بين نقوش حائرة ونقوش دائرة توزعت نصوص مجموعة القاص ساعد الخميسي الصادرة أخيرا عن النادي الأدبي الثقافي بجدة. والحق أن اختيار الحيرة والدوران لافتتين كبيرتين لهذه القصص القصيرة جدا اختيار بعيد عن كل أنواع الاعتباط إذ يكاد تأثير القراءة ينحصر في شعور الحيرة التي تشتدّ حتّى تغدو دورانا ،دورانا حول اللّغة وحول النص وحول المعنى. كيف لا يكون التأثير تأثير حيرة ودوران وأنت تقرأ نصوصا مداراتها تحليق ينتهي إلى تيه في ظلام الليل ... وفم ينشطر بمجرد أن يهم بقضم تفاحة ... ولوحة تتحدى مسمارا (في إشارة إلى قوة التراث وقداسته وغلبته على كل محاولات طمسه )... وهدايا لم تكن في أفق انتظار عروسين جديدين ... ورتابة تشتد فنكسرها بالوجع وبالدم وبالضرر... وفاكهة نرميها بحجارة فترتد إلينا حجارتنا نكاية وعقابا... وحادث يمنع من التصوير بسبب ظاهره الأخلاق وباطنه سرقة الفكرة والمجهود... وإرث تتركه أم لأطفالها يخاله الناس مالا وجاها فإذا هو الحكمة في مواجهة مطبات الحياة... ونص شقي صاحبه ليخرجه إلى الناس في حلة مرضية يجابه بنقد لاذع قد يرد الكاتب عن كتابة أي واحد غيره... وليل إناث مختلف عن كل ليل لا دفء فيه ولا عائلة ولا كرامة بل تسكع على قارعة الطرقات وعرضا للفتنة بمقابل... وأسنان تهوي لا بفعل حادث مثلا بل عض على قطعة خبز وتحديا للحاجة وبرهانا على أن اللقمة مرة وعلى أن هناك من يموت كل يوم ليحيا آخرون وأن ثمة من يعيش الضنك ليصنع فرحة الآخرين... وقيد يظن أن إحكامه حول شخص ما كفيل بحد حريته فيفاجأ من وضع القيد أنها وحدها حركة البدن تشل بينما الفكر حر لا حد لسباحته وحركته ولا قيد عليه... وقوس يمتلك همة ويختار هدفه وطريدة تستبق موتها... وكيس يحلق في الفضاء بحثا عن حياة أخرى بعد أن التهم أطفال حلواه... وأجسام تحتضنها السماء مهمتها التنقيب عن أهداف لا يعلمها إلا الراسخون في البحث... وأنا أعلى يظن أنه بمفرده قادر على تحقيق البهاء الأكمل ثم لا يلبث بعد مراجعة قصيرة أن ينتبه إلى أنّه كان على الطريق الخطأ... ورحلة حياة لا يفصلها عن الموت غير ساعة نوم يمر بعدها الراوي من صخب الحياة إلى هدوء الآخرة ثمّ ينسى كأنه لم يكن... وحوافر خيل تتباطأ لأن التراب صار اسفلتا ولأن قرنا من الزمن كان كافيا لتصبح للخلق مراكب أخرى وسبلا مختلفة... وليل يحتضن نشوة عاشقين لا يكون شاهدا عليها غير أنفاس مداراة ولثام منزوع وسيجارة تنتقل بين شفاه أربع... وقدر يجري بما لا يشتهي الظن فيكون اللقاء الذي قدر أن لقاءات أخرى ستتلوه هو الأخير ... وصداقات ينكشف زيفها عند أول تجربة فتصيب بالإحباط من توسم فيها خيرا ... واصطدام بين لسان اللغة ولغة اللسان فلا يتسع صدر الأول لشهوة الثاني... ورسم يبدو للمدرس ممكنا على ورقة بيضاء بدوائر فيما يصر الطفل على أن لا ورقة تحويه ولا أوراق فالمدينة أكبر من كل الأوراق ومن كل الرسامين وأكبر من أن ترسم... وجمر يفقد حرارته أو لحم فاقد لكل إحساس بالكي أو الحرق... وكرسي ظاهره مجلب للراحة وباطنه سبب للأدواء ومدعاة للتردد على الأطباء... وطالب وسيم يدعى إلى أن يؤثث رغبة أستاذه حتى يدرك معنى أن يكون الواحد مفعولا به أو فيه له فاعل وبينهما فعل محسوس... وفتاة تظن أنها قطعت على حبيبها الأول كل الطرق فيصر من يصبح له زوجا على صداقة ذلك الحبيب ولقياه كل يوم. الحيرة والدوران يؤثثان كل نصوص هذه المجموعة التي لا تغري بشيء مثل إغرائها بالتأويل وبالبحث عن المعنى الكامن أو المستتر وراء كلام لئن كان مأتاه المعجم الذي نعرفه جميعا فإنه مشبع بالايحاء وبالرمز بما يجبر المتلقّي على عدم التعويل على اللغة المعيارية وعلى المضي بعيدا في أغوار الكلام ودلالاته واستعاراته ومجازاته. نصوص ساعد الخميسي التي بين أيدينا لا شيء فيها يدل على أنها نصوصه الأولى إذ خلت تماما من هنات التجارب البكر وجاءت ناضجة مغرية بالقراءة والبحث عن المعنى رغم أنها تندرج ضمن جنس أدبي حديث مازال أمامه وقت لينضج ويتراكم وتتضح معالمه وعسير لا يبدو الإبداع فيه متاحا لغير العارفين بفنون اللغة القابضين على تقنيات الحبكة المقدرين لانتظارات القارئ وآفاقه..