منذ عشرات السنين، ونحن نسمع ونقرأ عن مخططات صهيونية تستهدف وحدة دول المنطقة المحيطة باسرائيل، ومن بينها العراق، وتحويلها الى كيانات تقوم على أساس ديني أو طائفي أو اتني: تحويل لبنان الى كيانين مسيحي ومسلم، وسورية الى علويين وسنة والعراق الى عرب وأكراد وتركمان وشيعة، ومصر الى مسلمين وأقباط… الخ. غير ان الحديث عن هذا الموضوع اكتسب أهمية كبيرة في أعقاب مغامرة صدام بغزوه الكويت، واقامة منطقة "الملاذ" الآمن في كردستان العراق شمال خط العرض 36 لحماية الأكراد من بطش النظام، اثر هروب حوالى مليوني كردي الى تركياوايران خوفاً من تهديد النظام في بغداد باستخدام السلاح الكيماوي في أعقاب قمع انتفاضة آذار مارس 1991، ومن ثم فرض منطقة الحظر الجوي على طيران النظام جنوب خط العرض 32 وبعد ذلك 33. كما ان موقف الأخوة القوميين من عراقيين وعرب وبعض "الاسلاميين" وحساسيتهم حيال "الفيديرالية" التي اختارها المجلس الوطني الكردستاني البرلمان في 4 تشرين الأول اكتوبر 1992 كشكل لعلاقة اقليم كردستان بالحكومة المركزية في العراق، كل هذا أثار مشاعر التخوف على الوحدة العراقية، كما لو انه يستهدف، أو سيؤدي الى فصل اقليم كردستان العراقي عن دولة العراق بحدودها الحالية، واقامة "كيان شيعي" في جنوبالعراق. وليس غريباً ان يكون الموضوع موضع اهتمام مراكز الأبحاث والدراسات. ومن ذلك الدراسة التي صدرت عن "مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية" في أبو ظبي في كتاب للباحث الأميركي غراهام فولر بعنوان "العراق في العقد المقبل، هل سيقوى على البقاء حتى العام 2000؟". وأول فصوله هو: "هل سيقوى العراق على البقاء كدولة موحدة؟". والتقرير السري الذي أعده فرنسوا توال السكرتير العام لكتلة اتحاد الوسط في مجلس الشيوخ الفرنسي واستاذ مادة الاستراتيجيا لطلبة الدكتوراه في فرنسا، وغير ذلك كثير. وعندما حدثت الأزمة الأخيرة بين العراقوالأممالمتحدة وأميركا واشتد خطر توجيه ضربة عسكرية جديدة الى العراق يمكن ان تؤدي الى زعزعة النظام الحالي، والتداعيات التي يمكن ان تسفر عنها، تصاعد الحديث من جديد عن وحدة العراق المهددة اذا ما تراخت قبضة صدام حسين على الحكم في بغداد، الأمر الذي يمكن ان يؤدي الى تفتيت العراق وقيام حرب أهلية بين قومياته وطوائفه. وكتبت معالجات كثيرة بهذه الموضوع منها ما كتبه الاستاذ كريم بقرادوني بعنوان مثير "ايها العرب أحذروا تقسيم العراق" "الشرق الأوسط"، 13/2/1998. والاستاذ بلال الحسن "رفضوا الديبلوماسية قبل ان تبدأ، ونوايا تقسيم العراق مشكلة مطروحة على الجميع "الشرق الأوسط" 16/2/1998 وهدى الحسيني تنقل عن مصادر اميركية وبريطانية مطلعة في 16 و19/2/1998 في "الشرق الأوسط" ايضاً تقديرات مختلفة عن الموضوع. فتارة "اليمين الأميركي يقترح تقسيم العراق واعتماد الخيار الشيعي انطلاقاً من البصرة" واخرى "اجماع أميركي على وحدة العراق"، وغير ذلك كثير. ولعل الضجة التي أثارها اجتهاد الاستاذ حازم صاغية في مقالته "عراق ما بعد صدام؟" "الحياة" 5/2/1998 هي الأكبر حين قال: "ان حقن الدماء أهم من الوحدة. وحياة العراقيين ومصالحهم أهم من ان يكون العراق موحداً. ولهذا يجدر بالقوى المعنية… عدم التردد في مناقشة الخيارات جميعاً. بما فيها خيار الطلاق المتحضر". فقد أثارت ردوداً ومناقشات عدة على صفحات "الحياة" ربما لم تنته حتى الآن. فهل ان خطر تقسيم العراق خطر جدي؟ وهل هناك امكانية لپ"طلاق متحضر"، بين قومياته وطوائفه وأديانه حقناً لدماء العراقيين؟ كما يدعو الاستاذ صاغية لمناقشة هذا الخيار كواحد من خيارات اخرى؟ انا مع صاغية في "رفض المقدسات في السياسة" شرط ان يكون المعيار لهذا الرفض هو مصلحة الناس و"حقن دمائهم" حقاً. وابتداء لا بد من القول ان العراق كوحدة جغرافية سياسية ليس كياناً مصطنعاً، كما يتصور أو يصوّر البعض، أو انه حديث التكوين يؤرخ له بتأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921. واذا ما صرفنا النظر عن الدول المركزية التي قامت في بلاد ما بين النهرين في فجر الحضارة الانسانية، والتعامل مع بلادها بين النهرين كوحدة متميزة أيام الامبراطورية الفارسية، سنرى في التاريخ الأقرب أيام الدولة الأموية ان الولاة الأمويين كانوا يعينون ولاة على البلاد المسماة "العراق". وعاش العراق موحداً كجزء من الدولة العباسية قروناً عدة. وفي ظل السيطرة العثمانية التي امتدت أربعة قرون كانت الروابط الاقتصادية، وما يتبعها من علاقات ثقافية واجتماعية بين كردستان العراقوبغداد أوثق من الروابط بينها وبين كردستان تركيا أو كردستان ايران. ووجود العراق كوحدة جغرافية هو الذي دفع الباحث الانكليزي المرموق لونكريك لونغريغ الى تأليف كتابه القيم "أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث". وفي ظل العراق الملكي، وحتى أمد قريب كانت بغداد تضم تجمعاً كردياً يوازي، وربما يزيد ما كانت تضمه الحواضر الكردية كالسليمانية واربيل، وهي أكبر المدن الكردية. وناضل أبناء الشعب الكردي وطلائعهم السياسية طوال السبعين سنة الماضية من اجل تحرر "العراق" من السيطرة الاستعمارية، ومن اجل اقامة "عراق" ديموقراطي يتمتع فيه الأكراد بحقوق متساوية مع أخوانهم العرب. وليس بين القوى السياسية الكردستانية الحالية، وهي القوى المتبلورة في أحزاب سياسية، قوة ذات بال تتبنى شعار الانفصال وتشكيل دولة مستقلة في كردستان العراق. وهذا لا يعني بطبيعة الحال، رفضاً للاستقلال. فليس من الطبيعي ان لا يكون لشعب يزيد تعداده عن 25 مليون انسان، وهو عدد السكان الأكراد في كردستان العراقوتركياوايران، ناهيك عن الأكراد في مناطق أخرى، مطامحه القومية المشروعة في دولة موحدة مستقلة بعد ان ضمت الأممالمتحدة ما يزيد عن 170 دولة وبينها دول لا يزيد تعداد نفوسها عن نفوس محافظة كردستانية واحدة وليس اقليماً من أقاليم كردستان. ان القادة السياسيين في كردستان العراق والأحزاب السياسية ذات الشأن، أعربوا دوماً عن انهم لا يطالبون بدولة مستقلة، من دون التخلي عن الطموح لتحقيق وحدة كردستان باجزائها الثلاثة، واستقلالها في المستقبل. وذلك انطلاقاً من تقدير واقعي للأوضاع الجيوسياسية الراهنة في المنطقة. وما يطالبون به الآن هو التمتع بالحقوق القومية في ظل عراق ديموقراطي يعيشون فيه باخاء ومساواة مع اخوانهم العرب وسائر الانتماءات القومية من تركمان واشوريين وكلدان. الا ان هذا لا يعني بقاء الحال على ما هي عليه، من دون تغيير، الى أبد الآبدين. بل هو رهن بعوامل أخرى. وأهم هذه العوامل قيام نظام ديموقراطي في العراق ينهي التهديد المستمر الذي يتعرض له الأكراد بارتكاب مجازر جديدة على شاكلة حملات الأنفال عام 1988، بعد وقف القتال بين العراقوايران. هذه الحملات التي استكملت تدمير 4500 قرية كردية، وتمخضت عن اختطاف 182 الف مواطن كردي من نساء وشيوخ وأطفال وشباب وتغييبهم في صحارى الوسط والجنوب وجعلهم مادة لتجريب الأسلحة الكيماوية والبيولوجية. ولماذا يتعيّن على الأكراد مثلاً التعرض لمأساة حلبجة والابادة المسلحة الكيماوية على يد حكام بغداد من دون ان يدفعهم ذلك للتفكير بالمطالبة بوضع يؤمن عدم تعرضهم لحملات انفال جديدة وحلبجات جديدة؟ ان سحب نظام صدام اداراته من كردستان في خريف 1991 بعد اعلان منطقة الملاذ الآمن شمال خط العرض 36، وحرمان عشرات وربما مئات الألوف من منتسبي هذه الادارات من موظفين واساتذة جامعة ومعلمين وشرطة وغيرهم من رواتبهم، خلق واقعاً جديداً نسبياً هو خروج القسم الأكبر من اقليم كردستان العراق عن سيطرة الحكومة المركزية في بغداد. والأكثر من هذا هو قيام هذه الحكومة بالتعامل مع الاقليم وكأنه خارج الدولة العراقية عندما ألغت التعامل بالورقة النقدية ذات الپ25 ديناراً المسماة بالطبعة السويسرية… وحرمت مئات الألوف من أبناء الشعب الكردي في العراق من مدخراتهم بهذه الورقة، البالغة مئات الملايين من الدنانير قبل تدهور قيمة الدينار العراقي ذاك التدهور الخطير الذي يعانيه الآن. ولم يغير من هذا الواقع شيئاً دخول قوات الحرس الجمهوري الى مدينة أربيل في 31 آب اغسطس 1996 لبضعة أيام، لتغليب كفة الحزب الديموقراطي الكردستاني في صراعه مع الاتحاد الوطني الكردستاني وانتزاع السيطرة على المدينة من الثاني لصالح الأول، فما يزال الاقليم بادارة الحزبين المتصارعين وليس السلطة المركزية. ولا يمكن استعادة سلطة الحكومة المركزية على الاقليم مجدداً الا بواحد من طرق عدة من بينها: * الغاء منطقة الملاذ الآمن، والتخلي عن حماية الشعب الكردي من بطش النظام، بما يتيح لصدام استباحة كردستان مجدداً بجيشه وحرسه الجمهوري، وبارتكاب مجازر جديدة ضد الشعب الكردي. * أو بالتعاون مع أحد طرفي الصراع في كردستان لجعله، عملياً، عميلاً للسلطة المركزية، واخضاع الطرف الآخر بالقوة، بما يتطلب ذلك من استخدام العنف ايضاً. وتحدي مشاعر الشعب الكردي مما يحمل الطرف الذي يتعرض للاضطهاد الى العودة الى الكفاح المسلح، كما كان الحال طيلة سنوات الستينات والثمانينات. أو بقيام سلطة ديموقراطية في بغداد تستطيع كسب ثقة أبناء الشعب العراقي، ومن بينهم الأكراد، والتوصل الى حل سلمي ديموقراطي يرضى به الشعب الكردي في اطار الدولة العراقية، كحكم ذاتي حقيقي، أو حكومة فيديرالية للاقليم هي تطوير للحكم الذاتي. مع ضمان الحقوق الثقافية والادارية للانتماءات القومية الأخرى. وهذا الحل، في الحقيقة، هو الحل الوحيد الذي يمكن ان يحقق وحدة حقيقية للعراق بعربه وكرده وانتماءاته القومية الأخرى، ويبعد التوتر وعدم الاستقرار ومخاطر تمزق الوطن العراقي على أساس قومي، وما يمكن ان ينجم عن ذلك من كوارث وحرب أهلية بسبب من الخلافات حول الطابع القومي لهذه المنطقة أو تلك، وهذه المدينة أو تلك، خصوصاً بفعل ما قام به النظام الحالي من اجراءات تعسفية لتبديل الطابع القومي للكثير من المناطق الكردية. اما في شأن الشيعة، الذين يؤلفون الغالبية من عرب العراق، فليس هناك فيهم من يدعو الى قيام كيان شيعي. وتاريخ العراق الحديث كله يؤكد انهم رغم كونهم القوة الأكبر في ثورة العشرين، لم يطالبوا بدولة خاصة بهم. بل ناضلوا من اجل دولة وطنية مستقلة دستورية للشعب العراقي، على الضد من مشاريع الاستعمار والانتداب الذي فرضته بريطانيا على العراق. ومن ثم ناضل أبناء الطائفة الشيعية ليس كطائفة، وليس من منطلق طائفي، بل كمناضلين وطنيين وقوميين وديموقراطيين وشيوعيين في مختلف الأحزاب والتنظيمات التي شكلت الحركة الوطنية العراقية. وليس بين التنظيمات الحزبية الموجودة الآن على الساحة السياسية في العراق، والتي يشكل الشيعة قوام عضويتها، حزب يدعو الى قيام "كيان شيعي"، بل هي كلها ترفض ذلك، وتدعو الى الخلاص من الديكتاتورية والتمييز الطائفي والقومي والديني الذي يمارسه النظام الحالي، من دون ان يعني ان النظام الحالي يمثل السنة أو المسلمين أو العرب. والآن نأتي الى موضوعة "خيار الطلاق المتحضر حقناً لدماء العراقيين" باعتبار "ان حقن الدماء أهم من الوحدة وحياة العراقيين ومصالحهم أهم من ان يكون العراق موحداً"، كما يقول صاغية في مقاله المشار اليه سابقاً. فهل هناك امكانية لپ"طلاق متحضر"؟ أحسب ان صاغية نفسه يجيب عن هذا السؤال بالنفي. ففي مقالته المنشورة في "الحياة" في 15/3/1998 بعنوان "هويات البلقان والطلاق المتمدن" يقول بعد ان يتحدث عن الانقسامات القومية والدينىة والمذهبية في البلقان "واذا ما وضعنا واقع كهذا، وجهاً لوجه أمام مأزق الوحدات القسرية، فالواضح ان تفكك هذه الوحدة لا يحل المشكلة بذاته. فالمأزق الآخر يطول كيفية التفكيك بما لا يفجر حروباً على غرار ما شهدنا في البوسنة وغيرها. ويزيد في حدة المأزق أمران، فالجماعات المعنية لا تزال تستبعد في ثقافاتها وسلوكها السياسي فكرة "الطلاق المتمدن". وهو ما يصعب مجرد التفكير فيه في ظل الرقصات الدموية للهويات. وهذا معطوفاً على غربة حل كهذا لم تأخذ به الا تشيكوسلوفاكيا السابقة عن مألوف التفكير السياسي في مناطق شبه متخلفة شبه متقدمة". أفلا ينطبق هذا الكلام على العراق أيضاً؟ أو ليس العراق أقرب الى البلقان، من هذه الناحية، منه الى تشيكوسلوفاكيا السابقة؟ واضافة الى رفض الأكراد والشيعة موضوعة التقسيم، بل كل الشعب العراقي، فإن الفسيفساء العراقية ليست بعيدة عن الفسيفساء البلقانية. ففي كردستان العراق يعيش الى جانب الأكراد كل من التركمان والآشوريين والكلدان الذين لهم امتدادات، هم والأكراد، في المناطق العربية من العراق، وفي بغداد بالذات. واذا كان ثقل الطائفة الشيعية ملحوظاً بشكل ساطع في محافظات الوسط التي تقع جنوببغداد، والجنوب كله، وثقل الطائفة السنية هو في محافظات صلاح الدين تكريت ونينوى الموصل والأنبار الرمادي والفلوجة، فإن محافظة بغداد التي يعيش فيها ما يزيد على ربع سكان العراق هي خليط من السنة والشيعة والمسيحيين. وفي محافظة ديالي، وهي من محافظات الوسط وتقع شمال شرقي بغداد، يشكل الشيعة ما لا يقل عن نصف السكان ان لم يكن أكثر. وبالتالي فإن أي تقسيم للعراق على أساس قومي أو ديني أو طائفي لن يحقن دماء العراقيين، بل سيجر عذابات ومآسي لا حصر لها. ولكن هل يمكن صيانة وحدة العراق ببقاء نظام صدام؟ وهل ان بقاء هذا النظام ضمانة لوحدة العراق، كما يشيع انصار النظام، والكتبة المأجورون في الخارج، وقليلو المعرفة بالواقع العراقي؟ لا جواب عن هذا التساؤل بغير النفي الذي تعززه القراءة الواقعية لعلاقة القمع والقهر بين النظام والشعب على امتداد ما يزيد على الربع قرن. ذلك ان هذا النظام بما ارتكبه من مجازر ضد الشعب الكردي ومن تمييز طائفي بشع ضد الشيعة، وارهاب دموي ضد كل من ابناء الشعب، هو الذي يشكل الخطر الأكبر على وحدة العراق. فالقمع والسجون والارهاب الدموي والتصفيات المستمرة للخصوم، خصوصاً استمرار واقع التقسيم الحالي وتعمقه هو الذي يغذي الميول الانفصالية المحدودة جداً لدى أبناء الشعب الكردي حالياً، ويمكن ان يؤدي في احد المنعطفات الى تحول هذه الميول الى مطلب للاغلبية من الأكراد ما لم يجر تدارك الأمر بالخلاص من نظام صدام حسين، وبناء نظام ديموقراطي فيديرالي يوحد الوطن على أسس صحيحة، ويحظى بثقة جميع ابنائه ويعبئ طاقاتهم لاعماره وتضميد جراحة وبناء مستقبله الزاهر.