تستحق الحرب على العراق الإدانة، هي التي غدا وقوعها شبه مؤكد. فهناك، أساساً، موقف أخلاقي من مبدأ الحرب نفسها ينفي عنها صفة العدالة ويستهجن الاقبال عليها بالحماسة، فلا يتعامل معها كواقعة مقبولة إلا كاضطرار يستحيل دفعه. وهذا، بالطبع، لا يعني التغاضي عن الواقع البائس الذي فرضه نظام بغداد، ولا الوقوف منه موقف المحايد، بل يحتّم العمل على تطوير صيغة تمكّن العراقيين أنفسهم من تجاوز الكابوس الذي يرزحون تحته، دون الافتراض التلقائي أن الحرب الأميركية هي السبيل الوحيد. فاضطرارٌ كالذي واكب حروباً كالعالمية الثانية وإخراج العراق من الكويت أو الصرب من كوسوفو، ليس قائماً الآن، فيما تنمّ التجربة عن نجاح نسبي للاحتواء، بغض النظر عن سجالات تناولت طبيعته وحدوده، في إنجاز الهدف الردعي المتوخّى. وهذا ما بدا قاسماً مشتركاً أدنى بين استراتيجيات ومصالح اقليمية ودولية، في انتظار أن يُنتج الواقع عناصر تزخّم حركته وتغلّب أوجهها المتقدمة التي توفّر شروط حسم تقل أكلافه البشرية ومضاعفاته السياسية. فبينما تردّت قوة النظام العراقي عما كانته في 1990، لم تُستنفد السياسة معه، إن لم نقل أن ما جُرّب منها ظل ضئيلاً لا يُذكر. وفي المقابل، قامت اللغة الدعوية التي تضع هذه الحرب في خانة الاضطرار المقبول، لا بل ترفدها بالحماسة، على تهافُت لا يصعب دحضه. وهو ما لا يني يبيّنه الإجماع العريض المعقود ضدها والشامل دولاً ومنظمات رأي عام ورموزاً فكرية وثقافية. وقد لا يكون عديم الدلالة أن مثقفاً فرنسياً كبرنار هنري ليفي المقيم على تعاطف لا يتزحزح مع المواقف الأميركية والاسرائيلية القصوى، وجد نفسه أمام هذه المسألة من دون رأي قائلاً، هو الذي يفتي بكل ما يعرض له: "لا أعرف". والسبب نفسه ما يثير الجفلة والنفور عند مثقفين ليبراليين غربيين أيدوا الحروب السابقة في العراق وكوسوفو وافغانستان، ليجدوا أنفسهم الآن في موقع مغاير. فقلة قليلة هي التي اقتنعت بالربط بين بغداد و"القاعدة"، وصولاً الى هذا التحريك العجائبي والانتقائي لملف الديموقراطية في العراق، ولم تظهر حتى اللحظة حجة واحدة توحي بالعكس. وميل كهذا المندفع الى ربط ما لا يُربط واستخلاص نتائج بالغة الصلابة من مقدمات شديدة الرخاوة، إنما يشي ببعض ما ينجم عن تربّع قوة واحدة وآحادية في سدّة العالم. ذاك أن الواقع إذ يرسو على مركزية امبراطورية، تتعرض لغته لخطر التمركز الامبراطوري النافي كلَ لغة وسرد آخرين. هنا يكمن، من حيث المبدأ، سبب وجيه لخوف كل ديموقراطي وليبرالي. فالقوة الواحدة المحضة يتعارض وجودها تعريفاً مع علة الوجود الديموقراطي وسهره على التعدد. وكما هو معروف جيداً، لا تكفي النوايا الطيبة، حتى لو وُجدت، لحمل القوي، المطلق القوة، على الإقرار بالتعايش مع غيره والارتضاء بنظرته الى نفسه والعالم المحيط. وبالمعنى نفسه تجافي قوة كهذه مبدأ تحكيم القانون بين أطراف ونظرات عدة، مجافاتها تقديم التنازلات لمطالب عادلة ومُحقّة. أما التسليم بعكس ذلك فيرقى الى تسليم برواية الراوي القوي التي تفضي الى تصوير الخطر حيث لا خطر، أو تضخيمه حيث هو صغير أو بسيط. وإسباغٌ كهذا للدراما الذعرية قد يحصل تحت وطأة المصالح سلاح، نفط والأفكار نزعات نيو امبريالية، لكنه قد ينبثق أيضاً من وساوس لاعقلانية