قد يكون الجواب الايجابي عن سؤال كسؤال العنوان أول ما يتبادر الى الذهن. فالقوة هي التي تتحكم بعلاقات الدول في ما بينها خاصة حين تكون هناك خلافات واختلافات. لكن هل يصحّ هذا في تركيا والموصل؟ هلكوت حكيم يحاول الاجابة: تمتد ولاية الموصل كما يفهم حدودها السياسيون الأتراك الى جنوب مدينة كركوك الغنية بذهبها الأسود. وتعتبر في نظرهم جزءاً من تركيا التاريخية. ويشكل مجموع ما كان يسمى بولاية الموصل، اي معظم المناطق الكردية ومحافظة الموصل الحالية، واحدة من المناطق الغنية في منطقة الشرق الأوسط. فالطموح التركي في ولاية الموصل لا يقبل الشك. وهناك قادة سياسيون وعسكريون اتراك لن يترددوا لحظة واحدة في دفع جيشهم الى جنوب مدينة كركوك اذا كان القرار من صلاحياتهم، الا ان المسألة ليست هينة لا داخلياً ولا خارجياً. فكلما تأزمت العلاقة بين العراقوتركيا، بل بين العرب وتركيا، يسرف قادة هذه الاخيرة في اطلاق تصريحات عن حقهم التاريخي في هذه الولاية ويجدون في بلادهم آذاناً تستمع بعمق وولع الى ما يقولون وعيونا تتألق بريقاً. ولا غرابة في ذلك. فيتحمس الخطباء السياسيون في الحديث عن "اخواننا التركمان في ولاية الموصل وما يعانونه من اضطهاد". وكأن هذا الاضطهاد، الحقيقي فعلاً، ليس له وجود الا في زمن تأزم العلاقات بين تركياوالعراق بشكل خاص او العالم العربي بشكل عام. ولكن سرعان ما تعود الامور الى مجراها ويطغى السكوت على الألسنة والتصريحات، وكأن شيئاً لم يكن. منذ انتهاء حرب الكويت تتبع تركيا تجاه العراق في ما يخص شماله سياستين اساسيتين جنباً الى جنب. وقد تبدوان لأول وهلة متناقضتين. الأولى هي العمل من اجل اعادة سيطرة نظام بغداد على المنطقة الكردية التي تخرج من سيطرتها منذ ثماني سنوات. والهدف هو قطع الطريق على حصول اكراد العراق على اي اعتراف او كيان يمكنهما ان يؤثرا سلبياً على اكرادها. لهذا مارست وتمارس الكثير من الضغوط عليهم لاعادة العلاقات مع حكومة بغداد والاستمرار في المفاوضات والتحالفات معها. الا ان الموقف الاميركي المتشدد من النظام العراقي حال دون تحقيق النتائج المرجوة من السياسة التركية هذه. فرغم اللقاءات والمفاوضات والتحالفات بين الاحزاب الكردية والحكومة العراقية فان السلطة المركزية لم تستطع حتى الآن اعادة سيطرتها على المنطقة. ويبدو للمراقب ان هذا الاحتمال يبتعد من جديد كلما ظهر كأنه قريب. اما السياسة الثانية لتركيا فهي مد نفوذها على كردستان العراق بهدف الوقوف في وجه النفوذ الايراني من جهة والاستعداد لضرب مقاتلي حزب العمل الكردستاني من جهة اخرى. الا ان الهدف البعيد والاحتمالي هو الاستعداد للسيطرة على شمال العراق وربما احتلاله وضمه في حالة انهيار الدولة العراقية. والتحالفات العراقية الجديدة مع سورية وحزب العمال الكردستاني التركي جاءت لتضع حدا على الأقل في الفترة القادمة لمحاولات تركيا اعادة سلطة بغداد الى شمال العراق. وكانت بوادر التقارب بين ايرانوالعراق من العوامل المؤثرة ايضاً في ازدياد معاداة تركيا للعراق. فمنذ فترة والصحافة التركية - بما فيها الصحف التي ايدت بقوة الموقف العراقي في حرب الكويت وقبضت اموالاً هائلة من الحكومة العراقية - تشن حملات عنيفة ضد هذا النظام لتقديمه الدعم لحزب العمال الكردستاني. فانحسار سياسة تركيا لاعادة سلطة العراق على اكراده يقود بالنتيجة الى اعتماد اكثر لسياسة مد نفوذها هي الى شمال العراق. ومنذ أربعة اعوام لم تتوقف تركيا عن بسط نفوذها ارضاً وجواً في كردستان العراق. فمن جانب عملت عبر اجتياحاتها العسكرية للمنطقة بحجة مطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، على هز السيادة العراقية على اراضيها وتهميشها اكثر فأكثر. ولو نظرنا الى هذا الهدف في شمال العراق لبدا لنا ان وجود اعضاء حزب العمال الكردستاني هناك افاد