقافة الشعبية الاميركية، التي اندفعت عالمياً بقوة النموذج، ايجاباً على الموقف من السياسة الأميركية، وهو ما توهّمته تخمينات ساذجة عدة، يُخشى أن ينعكس الموقف السلبي من السياسة هذه على الثقافة تلك. فعندما تعجز فرقة جاز أميركية سوداء عن العزف في عاصمة عربية، وربما في أكثر من عاصمة، فهذا انما ينم عن سوية القطيعة التي لم يرقَ اليها اطلاقاً توتر العلاقات ما بين الخمسينات والسبعينات من القرن الفائت، زمن الذروة في تاريخ "حركة التحرر العربية". فقد أمكن، على رغم كل شيء، لمراكز جون كينيدي الثقافية ان تُقام عهدذاك، كما لم يحلْ اتهام "وكالة المخابرات المركزية" بتمويل أنشطة ثقافية، وبعض الاتهامات صحيح، من دون الاقبال على الأنشطة هذه واحتضان بعض رموزها وضمهم الى التيارات الثقافية العريضة للبلدان المعنية. أبعد من هذا، ان آخر الانجازات الوحدوية العظمى، اي سقوط المعسكر الشيوعي وتكامل أوروبا، جاء كأنه يوفّر عنصراً ملائماً، وإن مسبقاً، للقطيعة التي حلت لاحقاً. فبعد انضمام أوروبا الجنوبية الى "الغرب" الديموقراطي، إثر سقوط ديكتاتورياتها في السبعينات، بدا انضمام أوروبا الشرقية يطابق بين الجغرافيا والنظام السياسي والاقتصادي وبين "الحضارة" أو الدين. والواقع ان هذا جميعاً ليس مرده الى الأديان، خصوصاً ان "كراهية أميركا" غدت ظاهرة عالمية عابرة للمذاهب تمتد، وإن في صيغة مخففة وغير عنفية، الى قلب أوروبا "المسيحية" نفسها. فهناك خليط معقّد من العوامل التي أفضت العولمة الى حشد واحدها في مقابل الآخر بصورة مباشرة وشفافة. لكن إذا كان السلوك الاميركي، السياسي والاقتصادي، من أبرز أسباب الانتكاسة الراهنة نحو القطيعة، فإن سببها الذي لا يقل أهمية أن وعياً ثأرياً وبروليتارياً رثاً يقود مناهضة اميركا ويفرض أجندتها. وهذه الأخيرة إذا ما عكست، في الغرب الرأسمالي، اختلاط الخريطة الطبقية بسبب العولمة أساساً، كما عكست تصدع الوسائط الاجتماعية القديمة، لا سيما الأحزاب والنقابات، وانتفاخ وهم الاستعاضة بسياسات الهجرة عن كل سياسة فإنها أمست، خارج الغرب الرأسمالي، مرآة انحطاط ما كان قبلاً "حركة تحرر وطني" الى حركات حقد إثني وديني ومذهبي. وفي موازاة الانتقال من "فتح" الى "حماس"، وما يعادله من تحولات مشابهة في مناطق أخرى، ترتسم السياسات المناهضة لأميركا عمليات انتحار بمعنى غير مجازي أبداً: فهي لا تكتفي بصياغة الافتقار الى القوة، عسكرية كانت أم غير عسكرية، في مواجهة "الامبراطورية"، ولا برفع هذا الافتقار الى إرادوية مطلقة تجافي العقل والعقلاني، بل انها تستبعد التسييس بصفته مسافة وعي فاصلة عن الانتماء الأهلي الخام، بالمعنى الذي مارسه المثقفون اليساريون والليبراليون البيض في جنوب أفريقيا حيال الحركة المناهضة للعنصرية. هكذا يلوح "الوعد" الذي تحمله سياسات كهذه الى العالم مجرد ارتداد الى العدد والديموغرافيا بذاتهما، والى الجسم العاري يمارس مشهدية لا تُرجى منها أي فائدة سياسية