السفينة التي حطت على السواحل الفرنسية وعلى متنها 908 أشخاص أكثرهم من أكراد العراق، شغلت الإعلام والسياسة والرأي العام في فرنسا خلال من الشهر الماضي، وأعادت إلى صدارة الأحداث لا المشكلة الكردية فقط، خصوصاً في العراق، وإنما مشكلة الشعب العراقي ونظام صدام حسين بشكل عام أيضاً. وجاء وصول السفينة في وقت قصفت فيه الطائرات الأميركية والبريطانية معسكرات في ضواحي بغداد. وتساءل سياسيون وصحافيون عن الرياح التي دفعت بهذه السفينة الخالية من قبطان إلى السواحل الفرنسية. في وقت تتوقف مثيلاتها منذ سنوات عند الشواطئ اليونانية والإيطالية مع أن راكبيها يصلون براً في ما بعد إلى دول أوروبية شمالية. فكان في الأجوبة اتفاق على أن المنظمين الفعليين لمثل هذه العمليات في النقل البري والبحري هم المافيات الموجودة على طريق الهجرة، خصوصاً المافيا التركية. ولكن، لا أحد ينسى دور المافيات الأخرى في مثل هذه العمليات التي تجري منذ سنوات، وبالتحديد العربية والكردية والجورجية واليونانية والإيطالية. و يبدو أن اللاجئين دفعوا جميعاً ما يزيد مجموعه على مليوني دولار ثمناً لرحلتهم خلال أيام من الشواطئ التركية إلى الشواطئ الفرنسية. وكانت قدرة السفينة لا تزيد على حمل ربع العدد من راكبيها ولم تكن مؤهلة لركوب البحر لما فيها من عيوب ونواقص ميكانيكية. فما ان واجهت أول صدمة بالسواحل حتى بدأت تغرق بعد نزول ركابها من دون علمهم باسم المكان الذي تطأه أقدامهم. وما أن أعلن الاتعلام الفرنسي عن الحادث ووضعه في رأس مواضيعها خلال أيام، حتى تدفقت آراء السياسيين الحكوميين والحزبيين وكذلك مسؤولي المنظمات الإنسانية. واتخذت الحكومة الفرنسية في البداية موقفاً إنسانياً، يختصر باستقبالهم ورعايتهم ومعالجة مرضاهم، وسياسياً برفض تسهيل الطريق أمامهم كلاجئين سياسيين، إلا أن الضغوط السياسية، من اليمين أو من اليسار والوسط، وتعاطف الرأي العام مع معاناة التائهين في البحر دفعت بالحكومة إلى تغيير موقفها ومنحهم ورقة إقامة لمدة ثمانية أيام تسمح لهم بالتنقل بحرية واتخاذ القرار ما إذا كانوا يرغبون في طلب اللجوء السياسي في فرنسا أم لا. وإذا كان جوابهم إيجابيا فإن طلباتهم تدرس فرداً فرداً من قبل "الدائرة الفرنسية للاجئين ومعدمي الأوطان". فمن توافرت فيه شروط معاهدة جنيف عن حق اللجوء السياسي يمنح هذا الحق ليدخل بعد ذلك في معمعان الحياة داخل ثقافة جديدة ولغة جديدة وقوانين تختلف عما اعتاد عليه. ومن لم تتوافر فيه الشروط اللازمة فما عليه إلا أن يواجه ذلك المصير المشؤوم للإنسان الذي لا يملك هوية في عالم غربي أساسه الهوية. ويبدو أن الحكومة الفرنسية أحست بأن أكثرية الشعب الفرنسي تتعاطف مع سكان الباخرة. ففي استفتاء ايد 55 في المئة من المستجوبين موقف الحكومة وأعلن العديد من الناس استعدادهم لاستقبال عدد من اللاجئين في بيوتهم لفترة معينة. وأدت السفينة أيضاً إلى ظهور الخلافات الفرنسية حول الموضوعين الكردي والعراقي من جديد. فإذا كان الأول يحظى إنسانياً بتعاطف شخصيات تنتمي إلى اليسار بكل تياراته واليمين بالعديد منها. وإذا استثنينا اليمين المتطرف واليمين القوموي فإن الوضع الإنساني للأكراد من حيث أنهم لا يملكون سياسياً أية دولة يحتمون بها هو العامل الأول الذي يطغى على دوافع التعاطف معهم. وقد جاء على لسان سياسيين بصددهم مصطلح "معذبو الأرض" والشعب "الذي لا يريده أحد". إلا أن هناك نوعاً من الشعور بالذنب تجاههم يأتي من كون فرنسا هي إحدى الدولتين مع بريطانيا اللتين لم تساندا الأكراد بعد الحرب العالمية الأولى للوصول إلى كيان سياسي كما ساندتا العشرات من الشعوب الأقل عدداً منهم للوصول إلى هذا الهدف. وإذا كان هناك اندفاع في بعض الأوساط الفرنسية للدفاع عن أكراد العراق أكثر من غيرهم فذلك يعود أساساً إلى وجود شعور بكونهم شكلوا قرباناً لتأسيس العراق ووسيلة تبادل للحصول على نسبة من استثمار النفط في هذا البلد. ومع أن المدافعين عن الأكراد ركزوا جهودهم على تصوير الحال السيئة التي يعيشونها بشكل خاص في العراق، فإن أعداءهم لم يتوقفوا عن الحديث عن الصراعات الداخلية بين الأحزاب الكردية نفسها كعامل من العوامل التي تدفع بالناس إلى عدم الشعور بالاستقرار والطمأنينة وبالتالي الهرب نحو الغرب. فالسياسيون الفرنسيون يعرفون جيداً، وهذا ما ترجمه الإعلام بوضوح، أن أكراد العراق يعيشون في أيامنا هذه وبفضل موارد "النفط مقابل الغذاء" في ظروف اقتصادية أحسن بكثير من ظروف سكان باقي العراق. أما اليمين المتطرف أو القريب منه والذي هب ضد نزول اللاجئين على الأراضي الفرنسية فان سياسته الداخلية في فرنسا مبنية أساساً على الوقوف ضد كل هجرة، خصوصاً من بلدان العالم الثالث واعتبارها هجرة اقتصادية لا سياسية. ويرى ان انعدام الأمن في فرنسا هو نتيجة وجود الكثير من الأجانب على أراضيها. ثم أن هذا اليمين معروف بكرهه العرب والمسلمين. وموقفه يزداد تشنجاً في حالة أكراد العراق بشكل خاص بسبب علاقاته القوية مع نظام صدام ودعواته المستمرة إلى إعادة الاعتبار إليه. أما النظام العراقي فان أكثرية واسعة من المطلعين على أمور الشرق الأوسط لم يعد لديها أي وهم حول مدى وحشيته وترى ان من يعاني من الحصار هو الشعب العراقي وحده لا النظام. وأنه صار ضرورياً تخفيف هذه المعاناة. وهناك من يرون ان النظام القائم في بغداد يحمل معه مخاطر كثيرة لشعبه وشعوب المنطقة فلا بد من منعه أن يكون مصدر تهديد لهم. كل هذا مع وجود حقيقة سائدة تؤكد ان للشركات الفرنسية مصالح واسعة في العراق وفي بقاء النظام الحالي. لكن الفرنسيين لن يبدوا أسفاً يذكر إذا ما انتهى نظام صدام إلى مصير من سبقه من الدكتاتوريات الدموية. * كاتب كردي.