منذ ان أغلقت ايطاليا ملفات الهجرة الألبانية الجماعية الى أراضيها، بدأ يتدفق مئات من اللاجئين الاكراد، ومعهم عدد آخر من الاجانب من بلدان العالم الثالث، على الشواطئ الايطالية عبر البحر الادرياتيكي، اذ يصل يومياً عشرات من هؤلاء على متن سفن متهالكة ترسو على شواطئ جنوب شرقي ايطاليا في مقاطعة بوليا، او تحملهم القوارب المطاطية التي تتسلل تحت جنح الظلام. وحتى وقت قريب كانت حركة الهجرة غير القانونية متقطعة، وتحدث على فترات غير منتظمة، لكن مع بدايات العام الماضي تغيّر الوضع تماماً. اذ عقدت المافيات الثلاث، الايطالية والالبانية والروسية ما يشبه الحلف المصيري لتنظيم هجرة النازحين الاكراد من العراقوتركيا الى ايطاليا، بالذات الى مقاطعتي بوليا وكلابريا. ويقول وكيل النيابة الجمهورية في مدينة باري العاصمة الاقليمية لمقاطعة بوليا الجنوبية القاضي البيرتو ماريناني ل"الحياة" ان "مثل هذه العمليات ستستمر بالتأكيد، لأن الارباح التي تجنيها عصابات الاجرام المنظّم، كبيرة جداً، وان المؤسسات الحكومية المعنية بمثل هذه القضية، ستظل غير قادرة على السيطرة على بحر مفتوح السواحل، لان هذه المافيات انجزت عمليات تنسيقية منظّمة كما لو انها احدى الشركات العالمية المتعددة الجنسية، وابرز دليل على ذلك هو التحدي الفاشل لقوات الشرطة الألبانية في هجومها الاخير على مجموعات القوارب المطاطية في السواحل الألبانية". يصل غالبية المهاجرين الاكراد من مواطني تركيا وايران والعراق الى السواحل الايطالية عادة في حال اعياء شديد، يقتلهم الجوع والظمأ وتؤرق مضاجعهم كوابيس رحلة ليلية شاقة مليئة بالخوف حيث يمكن لهذه الزوارق تخطي دوريات الحراسة البحرية التي اصبحت في الآونة الاخيرة مكثفة للغاية، ولا يتوانى قادة هذه الزوارق من رمي الاطفال والنساء في مياه البحر عندما يشعرون باقتراب دوريات الحراسة الايطالية للهرب سريعاً. وتوفي العديد من الاطفال والشباب غرقاً، كما لا يتوانى قادة الزوارق الألبان من سرقة ممتلكات هؤلاء البائسين، وضربهم. وعادة ما يدفع المهاجر الواحد بطريقة غير شرعية نحو 5 آلاف دولار، ومعظمهم لا يعرف بالضبط اين ستأخذهم السفن والزوارق، كل ما يعرفونه انهم متجهون الى ارض الخلاص في اوروبا. وتعتمد خطة الطوارئ التي وضعها الايطاليون على التعامل مع المهاجرين الاكراد الاسلوب الذي طُبّق مع الألبان، اي السماح لهم بالبقاء فترة قصيرة، ثم اعادتهم بحراً الى حيث كانوا قبل النزوح. وطالب عدد من النواب اليساريين وعلى رأسهم حزب "اعادة التأسيس" الشيوعي وجماعات الخضر وعدد من نواب حزب "اليسار الديموقراطي" الذي يقود السلطة حالياً بالائتلاف مع بقية احزاب يسار الوسط، بمعاملة النازحين من الاكراد، معاملة اللاجئين السياسيين. ووافقت السلطات الامنية على النظر بجدية في امكان منح المهاجرين الاكراد حق اللجوء السياسي، والعدول عن فكرة شحنهم بحراً الى تركيا. وتسبب القرار الايطالي الذي اتخذه وزير الداخلية السابق الشيوعي المخضرم جورجو نابوليتانو الذي يتعاطف مع قضية الشعب الكردي، تسبب في احداث صدع في العلاقات مع انقرة الشريكة التجارية المهمة لايطاليا، اذ تبلغ قيمة التجارة المتبادلة بين البلدين نحو 4.5 بليون دولار علاوة على ان روما لعبت دور البطل الرئيسي في محاولات اقناع الاتحاد الاوروبي بقبول عضوية تركيا، غير انها لم تنجح حتى الآن. واذا كان الموقف الايطالي من قضية النازحين الاكراد اغضب تركيا، فان مردوده على مستوى الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي كان اعنف واكثر عمقاً، وكان رد الفعل الاوروبي المعلن عن "عدم تصديق ما يحدث" كما طالبت في حينه حكومات كل من المانياوفرنسا وهولندا وبلجيكا، الحكومة الايطالية بتقديم تفسير