تركيا اكثر مما أضر بها. وقد كررت مراراً اجتياحاتها العسكرية دون ان تضع نهاية لوجود اكرادها المتمردين هناك. واعتماداً على حجة صيانة امنها القومي ضد هجمات مقاتلي الكردستاني قررت تركيا عام 1997 اقامة منطقة امنية في شمال العراق. فالجيش تركي والمقاتلون ينتمون الى الدولة التركية الا ان الأرض التي اصبحت مسرح المنطقة الآمنة ليست تركية. صحيح انها لم تستطع ان تحقق المنطقة الآمنة فعلياً على الأرض بالاعتماد على قواتها العسكرية، الا انها تستطيع ان تعتمد على تحالفها مع الحزب الديموقراطي الكردستاني في تحقيق جزء من اهدافها في تلك المنطقة وان تدعي ان اجراءاتها شرعية لكونها تأتي استجابة لطلب ممثلي السكان المحليين. وتستطيع تركيا كذلك ان تعتمد على جيشها وطائراتها لمطاردة اعضاء حزب العمال وابعادهم عن حدودها وردع الاتحاد الوطني وأعوانه في محاولتهم للسيطرة على الأراضي الخاضعة لقوات الحزب الديموقراطي الكردستاني والواقعة ضمن الحدود التي تعتبرها تركيا من مناطق نفوذها. كما تم تلمس ذلك في دورها اثناء الحرب الاخيرة قبل عام بين اكراد العراق. فتركيا حاولت وتحاول ان تجعل جزءاً من المنطقة الآمنة التي قررها هكذا مجلس الأمن عام 1991 منطقة آمنة لها وتحت سيطرتها. ومنذ سنوات وتركيا تدعم الاحزاب التركمانية في كردستان العراق وتحاول فرضها كقوة سياسية في المنطقة الخارجة عن حكم بغداد. وقد اجبرت القوتين الكرديتين المتحاربتين على قبول ممثليهم، اي ممثلي تركمان العراق، كقوة سلام في المنطقة. وسعت الى ادخالهم في كل محاولة لتشكيل الحكومة في اربيل. وتعمل كذلك بكل ما لديها من وسائل مادية وسياسية في تسجيل سكان العديد من القرى والأرياف الكردية الواقعة على الطريق المؤدي الى مدينة كركوك كأتراك. وتحاول ايضاً ارساء دعائم تأييد شعبي لها بكسب الناس عبر مختلف الوسائل من المساعدات والاغراءات. ولم يكن نجاحها في كل هذه المناحي ضئيلاً بسبب الصراع الدموي الذي يدور بين الفصيلين الكرديين الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني منذ 1994. وبسبب ما يحمله الناس من جروح ما زالت دامية سببها النظام العراقي. بيد ان التطورات الاخيرة في المنطقة اعادت الى صدارة المواضيع مشكلة ولاية الموصل وحق تركيا التاريخية عليها. صحيح ان مسألة ولاية الموصل والخلاف عليها بين الأتراك والانكليز لم تجد "حلا نهائيا" الا في 1925 بالحاقها بالدولة العراقية الجديدة، اي بعد خمس سنوات من تأسيس هذه الدولة وبعد مرور سبع سنوات على انتهاء الحرب الكونية الأولى واندحار الامبراطورية العثمانية. آنذاك، كانت ولاية الموصل حديثة الخروج من السيطرة العثمانية. الا انها تختلف اليوم عما كانت عليه قبل خمسة وسبعين عاماً. فنسبة العرب فيها اكثر بكثير من نسبتهم في ذلك الوقت. ثم ان اكراد العراق وقضيتهم ليسوا في نفس حالة الضعف والخمود التي كانوا عليها عقب الحرب العالمية الأولى، ولا اكراد تركيا هم كما كانوا عليه يومها، ولا الدول المعنية هي هي. وليست الظروف الدولية دائماً في صالح تركيا رغم انها استطاعت ان تستعيد شيئاً كبيراً من اهميتها الاستراتيجية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وازدياد مواردها المالية وكون جيرانها في الجنوب يمرون بظروف صعبة تتسم بالضعف، لا سيما في ما يتعلق بالعراق. قبل 1925 لم يكن لدى غالبية اكراد ولاية الموصل الذين كانوا يشكلون اكثرية سكانها شعور قومي ملموس. ولا كانت لديهم فكرة واضحة حول السياسة التي كانت الكمالية التركية تخططها لهم. في حين يعلم الاكراد في ايامنا هذه ما تكنه الدولة التركية تجاههم. فالقوميون منهم يتصورون ان العامل الرئيسي الذي يمنعهم من تكوين كيان قومي هو تركيا. فهي تعارض كل اعتراف رسمي بخصوصية شعبهم اينما كان. وما الوضع القائم في كردستان العراق الا نواة دولة مستقبلية