كالتي أطلقت جريمةُ 11 أيلول بعضَها الكثير في أميركا. وفي الحالات جميعاً يستحيل في ظل تمدد القوة الآحادية تقديم أية رواية مضادة لروايتها، أو حتى مُباينة، دون الطعن بفرضياتها المركزية. هكذا رأينا مثقفاً أميركياً ليبرالياً كمايكل ولزر يعارض الشائع الذي سيّدته القوة، جازماً بأن العراق ليس مصدر خطر على أميركا. أما أن تهدد بغداد جيرانها فهذا يلزمه، لتبرير الحرب، تفويض الجيران للولايات المتحدة بالحلول محلهم في مهمة الحماية. وهو، في حدود علمنا، ما لم يحصل. فحملة التزييف المستشرية تحمل على التشكيك بكثير من العناصر التي تُقدّم كبديهيات، كما تسمح بالنظر الى ما يجري كامتداد لانقلاب يرعاه جورج بوش وجمهوريوه الأكثر يمينية ضد التطورات التقدمية، السياسية والاجتماعية، التي سجّلتها السنوات الماضية في أميركا والعالم: من توسّع الإقرار بالفردية الى ذيوع دعوات ك"حقوق الانسان" أو مطالبات بيئوية وشبابية، جنسية ونسوية، ومن التعددية الاثنية والثقافية واللغوية في بعض العواصم الغربية الى مباشرة الاعتذارات لشعوب والمراجعات التاريخية لتجارب عنصرية أو كولونيالية، ومن تعاظم الأصوات المطالبة باستدراك العولمة بحاكمية أممية وتأسيس صمّامات أمان اجتماعي تحمي الأشد فقراً الى التفكير بتنظيم علاقات ما بعد الحرب الباردة على قاعدة من تعددية قطبية. وكان أوضح تعابير التزييف الذي أطلقه الانقلاب اليميني اللجوء الى ديماغوجية تعمّمها تقنيات الاتصال الحديثة. فعلى غرار التركيز على الخطر العراقي، تم تجاهل الفارق بين حرب ضد العراق إثر غزوه الكويت وحرب ضده وهو محاصَر منكفىء. ولئن استأنف منطق كهذا تشويه السياسات التي نقلت بغداد من الهجوم الى الانكفاء، والتشكيكَ برجاحة العلاجات الكلينتونية وصلاحها، فإنه أمعن أيضاً في إسباغ الجوهرية على منطقة لا تُعالَج أمورها بغير القوة، وهو جزء من مزاج شرع يتعولم بعد 11 أيلول. وحين نتذكّر ان القاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي لم يتأتّ عن أسباب عسكرية بقدر ما أملاه رسم خريطة العالم وتوازناته بعد الحرب الثانية، تراودنا الخشية من أن تمهّد الحرب الجديدة والأسلحة التي ستختبرها لرسم خريطة نهائية للعالم وتوازناته بعد الحرب الباردة. ومهمة كهذه لا بد أن تنطوي على تكريس للآحادية القطبية القائمة ومزيد من تهميش الأمم المتحدة والقانون الدولي. والراهن ان المواقف العامة الأكثر تداولاً لهذه الادارة لا تشجّع، هي الأخرى، على افتراض الأحسن. فتثاقُلها في اللجوء الى مجلس الأمن، ورفضها المحكمة الدولية، وموقفها من بروتوكول كيوتو ومن حظر الألغام الأرضية، وتعاملها مع أسرى غوانتانامو، وتماديها في التجاوز على الحقوق المدنية بحجج أمنية، كلها تعزز المخاوف التي يعززها وجود بعض رموز اليمين الأقصى في صدارة الحزب الجمهوري ووزارتي الدفاع والعدل، ناهيك عن التأثير المتعاظم لليمين الديني ودوره النامي في الاجتماع والتعليم. ولنفترض، من ناحية أخرى، أنه أمكن، رغم هذه التحفظات، غضّ النظر عن التدخل، فالسؤال الوجيه الذي يطرح نفسه إذّاك سيطاول مدى التزام إدارة كهذه بالعراق بعد نشوب الحرب وإطاحة سلطته. فتجربة المانيا وخطة مارشال والدمقرطة، أو تجربة اليابان ودستور ماكآرثر، هما مما ترتّب على التنافس