لذلك القرار. وترجع المخاوف الاوروبية من طريقة تعامل ايطاليا مع اللاجئين الاكراد الى اعتقاد الشركاء الاوروبيين ان "اولئك اللاجئين لا ينوون البقاء طويلاً على الاراضي الايطالية، وان هدفهم يتمثل في الانتقال الى الدول الاكثر ثراء في شمال اوروبا، وخصوصاً المانيا وهولندا والنمسا". وذكر احد مسؤولي حرس السواحل فيتوريو كالفاني ل"الحياة" بأن نسبة كبيرة من الذين تم التحقيق معهم، هم على درجة كبيرة من الوعي والثقافة واعداد كبيرة منهم تتقن عدة لغات عالمية، وهذا يؤكد بأن هربهم من بلدانهم جاء على ضوء بحثهم عن الحرية والملاذ الآمن". ونسأل السيد كالفاني عن السبب الذي يحمل هؤلاء الأكراد بالتفكير بمغادرة ايطاليا وشدّ الرحال مجدداً بعد وصولهم ايطاليا، للسفر الى بلاد الشمال الاوروبي، فيجيب: "هناك ثلاثة اسباب رئيسية تجعل المانيا مثلاً مفضلة على فرنساوايطاليا بالذات لدى النازحين الاكراد، اولها ان المانيا، خلافاً لايطاليا، تدفع المساعدات الاجتماعية لطالبي اللجوء السياسي، ثانياً ان نسبة الاعتراف بحق اللجوء السياسي في المانيا اعلى منها في ايطاليا، وثالثاً فان رغبة العوائل الكردية بالالتحاق بأقاربهم المقيمين في المانيا منذ سنوات، حيث تقدر الجالية الكردية بالمانيا باكثر من نصف مليون كردي. يرى المسؤولون الاكراد ان سبب نزوح الاكراد هو السياسة التي تتبعها الحكومة التركية التي تستخدم القضية الكردية لتسوية خلافاتها مع الاتحاد الاوروبي. الخلاف الاوروبي بشأن قضية المهاجرين الاكراد يمثل الاختيار الحقيقي الاول لاتفاقية "شينيغين" التي تضم 9 دول اعضاء في الاتحاد الاوروبي، هي: النمسابلجيكاوفرنساوايطالياوالمانيا ولوكسمبورغ وهولندا والبرتغال واسبانيا، وهي اتفاقية تسمح بالغاء الحدود بين هذه الدول، وتدعو الى تشديد الرقابة على الحدود الخارجية لمحيط المجموعة، والطريف بالامر بأن دول حلف شينيغين ترددت طويلاً قبل ان تقبل عضوية ايطاليا، وبالتحديد لاسباب تتعلق بمواقفها المتهاونة مع موجات الهجرة غير الشرعية في السنتين الاخيرتين، لكن الحكومة الايطالية تدافع عن نفسها، وترد على انتقادات مجموعة شينيغين وتحملها مسؤولية تحميل ايطاليا وحدها ما تعانيه من المدّ المتصاعد في الهجرة غير القانونية. من جانب آخر تدعي تركيا بأن غالبية اللاجئين الاكراد يأتون من شمال العراق الواقع ضحية الحرب ومن المناطق المتاخمة التي تطالها المعارك، كما ان ظاهرة الهجرة هي بالاساس اقتصادية، وان آلاف الاشخاص يهربون من الشقاء والفقر، ويذكر بهذا الصدد بأن القضاء التركي دأب على الافراج عن مهاجرين يسعون الى مغادرة البلاد بصورة غير مشروعة لتدني غرامة هذه المخالفة المتعارف عليها والتي تصل الى دولار واحد. وتحت ضغط الاحتجاجات الغاضبة التي جاءت الى ايطاليا من كل الجهات بدأت في التراجع وذلك من خلال تبني نظام الحصص المتبع في بعض دول اوروبا، ومحاولة وجود وظائف لبعض المهاجرين الاكراد على امل اقناعهم بالبقاء في ايطاليا، والتخلي عن خطط الهرب الى بلدان اوروبا الشمالية. احزاب اليمين المعارض قطب الحرية لا تؤيد اياً من الاجراءات الحكومية لحل مشاكل الهجرة المتزايدة الى البلاد ويتهم "اقطاب الحرية" الحكومة ب"التعاطف" غير المشروع مع الاكراد الامر الذي يشجعهم على النزوح الجماعي. اما "الرابطة الشمالية اللومباردية" الانفصالية، فهي الاخرى تعبّر عن غضبها بين الحين والآخر ازاء سياسة الحكومة الايطالية تجاه اللاجئين الاكراد بمنحهم حق اللجوء السياسي والذي تعتبره بمثابة رسالة خطيرة الى جميع اليائسين المنتظرين على سواحل البحر المتوسط والادرياتيكي، ليحيي في قلوبهم امل النزوح الى دولة ترحب بقدومهم ولا تكترث بالوفاء بالتزاماتهم تجاه شركائها الاوروبيين في حلف شينيغين.