في نظر الحكام الأتراك. وهذا ما يخيفهم اكثر من أي شيء آخر في هذه المنطقة. لذا وقفوا ضد فكرة العراق الفيديرالي وسخروا كل طاقاتهم وقواهم للعمل على افشال العديد من الاتفاقات التي توصل اليها الحزبان المتناحران الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني. فولاية الموصل تعني اليوم بالنسبة للدولة التركية الأكراد قبل ان تعني النفط والتركمان. فهي ما زالت تعاني من مشكلتها الكردية ولم تجد حلاً لها. وإذا ما اضافت ولاية الموصل الى حدودها فانها سوف تضيف مشكلة ثلاثة ملايين الى اكثر من اثني عشر مليون كردي ممن هم اصلاً لديها. لا تستطيع تركيا ضم ولاية الموصل او جزءاً منها وصولاً الى كركوك دون التنازل لأكرادها عن شيء من الحقوق التي يطالبون بها. فهي ستضطر الى قبول الامر الواقع في ما يخص اكراد العراق الذين يحكمون انفسهم في العديد من الجوانب منذ سبع سنوات. فالدراسة في المدارس باللغة الكردية والاعلام يبث وينشر باللغة الكردية وتتم الشؤون الادارية باللغة الكردية وكل هذا ممنوع في تركيا، فلا تستطيع ان تلغي هذا الواقع وتفرض سياسة التتريك على اكراد العراق مثلما تفرضه على اكرادها. وإذا ما اضطرت بقبول الأمر الواقع، ومن الصعب تصور غير ذلك في حالة الاحتلال، فكيف يكون الامر بالنسبة لأكرادها؟ اتستطيع الاستمرار في سياسة النفي لحقوقهم بعد ان يتقوى موقفهم قانونياً وأمام الرأي العام العالمي ويزداد عددهم؟ وقد تؤدي حالة كهذه الى اضعاف حزب العمال الكردستاني، خاصة اذا وصل اكراد العراق الى تحقيق جزء مهم من مطامحهم تحت المظلة التركية. ولكن تركيا لن تستطيع الاستمرار في عنادها ورفضها مطالب اكرادها. ولأن قمع هؤلاء وصل الى درجة من العمق والقِدَم فان فتح باب لهم سوف يؤدي وبشكل ميكانيكي الى زعزعة معظم الابواب السياسية والثقافية والاقتصادية الموصدة في وجوههم. وهذا ما تخاف منه تركيا بشكل يفسّر اجمالي خوفها من الوضع في كردستان العراق منذ حرب الخليج الثانية. ومن الصعب التصور بأن الدولة التركية سوف تدخل في حرب عامة مع اكراد العراق على ارض لا تعرفها جغرافيا في وقت لم تستطع ان تنهي المعركة الدائرة ضمن حدود لها منذ عقد ونصف العقد. ثم ماذا سيكون موقفها من العرب في ولاية الموصل؟ أتستطيع تركيا ان تمحو من الاذهان الاسكندرون العربية؟ ام انها ستتبع سياسة تهجير عرب الموصل الى جنوبالعراق ووسطه؟ اذا احتلت كردستان العراق فانها ستكون بحاجة الى الاستقرار لضمان استغلال ثرواتها وهذا لن يتم دون اعطاء الاكراد جزءا مهما مما يأملون الوصول اليه. ولكن صاحب القرار عند الاكراد هو قيادتا الحزبين الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني. فلأيهما تعطى السلطة في ظل عدم امكانية تعايشهما معا وتقاسمهما للنفوذ؟ في اكثر الاحتمالات تختار تركيا حليفها الحزب الديموقراطي الكرستاني. ولن يبقى امام الاتحاد الا اللجوء الى حرب العصابات بمساعدة من ايران ودول اخرى ضد تركيا وحلفائها. احتلال ولاية الموصل يضع تركيا في مواجهة ايرانوالعراق وسورية الذين لن يدخروا وسعاً في تسليح الاكراد المعارضين لمثل هذا الاحتلال، ان لم يؤد ذلك الى مواجهة مباشرة بين تركيا وجيرانها. كل هذا، ناهيك عن الضغوطات السياسية الأوروبية على تركيا. اذن يبدو ان تركيا تفضل عودة سلطة بغداد الى المناطق الشمالية او بقاء الوضع الحالي دون تغيير على اجتياح المنطقة وضمها. ولكن اذا انهارت السلطة المركزية في بغداد وسادت الفوضى في العراق فان تركيا لن تتردد لحظة واحدة في ضم ما تجده مناسباً وضرورياً لمصالحها وأمنها القومي من أراضي شمال العراق ومن ضمنها مدينة كركوك. فسعيها منذ سنوات لبسط نفوذها على المنطقة هو تحسب لانهيار العراق - هذا الانهيار الذي لا يستطيع احد ان ينكره ضمن الاحتمالات القائمة، ما دامت الحكومة الحالية في السلطة.