مع الاتحاد السوفياتي والشيوعية، والذي ما لبث أن تجمّع، منذ المواجهة الكورية، في الحرب الباردة. لا بل يمكن قول الشيء نفسه في معرض تفسير بعض ما حدا ببلدان أوروبية غربية الى اعتناق الكينزية والاصلاحات الاشتراكية الديموقراطية. بيد ان انعدام التنافس في الشرق الأوسط، تبعاً لانعدام القوى المنافسة، يستبعد اللجوء الى نهج إصلاحي في العراق. ولا يفوت المراقبَ مخاطرُ التخلي الذي نرجّحه على الوضعين العراقي والعربي، وهي مخاطر لا صلة لها بأي "شارع عربي" يُزعم أنه عتيد وصاعد لكنها، على العكس، تترجّح بين تفتت وتهجير جماعي وإفقار ونزعات ثأرية واحتراب أهلي. وهي كلها بؤر خصبة لتوليد الارهاب الذي يقال إن هدف الحرب استئصاله. وهذا لا يعني، بالطبع، المصادقة على خرافات نرددها من اننا أبرياء وواحدون فيما الاستعمار يجزّئنا، ولا تجاهل مقدمات التجزئة في تراكيب أهلية وفي سياسات سلطوية بلغت أوجها في العراق البعثي. كما لا يقود الى رفض مطلق لتجزيء وحدات سياسية ثبت أن أكلافها على سكانها وجيرانها أكبر من عائداتها. فالتجربة والحس النقدي عاصم من عبادة الأوطان، أو من تفضيل استمرارها على مصالح السكان أنفسهم. مع هذا، ومن موقع يمحض الأولوية لسعادة الشعوب ورفاهها، يبقى التساؤل عن قدرة العراق وسائر بلدان المنطقة على إنجاز طلاق سلمي على طريقة تشيكوسلوفاكيا السابقة سؤالاً في محله. ومرة أخرى فليس ما نقصده أننا ممتازون لا يتهددنا الا السلوك الأميركي. ذاك أننا في أسوأ ما يمكن ان تنحدر اليه الأمم لأسباب مردّ معظمها الى مواقف وسياسات وحروب اتخذناها أو خضناها. لكن انتشال العرب من الدرك الذي هم فيه لمصالحتهم مع الحداثة، مسألة أعقد وأهم من حملة عسكرية. فالأخيرة قد تضمن لأصحابها مصالحهم النفطية والاستراتيجية بعلاجات جراحية موجعة قد تتعدى العراق، مستعينةً عليها بخريطة التوزّع والتحاقُد الأهليين. الا أن علاجات كهذه، رغم قسوتها أو بسببها، أقل كثيراً من الالتزام الذي يتطلّبه تحديث العراق والمنطقة. وقد يقال هنا، بحق، إن عرب اليوم عاجزون عن الارتفاع الى ما تتطلّبه الأجندة الحداثية، وان عصر العولمة لا يرحم البطيء. لكن يبقى ان التسريع الثوري الحارق للمراحل لن يجعل الأمور السيئة الا أسوأ، خصوصا أن الحرب والتسريع، حتى لو ابتدآ ضمن إطار السعي الى دفع التطوير الحداثي قدماً، قابلان للاقتصار على مجرد فعل آني وأولي من دون المتابعة المطلوبة. وهذا ما يعود، في أحسن الأحوال، الى افتقار الطرف الشارع بالحرب، أي الولايات المتحدة، الى الاجماع على الهدف منها وحدود التدخل التغييري. فإذا وعدتنا الصيغة الخطابية بتهديمٍ يتلوه تعمير، فقد يقتصر الواقع الفعلي على تهديم محض. أما الرهان على العكس فيبقى مجازفة تنطوي على قدر كبير من الخطر. وحتى لو نجم عن حرب كالمتوقعة كيان صغير وأقلي ناجح، يبقى أن منطقة بكاملها ستنتهي عرضة للانهيار تتآكلها الحروب والفقر والثأرية. والمساجلة هنا إنما تمتّ بصلة وثيقة الى ما بعد الحرب الباردة والمعاني المتضاربة التي استُخلصت. فثمة من استنتج ان انهيار الشيوعية انهيارٌ لها وحدها ومقدمة لثورة مضادة تنهل من النبع الخلاصي نفسه الذي نهلت منه الشيوعية. وثمة من استنتج، ونحن منهم، أن ذاك الانهيار انهيار لكل نزعة ثورية ولكل