John Gray. AlQaeda and what it means to be Modern. القاعدة وما معنى ان تكون حديثاً. Faber, London. 2003. 145 pages. عشية إعتداء الحادي عشر ايلول، تعجّل عدد من المعلقين الغربيين في نعت منفذي الإعتداء، والمنظمة التي إنتموا اليها، بأنهم جماعة من خارج الحضارة والحاضر. الطريف في الامر ان مثل النعت، ومجرداً من واعز الإدانة والتحقير، ليس مما يخالف تماماً تصوير زعماء منظمة "القاعدة" لأنفسهم، بإعتبارهم أعداء الحضارة الغربية وينتمون الى عهود سابقة على الحاضر الحديث. وهذا التوافق ما بين المعلقين الغربيين وما بين زعماء "القاعدة" في تعرف المنظمة المذكورة إنما هو صدى إتفاق أرسخ وأبعد زمناً ما بين الكثير من العلمانيين من جهة، وجلّ الأصوليين، من جهة اخرى، بأن الحركات الدينية الأصولية، ومن حيث انها تسعى الى إحياء المُثل السالفة في إدارة الدولة والمجتمع، إنما تستمد مقوماتها النظرية وطاقاتها العملية من مصادر سلفية سابقة على العلمانية والحداثة. غير ان هذا التوافق تعرّض، وفي غير مناسبة واحدة، للنقد ومن خلال دراسات متباينة الدوافع والإهتمام، أفلح البعض منها في البرهان بأن الحركات الأصولية أقرب الى الحداثة مما يحسب أصحابها، اوبالضرورة، يشتهي خصومها من أنصار الحداثة والعلمانية. ولعل أكفأ الدراسات العربية في هذا الصدد دراسة الزميلة دلال البزري "أخوات الظل واليقين" الصادر في بيروت عام 1996. وإنه لفي ضوء مثل هذا النقد يجادل جون غراي، الكاتب البريطاني وأستاذ الفكر الأوروبي في "معهد لندن للإقتصاد"، بأن ما ما أقدم عليه أتباع "القاعدة" من هجوم على نيويورك وواشنطن، ليس مما يتناقض مع الأفعال التي تبررها دعاوى وسُبل الحداثة، خاصة في طور العولمة الإقتصادية والسياسية منها. ف"القاعدة" منظمة حديثة، بل انها أشدّ حداثة من جلّ المنظمات الإرهابية التي عرفها القرن العشرون، خاصة ممن دانت بفلسفة علمانية قومية او يسارية، وليس فقط لأن "القاعدة" أقبلت على إستخدام أحدث سبل الإتصال التقنية، ولكن ايضاً لأشكال التنظيم التي إتبعتها، وما تفُصح عنه من تصورات إيديولوجية مضمرة او معلنة. فهي من حيث إتباعها سبل الإتصالات والتنظيم الحديثة لم يقتصر الإنضواء فيها، او مشايعتها، على أعضاء من دولة واحدة او من منطقة بعينها، وإنما أفلحت في تشكيل شبكة عابرة للحدود وقادرة على تجنيد اعضادء جدد اينما توافرات امكانية التجنيد، وما جعلها أشبه بمنظمة أممية فعلاً وليس قولاً فقط. اما توسلها الإرهاب وسيلة في سبيل تحقيق مآربها السياسية، فأنها لم تختلف كثيراً عن الحركات الثورية والفوضوية التي إرتأت ضرورة تحدي إحتكار الدولة لحق أستخدام العنف. الأدهى من ذلك ان المواضع التي إختارتها هدفاً لهجومها يشي بمعرفة لكل من مواقع القوة ونقاط الضعف، في النظام العالمي الجديد، ووبما يجعلها وريثة للحركات الإرهابية السابقة، وفي الوقت نفسه متجاوزة لوسائلها ولحدود أدائها. فإختيارها برجي "مركز التجارة العالمي" هدفاً يدل على انها تعرف جيداً اين يكمن مصدر القوة والنفوذ في عصر العولمة الإقتصادية. أما لجوئها الى هجوم يكون بمثابة موضوع مشهد بصري صادم فإنه ينمّ عن وعي بما يظفر بإهتمام الجمهور التام في عصر التلفزة الفضائية المتجاوزة لسلطان الدولة ورقيبها. الى ذلك، وعلى رغم ان زعماء "القاعدة" وامثالهم من زعماء الحركات الإصولية الإسلامية، يدّعون الأخذ بوصايا وتعاليم سلفية، الاّ ان المناهج التي يستخدمونها في تأويل هذه الوصايا والتعاليم ليست بعيد عن مناهج التأويل والتحليل الحديثة. وتكفي الإشارة الى ان ابن لادن وغيره من زعماء الحركات الإصولية إنما تلقوا بالإصل علوماً غربية وأن البعض منهم تمرّس طويلاً في أحزاب علمانية، يسارية وقومية، قبل إنضوائهم في حركات دينية أصولية. لقد هاجمت "القاعدة" اهدافاً غربية، بيد ان هجومها لم يستهدف الحداثة بقدر ما إستهدف النُظم الديمقراطية