أو عسكرية. ولربما كانت العمليات الانتحارية نقطة اللقاء المثلى بين الرمزي الصارخ إعلامياً وإعلانياً، وبين تعامل مع الواقع يفتقر الواقع بموجبه الى كل معنى وسياسة، ناحياً الى التفكك ذراتٍ أولى. وغني عن القول ان بناء الموقف السياسي انطلاقاً من سؤال "ما الذي يضر أميركا أكثر؟" هو مقدمة الرثاثة، و"ثقافتها" الثأر، التي تستعين ب"جماهيرية" المؤمنين والاثنيين على أنواعهم، فتقتسم معهم رؤية الى العالم لا بأس معها بغض النظر عن مهربي المخدرات في كولومبيا ما داموا يقاومون اميركا، ولا مانع بدعم "انتخابات" السيستاني التي "تفضح" واشنطن بعد دعم "مقاومة" الفلوجة التي "تنهكها" وفي سياق سياسي مختلف كان يمكن أيضاً تعزيز هذه المواقف المتضاربة بتأييد "فيديرالية" الأكراد. وإذ يتساوى جورج بوش وآل غور في الشر تساوي ارييل شارون وحزب العمل الاسرائيلي، تُمنح القطيعة لحماً ودماً يتغذيان دوماً على الأسباب التخفيفية التي تُمنح للأصوليين وارهابهم، كما يصار الى التعامل مع اطاحة صدام كأنها هامش عرضي لا يستحق التوقف عنده. فإذا انكشف العراق على ما انكشف عليه، لم يرسخ من الأمر كله، ومن المسؤولية التي يُفترض ان تترتب عليه، سوى الفرح بزيادة مضابط الاتهام للولايات المتحدة. والحال أن ثأرية كهذه لا يعوزها كثير من الأفكار. فالعالم، تبعاً للنظرة هذه، لم يتطور في العقد ونصف العقد الأخير بما يستوجب النظر. فمن جهة، لا تزال الأنصبة والمعايير التي لازمت الحرب الباردة كاملة الصلاح، يسري هذا على الأممالمتحدة سريانه على نظرية سيادة الدولة. كذلك لم تتفاقم، من الجهة الأخرى، ظواهر كالأصولية النضالية والإثنية المتعصبة والإرهاب المنظم، وإن هي وجدت لم يكن وجودها غير استجابة لارادة اميركية صريحة أو خفية. وفي المعنى هذا، يصير المطلوب عملياً شل يد أميركا وإطلاق أيدي خصومها من هؤلاء، بدلالة ان فرسان الجبهة العريضة لمناهضة أميركا لم يصدروا دراسة واحدة جدية عن النزاعات والعصبيات والحروب الدينية بذاتها وبتاريخها الداخلي في محيطها الثقافي. ذاك ان سر الباشتون والطاجيك والفلوجة والهوتو والتوتسي والموارنة والدروز والشيعة ونظام الكاست الهندي وفئة غير الممسوسين كامن كله إما في البنتاغون وإلا ففي الاحتياطي الفيدرالي! ولم يكن ينقص هذه المركزية الغربية المقلوبة الا الاعتناق الفوري، غير المألوف في معظم عناصر تلك الجبهة العريضة، لديموقراطية الاقتراع الشامل على نحو يمكّن "جماهير المنتجين" من مواجهة العولمة ورد صاعها صاعين. وعلى النحو هذا، تكرّس أميركا البوشية تحويل الحداثة ايديولوجيا نضالية وأداتية للأغنياء والأقليات، فيما تطوّر حيلتها التي تفيد نفي وجود الأيديولوجيات أصلاً! أما خصومها فيردّون بتحويل العدد والفقر بديلاً من الحداثة التي ظُن، ذات مرة، أنها تقرّب بعض العالم من بعضه. وتتكشّف ثورة الاتصال، والحال هذه، عن قطيعة يخوضها أحد طرفيها باللايزر والطرف الآخر بالساطور. * كاتب ومعلّق لبناني.