إرادوية خلاصية تنوي إحلال التغيير السريع بالقوة. ذاك أن العالم، كما تقول تجارب عدة، يتقدم بالمليمترات ويتراجع بالأميال، وكلما كانت تظهر قوة تتوهّم دفعه بالأميال الى أمامٍ إيديولوجي ما كانت تستنهض القوى الأكثر رجعية التي تنجح، هي وحدها، في إرجاعه أميالاً. فقد شكلت الثورية اليسارية التي افتُتح بها القرن العشرون في روسيا واحداً من حوافز الارتداد الفاشي والنازي المدمّر للعالم، دون ان ينجح الوعد الرؤيوي في نقل روسيا الى حيث أراد نقلها. ويُخشى اليوم ان تطلق الراديكالية اليمينية التي افتُتح بها القرن الواحد والعشرون في الولايات المتحدة، غرائز رجعية وأصولية في العالم الثالث لم تكتم مرة حقدها على الحضارة الكونية، فيما يصاب التقدم الأميركي نفسه بتعويق ديني ورجعي. فمناخات كهذه قد يُقيّض لها ان تبعث في الغرب نوازع النكوص الأكثر رجعية، إذ حين يتحقق معظم المسلمين من ان الحرب على العراق حرب مسيحية-يهودية على الاسلام، لن يتأخر ظهور الصدى الغربي الذي يقول، وهو بدأ يفعل، إنها حرب مسلمة على المسيحيين واليهود. ولنتأمل، في مناخ داكن كهذا، وضع الأقليات الدينية والنخب الثقافية والاقتصادية المتهمة بالتغرّب في العالم الاسلامي. ولنتأمل، في المقابل، ذاك التواطؤ الضمني بين الحكومة الأميركية التي يجاهر بعض وجوهها بقناعاتهم الغيبية، وبين تيارات ألفانية تلفّق سردها للملاحم والفتن الموعودة كتابياً. فهاهي زعامات هذه التيارات تؤوّل حروب الإدارة الحالية بإدراجها في الإطار الألفاني ممعنةً في تعميم الوصف العدائي للإسلام، فيما تمتنع الحكومة، حرصاً على التعبئتين الانتخابية والحربية، عن إدانة هذه المواقف أو حتى التبرؤ منها. والحال ان الادارة التي فكّرت في ايلاء منصب رفيع لهنري كسينجر، لا تبدي عناية تُذكر بأخذ شعوب العالم في اعتبارها، وبالتخفيف تالياً من عقدة كراهية أميركا المستحكمة كونياً. وكراهية كهذه التي لن تزيدها الحرب الا تأججاً، خطيرة بمحمولها الرجعي المتخفّي في عباءة الرفض لمواقف اميركية خاطئة او مجحفة. وهنا بالتحديد يندرج الموضوع الفلسطيني الذي تتوازى سلبية تناوله مع التحضير للحرب العراقية. فإذا كان وهماً اشتقاق سياسات ومصالح واحدة يسلك نحوها العراقيونوالفلسطينيون طريقاً واحدة، على ما يردد من يرهنون تطور العراق ب"مناهضة الامبريالية"، يبقى ان السلوك الاميركي حيال اسرائيل والفلسطينيين سبب آخر للحذر من سياسات واشنطن. والأبشع ان من غير المستبعد ان تشكل الحرب شاشة ضبابية تُخفي مذبحة أخرى، أو تهجيراً آخر، ينزلان بالفلسطينيين، فيما يجد العرب أنفسهم أمام عجز لا يليق بأحد أن يستشعره في نفسه، ولا ينبغي أن يطمئن العالم ما دام أحد يستشعره. ينمّي هذه الحساسيات معطيات تبدأ بالعواطف الليكودية الراسخة لدى مدنيي وزارة الدفاع الأميركية، ولا تنتهي بالمقارنة بين المعالجة الجارية للأزمة الكورية والإعداد للحرب على العراق حيث تكابد فرق التفتيش الشوق للبرهنة على امتلاكه أسلحة دمار شامل. والحق ان هذه الذرائعية المحضة غدت مادة إقلاق لأصوات ثقافية وضميرية متزايدة. فإذا صح التمييز المبدئي بين امتلاك نظام ديموقراطي لأسلحة الدمار وامتلاك نظام غير ديموقراطي، الا أن صحته لا ينبغي تحويلها أقنوماً فيتشياً يتغافل عن أن