الليبرالية، خاصة بعد نهاية الحرب الباردة وإحتفاء دعاة هذه النُظم بإنجلاء الحرب عن انتصار حاسم لمصلحتهم. وهذا ما يبيّن بأن تحدي "القاعدة" اللاحق لهذه النُظم، ليس الأول من نوعه، او الأخطر. فقد سبقها الى ذلك كل من النُظم الشيوعية والفاشية في اوروبا. وتحدي هذه النظم انما كان بالتوافق مع الحداثة، وإن على الوجه المتطرف منها، طالما انها اي الشيوعية او الفاشية تأخذ بدعوى العلم القادر على الإحاطة بأسرار الوجود الإنساني وبالقوانين والأشكال التي تحكم مقوماته البيولوجية والإجتماعية، وتعوّل، من ثم على التقنية، من حيث هي التطبيق العملي للعلم، في إعادة صوغ الإنسان والمجتمع. وعلى غرار هاتين الحركتين فإن "القاعدة"، وسواها من الحركات الدينية المتطرفة، تسلم بدور التقنية في إنشاء علم جديد، حتى وإن ركنت الى بلاغة سلفية متقادمة. غراي وإن صنفّ "القاعدة" الوجه المتطرف للحداثة، وأسوة بالشيوعية والنازية، الاّ انه لا يسوق هذا التعريف من موقع الدفاع عن الوجه المعتدل للحداثة، شأن النُظم الديمقراطية الليبرالية. وعنده فإن هذه النُظم ليست بمعتدلة ايضاً، خاصة اليوم، وبعد نهاية الحرب الباردة وإعلانها منتصرة في معركة الأيديولوجيات الكبرى. وما محاولة عولمة السياسة الليبرالية، وعلى خطى عولمة السوق الإقتصادية الحرة الاّ محاولة أخرى للتجسيد الأبعد للحداثة. فسيادة العولمة الإقتصادية، ومن بعدها السياسية، إنما هو إنتصار لأتباع "نيو ليبرالية" اي لأصوليي السوق الحرة ممن يدعون الى تقليص سلطان الدولة امام ما يُسمى ب"اليد الخفية" للسوق. وهؤلاء ما هم في نهاية المطاف سوى سلالة الوضعية العلمية التي قال بها أوغست كومت وسان سيمون، ومن بعدها "الوضعية المنطقية" خاصة "حلقة فيينا" منها. ولئن زعم اتباع هذه الأخيرة بأن الإقتصاد علم يمكن من خلال الإلتزام بشروطه إرساء نظام إقتصادي كوني متجانس، فإن دعاة الوضعية بشروا بأن الإلتزام بالمعايير العلمية كفيل بأن يخلص البشرية من أسباب الندرة ودواعي الحروب، بل وايضاً إنشاء مجتمعات بشرية متجانسة القيم والمعايير الأخلاقية والسياسية. ومنظمة "القاعدة"، ومثيلاتها، تتوافق اولاً، مع الأداء الذي تسعى "نيو ليبرالية" الى تكريسه على مستوى العالم أجمع، فتستخدم سبل الإتصالات التقنية التي تتجاوز حدود وسلطان الدول. وثانياً، تصادق على مزاعمها الفكرية، من حيث ان سعيها الى إنشاء شبكة أعضاء وأتباع من مختلف أنحاء العالم، وعلى مدى القارات الخمس، إنما تأسيس عمليّ لمجتمع كوني متجانس الهوية والقيّم. ولا يشاء غراي البرهان فقط على ان "القاعدة" لهي من تجسيدات الطور اللاحق للحداثة، وانما ايضاً، ومن خلال هذا البرهان بالذات، إدانة الحداثة والعولمة معاً، مكرراً بذلك اراء سجالية سبق ان قال بها. والحق فإن كلامه على "القاعدة" والحادي عشر من ايلول، يبدو أقرب الى ذريعة له لكي يلخّص محاجتين كان قد فصلّهما في كتابيه السابقين: الأولى،وهي من كتابه "فجر كاذب"، ترى ان محاولة فرض سياسة السوق الحرة على العالم لن تعود على البشرية بالوفرة والرخاء وإنما بالفوضى الإقتصادية والجريمة المنظمة. أما الثانية، وهي من كتابه "كلاب من قش"، فتزعم بأن الوجود الإنساني ليس بذي قيمة أسمى من قيمة اي فصيلة حيوانية أخرى، وان القيم المنسوبة الى هذا الوجود ليس الاّ من قبيل الخداع الذاتي والزهو اللذين ما إنفكت الحداثة تحض عليهما. المشكلة الوحيدة في إدانة كهذه ان الكاتب لا يجد مناصاً من إتباع سبل العقلنة الحديثة لكي يقدم محاجة مُقنعة. ففي هذا الكتاب،كما في كتابيه السابقين، تجده يرد الحوادث الى أفكار وفلسفات لأفراد وجماعات، وبما يدل على ان الوجود البشري، وتماماً كما تزعم الحداثة، لهو رهن إرادة الإنسان. انه، بهذا المعنى، أشبه بأتباع "القاعدة" وغيرهم من المتطرفين الذين يزعمون بأنهم يحاربون الحداثة، في حين انهم في حقيقة الامر صنيعتها ومن أعراضها.