لا يمر يوم من دون أن نسمع هنا ونقرأ هناك تصريحات تركية تؤكد العزم على اجتياح منطقتي الموصل وكركوك. فمن تمنيات وتحليلات السياسيين والعسكريين عن أهمية بلادهم في نظر العم سام، لطمأنة ذاتهم قبل تهدئة الرأي العام، وصلت اللهجة إلى التهديدات. آخرها، وربما أهمها وأكثرها دلالة تصريح يدعي أنه إذا أدخلت أميركا ستين ألف جندي إلى شمال العراق فان تركيا سترسل سبعين ألفاً. حجة تعتمد على قوة العدد وأدبية الأسلوب منها على قاعدة سياسية. لكن الأمور ليست بسيطة لهذا البلد القوي الحامل معه عقدة الخوف من الضعف والتقهقر منذ أكثر من أربعة قرون. فمم تخاف تركيا بعد أن ثبتت صلابة تحالفاتها وحلفائها، خصوصاً في مواجهة دولة كسورية أو شعب كالأكراد وحتى تجاه اليونان؟ ولو خيرت تركيا بين حرب في العراق توفر في ما بعد الكثير من السلطات والحريات للتركمان أو بقاء صدام ومعه استمرار قمعهم، لما ترددت لحظة في اختيار مصلحتها في ديمومة نظام صدام على حساب حلفائها واخوتها في اللغة والأصل. تلك هي السياسة وقوانينها. وأدل ما عبر به عن خوف تركيا من الحرب في العراق ما قاله رئيس وزرائها من أن العراق سيكون كالجحيم فمن الأفضل ألاّ تفتح أبوابه. أي، بمعنى آخر، يقول الإسلامي غُل: يجب إبقاء المعذبين معذبين والطغاة طغاة. ما تخاف منه تركيا في الوقت الحاضر يمكن حصره في الدرجة الأولى بكلمتي "كردستان العراق" وما يمكن أن تقود إليه التطورات المقبلة في العراق، خصوصاً مع ظهور تناقضات بين مصالحها ومصالح أميركا. خلال السنوات التي تلت حرب الكويت وأدت إلى ظهور منطقة آمنة لأكراد العراق وخلال تطوراتها اللاحقة، دأب سياسيو تركيا على رسم الوضع الكردي في العراق كخطر أساسي على بلادهم. لا من كون المنطقة تحتضن مقاتلي حزب العمال الكردستاني، فهذا ما استفادت منه، بل من احتمال ديمومة الأمر الواقع وحصول أكراد العراق على اعتراف رسمي يتحول نموذجاً يحلم به أكرادها. والصورة التي أعطيت أيضاً عن هذه المنطقة تمثلت كذلك بوجود عدد كبير من التركمان فيها وتعرضهم لقمع كردي. ولم يُوقف الإعلام الحديث عن انتماء منطقتي الموصل وكركوك التاريخي لتركيا. لكل هذا لم يكن الدخول المستمر للجيش التركي إلى هذه المنطقة بحجة ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني بل لتكريس سيطرتها ونفوذها وإضعاف الكيان الكردي هناك باستمرار. مع ذلك استمر الأمر الواقع ولم تتحقق رغبة تركيا في عودة الحكومة المركزية إلى شمال العراق. بل أخذت هذه الحكومة تقترب من الانهيار بإرادة ورغبة سيدة العالم التي تخطط لما بعد صدام من دون الإفصاح كثيراً عن نياتها. والواضح أن دور الأكراد ازداد أهمية في هذه الخطط. أما ما حصلت عليه تركيا فهو مساعدات مالية وضمانات بعدم المس بحدود العراق ووحدة أراضيه وتأكيد القرار 1441. إلا أن تركيا تحتاج كما يبدو إلى أكثر من ذلك لإبعاد مخاوفها، على رغم حصولها على بلايين الدولارات تعويضاً. ومع بداية الحرب سيشكل الأكراد عاملاً مهماً في إضعاف حكومة صدام حسين، سيتحركون نحو المناطق الواقعة في جنوب حدودهم الحالية وأولها كركوك. والوصول إليها ستكون بالنسبة اليهم اسهل من وصول الجيش الأميركي أو القوات التركية. فهم يعرفون المنطقة ودقائقها، لهم فيها مؤازرون وحلفاء، ويؤمنون بأنها تعود اليهم تاريخياً، ولكونهم يشكلون فيها أكثرية منذ قرون. وقد وصلوا في عام 1991 إلى كركوك بعد أكثر من قرنين على فقدانهم اياها كعاصمة لإحدى أهم إماراتهم نتيجة زحف جيوش بغداد العثمانية. أما الأميركيون فإنهم سيكونون في أراض بعيدة. إنهم يستطيعون الاعتماد على حلفائهم الأكراد من دون أي مشكلة تذكر، فلا حاجة الى المجازفة بأرواح جنودهم. أما الجيش التركي فانه سيكون إذا توجه إلى كركوك في مكان بعيد من حدوده بمئات الكيلومترات وبين ناس غالبيتهم لا يرحبون بحضوره، فلسكان المنطقة تجربة تاريخية مع السادة العثمانيين. والمنطق البسيط يقول إذا كان هناك احتلال فليكن من قبل السيد الأول لا من قبل الوسيط الذي سيطلب حصته من الغنيمة. وسيبدو الأمر وكأن الأميركيين قاموا بالحرب لكي تحصل تركيا على اللقمة الدسمة. ليس من عادة الأميركيين أن يعملوا لدى الآخرين ومن أجلهم، خصوصاً عند من لن تستمر عوامل قوة دولته لولا المساعدات الأميركية. فتركيا الحالية في وضع اقتصادي مأسوي يقاس بالوضع في الأرجنتين. إلا أنها تتمتع بموقع جغرافي - سياسي يحميها من الانزلاق إلى الهاوية، وهي في حاجة إلى توظيف خدماتها لدى صاحب عمل يدفع بسخاء. لم تحصل تركيا على تعهدات بالسماح لها باحتلال مدينتي كركوك والموصل. فهي بدخولها هاتين المدينتين تعقد الأمور على صاحبة قرار الحرب ولا تسهلها. لا من كونها تواجه رفضاً كردياً فقط وإنما تثير أيضاً جارة ترغب الولاياتالمتحدة في إبقائها بعيدة من ساحة الحرب. فإيران لن تجد في تحركات تركيا نحو آبار النفط في شمال العراق خدمة لمصالحها المستقبلية، ولها حلفاء تستطيع دعمهم ضد تركيا. ولا يمكن غض النظر عن الموقف الأوروبي من احتلال تركي لجزء من العراق، وهي التي تواجه الآن، وبعد ربع قرن، فشل احتلالها لقبرص. تركيا القوية عسكرياً الفقيرة اقتصادياً لن تتوقف عن الحلم بأن تضيف إلى ثروتها المائية ثروة نفط مدينتي الموصل وكركوك. بذلك ستكون قد جمعت اثنين من أهم السوائل الداعمة لتطور الدول والشعوب في العصر الحاضر ومادتين أوليين لقوتها في الشرق الأوسط. لكن الأميركيين لا يتعاملون مع الحلم بقدر ما ينظرون إلى الواقع. ربما سيسمحون للجيش التركي بأن يدخل إلى شمال العراق لبعض الوقت، لكن هذا لن يحل خوفها الدائم من كردستان لا من الأكراد. * كاتب كردي. أستاذ في جامعة باريس.