كوريا الشمالية لا صلة لها بالديموقراطية، فيما الولايات المتحدة، الديموقراطية، كانت أول من طوّر السلاح النووي وأول، وآخر، من استخدمه. والأخطر في تصنيم ذاك التمييز أنه يجوّز ضمناً استخدام الديموقراطي هذا السلاح في مواجهة غير الديموقراطي. وحتى لو اقتصر الأمر على الردع الذي توصف به وظيفة السلاح النووي، يبقى أن تراتُبية الردع انما تنمّ عن تبويب جوهري يعززه مبدأ الضربة الاستباقية المفتوح على استخدام ذرائعي بدوره. ولتبديد هذه الذرائعية، ولطمأنتنا كبشر الى حياتنا، غدا مُلحاً نزع التسييس والتبويب عن امتلاك هذه الاسلحة المنتشرة، والمرشحة لمزيد من الانتشار. وهذا ما لن يصار إليه إلا بجهد شامل يبلوره مؤتمر دولي مسوق بالطموح الى عالم لا أسلحة دمار شامل فيه، ومعالجة الأوجه الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن النزاعات الاقليمية وما يتصل، بصورة أو اخرى، بامتلاك الأسلحة المذكورة. وقد لا تكون هذه الحاجة، بفعل التجييش المسلح بالزعم الأخلاقي لدى القوة العظمى الوحيدة، قابلة للتنفيذ في أمد قريب، الا أن التأسيس للخطاب الداعي إليها يبقى ضرورة قاهرة. غير أن من أنكى ما في تلك الذرائعية رسوّها على "مبدأ" عميق ربما بات مدعوا إلى أن يسود، مسنودا بما تمتلكه واشنطن من أسباب القوة. والمبدأ هذا يتمثّل في ترجيح "الأحقّية الديموقراطية" على "الأحقّية القانونية"، أي في ذلك التسليم بأن اتصاف الولايات المتحدة بالديموقراطية وزعامتها للعالم الحر، يخوّلانها تجاوز القانون، وتخطي الهيئات القانونية التي تنظّم الحياة الدولية أو يُفترض فيها ذلك، خصوصاَ إذا ما تعلق الأمر بمجابهة نظام مستبد كالقائم في بغداد. فالأخذ بذلك المبدأ أساسا لسلوك أميركا في محيط عالمي بات مشرعا أمام سطوتها كما أضحت هي طليقة اليد في شؤونه، أمر بالغ الخطورة على الحياة الدولية ومستقبلها. والنذر الأولى لما يمكن أن ينجرّ عن الأخذ بذلك المبدأ تلوح جليّة في ثنايا هذه الأزمة وفي المقاربة الأميركية لها. فالمقاربة المذكورة أوجدت وضعا مفارقا، وكانت من بين أبرز عوامل ما نعايِنه راهنا من إرباك وبلبلة دوليين، بل من تعطيل للحياة الدولية. فهذه الأخيرة إنما "حشرت" القانون الدولي، أو ما يسمى "الشرعية الدولية"، قسراً وبفعل ذلك النزوع الأحادي الجارف، في صفّ النظام العراقي! وذلك ما يرقى إلى مصاف "الإنجاز" الذي ما كان له أن يتحقق إلا على يدي جورج بوش وصقور "المحافظين الجدد". ولأن "الإنجاز" ذاك، سواء كان متعمدا أم مجرد مفعول جانبي لاندفاع القوة، وضع سائر دول العالم عدا استثناء أو اثنين أمام مفاضلةٍ، أو بالأحرى لا مفاضلة، مجحفة، وبين مضضيْن، وبين اختيارين متعذّر كلاهما، فإنه يهدد بشطب معايير الاصطفاف الدولي أو ما يقوم مقامها. إذ لا مراء في أن غالبية دول العالم، بدءا بدول الجوار الإقليمي، تشاطر الولايات المتحدة رغبتها إطاحة صدام حسين، لكنها لا تقر أسلوبها لأنه يتطلب مقابلا باهظ التكلفة، أي ما لا يقل عن التضحية بالأسس التي تنظم الحياة الدولية، قوانين ومؤسسات، ناهيك عن مضاعفات مباشرة، على المصالح أو الوجود، تتوجسّها تلك الدول أو يخشاها بعضها. وترجيح "الأحقّية الديموقراطية" على "الأحقّية القانونية" التي لا تُنال إلا بمصادقة المجموعة الدولية أو متنها الغالب والمسؤول، هو ما قد يكون التعبير الإيديولوجي عن القوة الأميركية في طورها الراهن. إذّاك تصبح تلك الصفة الديموقراطية، مسوّغ الانفراد بالقوة وباستخدامها. أي أن الولايات المتحدة تعتبر نفسها فوق كل مساءلة، ليس فقط بفعل ما اجتمع لها من أسباب السطوة، ولكن كذلك لأنها زعيمة "معسكر الخير"، الديموقراطي، في مواجهة "معسكر الشر"، الإرهابي والاستبدادي، وأن الصفة تلك فيها جوهرية وإطلاقية لا تكبّلها نسبية القانون واعتباراته مما قد يحتمي به حتى المجرم. وهذا علما بأن "نواقص" القانون تلك هي، تحديدا، ما يجعله بعض أرقى ما ابتدعه البشر لتنظيم اجتماعهم، أفراداً وأمماً. فواشنطن، في ظل إدارتها هذه، حوّلت صفتها الديموقراطية إلى مصدر "شرعية" بالمعنى الأصولي للكلمة، أي بذلك المعنى غير الزمني وغير النسبي كما عهدناه في "اشتراكية" الدولة السوفياتية أو "اسلامية" الدولة الخمينية. وذلك ما يستثير تحفظ العالم أو اعتراضه، خصوصا أن طريقتها في معالجة الأزمة العراقية لا تبدو مجرد جموح موضعي يتذرّع بخصوصية نظام بغداد، لجهة شذوذه البالغ حتى قياسا بأنظمة ديكتاتورية أخرى، بل تلوح تأسيسا للصيغة التي تريدها أميركا للعالم، ولموقعها المهيمن فيه. والولايات المتحدة، إذ تقيم مثل ذلك التناقض، أو المنافاة، بين الديموقراطية والقانون، إنما تنسف تلك إذ تؤدلجها، وتمتهن هذا فتفتح الباب واسعا أمام تعسف الأقوى، مهما كانت النوايا. فهي كأنما تطالب العالم أن يقايض ضمانات القانون الدولي، والهيئات الساهرة عليه تشريعا وتطبيقا، على محدودية تلك الضمانات وقصورها وتعثّرها، بأخرى لا تتمثل إلا في التسليم بأن ديموقراطيتها، كصفة فيها جوهرية، تجعلها قوة "خيّرة" لا محالة وتسوّغ كل ما تأتيه. وذلك، بالطبع، لا يطمئن أحدا، لأنه يرمي إلى استبدال مرجعية موضوعية، هي تلك القانونية التي جهد العالم، ولا يزال، في إرسائها خلال نصف القرن الأخير بشكل خاص، بأخرى، ذاتية تستقيها الولايات المتحدة من ذاتها. وبديهي أن كل ذلك لا يطمئن خصوصاً إلى الدور الذي أناطت واشنطن بنفسها مهمة الاضطلاع به، والمتمثل في العمل على نشر الديموقراطية في كافة أرجاء المعمورة. فمثل ذلك ادعاء لا يمكن الإقرار به دون نقاش. وأسباب التحفظ عديدة بعضها نظري وعام، وهو أن السابقات التاريخية تميل إلى تأكيد تناقضٍ، يكاد يكون أصليا، بين الفكرة الديموقراطية والفكرة الإمبراطورية، عبّرت عنه على أجلى وجه تجربة الاستعمار الأوروبي التقليدي، كما شهدها القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. فقد عاشت تلك القوى الاستعمارية، على الصعيد السياسي، ضربا من الانفصام بين واقعها في بلدانها، كدول-أمم ديموقراطية، وبين واقع مستعمراتها، كمجال إمبراطوري قليل الحفول بالحريات والحقوق، شأنه شأن أي واقع إمبراطوري سواه. صحيح أن تجربة الولايات المتحدة، خلال الحرب الباردة ربما اختلفت، حيث كان العيش في كنف الإمبراطورية الأميركية في غرب أوروبا، أفضل منه بكثير في كنف الإمبراطورية السوفياتية وسط تلك القارة وشرقها. لكن ما كان ساريا في ألمانيا الغربية أو في إيطاليا مثلا، لم يكن ساريا في تشيلي، في عهد الجنرال بينوشيه، أو سوى ذلك من حالات الاستبداد التي قامت بمباركة الولايات المتحدة و"ازدهرت" في ظلها. وبديهي أنه لا يوجد في الوقت الحالي، ومع هذه الإدارة ما من شأنه أن يضمن أن "الديموقراطية" الموعودة ستكون من قبيل تلك التي رعت قيامها في اليابان، لا كتلك التي أنعمت بها على شعب تشيلي. وفي الوسع التذكير بأن بعض التجارب الألمع في فرنسا وايطاليا انطوت على تعسف ديموقراطي خطير أملاه منع الحزب الشيوعي في البلد الأول من ان يقوى، وفي البلد الثاني من ان يحكم. لا بل، وبالنظر الى تاريخية المفهوم الديموقراطي، مثله مثل اي مفهوم تاريخي، غدا من الصعب اليوم الركون الى صيغ في الديموقراطية تنكص الى المراحل السابقة التي لا تستجيب الشمولية المواطنية. بمعنى آخر، لم تعد ديموقراطية افريقيا الجنوبية السابقة والمقصورة على البيض، وديموقراطية اسرائيل الأقل ديموقراطية حيال العرب، مجرد تعبير عن مكانة أرفع في التنظيم السياسي، بل غدت أيضاً تعبيراً عن نقص مريع في ديموقراطية هاتين الديموقراطيتين. بيد أن المواقف العامة والمبدئية التي تُسجّل هنا لا تلغي ان الخطر على العراقيين، في ماضيهم وحاضرهم على الأقل، يتأتى عن أسباب لعبت فيها الادارة الأميركية، او الولايات المتحدة عموماً، دوراً ثانوياً. وهنا لا بد من مراجعة جذرية لقناعات تبسيطية أمكن تحويلها، عربياً وخارج العراق، قناعاتٍ شعبية. فالوضع لم يندفع الى ما اندفع اليه لأن "الأميركان دعموا صدام" في هذه الفترة أو تلك، وهو ما فعلوه، ولا لأنهم فرضوا حصاراً جائراً، وهو كذلك. فالسبب العميق الذي يؤوّل المأساة الراهنة أننا نحصد، في العراق، الحصاد الأمرّ لتاريخ "حركة التحرر الوطني العربية". وما التركيز السجالي على التفصيل الأميركي والإغفال عن الأساس الذاتي غير دليل آخر الى الميل المستشري الى رفع المسؤولية عن النفس. فإذا كانت النظرة من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تشدّد على الحرب، فأغلب الظن أن النظرة من العراق تشدد عليها هي نفسها بوصفها مدخلاً الى الخلاص. ذاك أنه، وضداً على تبسيطية "التناقض الواحد" الذي يشق العالم باستواء وتكافؤ، تحول أنظمة الاستبداد دون تبلور هذا البُعد الانساني الواحد لصراعات كوكبنا. فهي أنظمة منغلقة تعريفاً وعصية على التأثّر بما يجري خارجها. ومن موقعها هذا تؤسس أوضاعاً استثنائية وخاصة يصعب إدراجها في جهد عالمي شامل. وإذ تُستبعد السياسة كلياً كوسيط للتبادل معها، تحل محلها المشاعر العاطفية الحادة التي يصبغها يأس ورغبة حادة في أي خلاص فوري. وهنا، لا بد من مواجهة الحقائق التي تبدو جارحة للبعض حول شعبية التدخل، ما يقود الى تناول الأمور بطريقة تغاير الاتهامات الرائجة في ما خص "العمالة لأميركا". فإذا كان التعاون مع سياسة أميركية كالموصوفة أعلاه ينطوي، في نظرنا، على خطأ أملاه طغيان اليأس على التحليل، إلا أن الخطأ هذا ليس عمالة الا بالقدر الذي كان فيه فلاديمير إيليتش لينين "عميلاً" للامبريالية العسكرية الألمانية التي تولّت إيصاله الى روسيا كي يقود ثورته ضد خصومه ممن يحاربون ألمانيا. فالأمر كان إذاً بمثابة محاولة للاستفادة من واقع موضوعي على أساس اتفاق مرحلي على الأهداف. وللأسف يتناسى أصحاب العقلية الاتهامية، وكثيرون منهم لم يروا غضاضة في التعامل مع أنظمة البلدان الاشتراكية السابقة، أن معارضات أوروبا الشرقية والوسطى ما كانت لتنجح في إسقاط الشيوعية وإقامة أنظمة ديموقراطية لولا الدعم المتفاوت من بلدان غربية. ويتكرر الشيء نفسه حالياً مع معارضات في العالم الثالث، كالزيمبابوية مثلاً، أو مع منظمات مجتمع مدني لا حصر لها. وللمرء أن يختلف مع تحليلات المعارضة العراقية لكنه، خصوصاً إن لم يكن عراقياً، مدعوّ الى التنبّه الى تلك الحرقة الشمشونية التي اندفع المعارضون العراقيون اليها تحت وطأة استبداد يقابله عجز مطلق عن توليد أسباب عراقية أو عربية للتغيير. والعراقيون حساسون اليوم، ويحق لهم أن يشعروا كذلك، حيال ميل عربي مستشرٍ ومديد إلى إلحاق قضيتهم الوطنية بقضايا أخرى، كما لو أننا لم نتعلم الا قليلاً جداً من مرارات التجاوز على الدولة-الأمة ومزاعم تمثيلها من خارجها ورغماً عنها. وهذا مما يقود الى تنزيه النقد الذي قد يُوجّه الى تلك المعارضة عن التعهير الدارج في بيئات غير عراقية لا تراعي، إطلاقاً، خصوصية معاناة العراقيين وحرقتهم، المتهوّرة أحياناً، الى التغيير. فتعهير كهذا قد يزيد في دفع المعارضة الى الارتماء في أحضان الادارة الأميركية، لا سيما إن لم ينجح العرب في أن يقدّموا للعراق ما يتعدى شتم معارضته! كذلك سيغدو التحكم بمستقبل ذاك البلد والسيطرة على وجهته العامة أصعب فأصعب. فالذي يريد صون ما تبقى من روابط عربية، وهي أضحت قليلة وواهنة جداً، عليه أن يعترف بهذه التعددية لا في الرؤى فحسب بل في المصالح أيضاً. وأما الدعوات المتناثرة هنا وهناك حول التصدي للحرب الأميركية، فأقل ما يقال فيها إنها، هي أيضاً، تعاود تزويج المأساة الى الملهاة. ذاك أننا نعيش اليوم إحدى اللحظات السوداء النادرة في التاريخ لجهة اختلال توازنات القوى بين طرف بعينه وسائر أطراف المعمورة. ولن يكون في الوسع تجليس التوازن المختل بمقاومة وتصدٍ لن يفاقما الا الاختلال نفسه، فيما المتاح، فضلاً عن العمل الهادىء لاستمالة العراقيين الى وجهة النظر هذه، ضغوط سياسية وديبلوماسية ومجتمعية ترهص بنماذج سياسية ومجتمعية بديل. فكائنة ما كانت رداءة الادارة الأميركية الحالية الا أننا لسنا حيال نظام فاشي يعدم إمكانات المعارضة، بل أمام ديموقراطية لا تحول الرضّة التي تعانيها دون اطلاق قوى معارضة للحرب على ما كانت الحال إبان حرب فيتنام. وهذا ما يُكسب مخاطبة الرأي العام الأميركي والتأثير فيه أهمية قصوى، خصوصاً وقد تصدّعت حركات التحرر بعدما آلت، في أغلبيتها الساحقة، الى تصحّر سياسي ومجتمعي قاتل. وكحال تلك الحركات انتهى كل توازن سلاحي بعد الحرب الباردة فيما غدت شبهة الارهاب، بعد 11 أيلول، تطاول الأنشطة العنفية كائنة ما كانت. وما العمليات الانتحارية في فلسطين/اسرائيل، التي تعود على أصحابها بالهزائم السياسية والأخلاقية، غير نتاج للافقار الذي ألمّ بالعنف وسياساته. فإذا أضفنا الفوارق النوعية وغير المسبوقة في القدرات الاقتصادية والتقنية، تبعاً للعولمة وما أوجدته من ثراء، خصوصاً في الولايات المتحدة، تبدّى القتال والمقاومة مجرد تبديد لما تبقى من قوى ذاتية، وهو أصلاً هزيل. لا بل تبدّى الأفق العربي نذيراً بهزيمة كاسحة تُعطف على قائمة الهزائم والمآسي الطويلة. وأبشع ما في هزيمة كهذه أن العرب سيستشعرونها فيما العراقيون سيكونون في وضع احتفالي... ولو لوقت عابر.