قلائل هم الذين استطاعوا أن يطوعوا جزالة اللغة العربية بهذا القدر من الرشاقة والمهارة والعمق كما فعل الشاعر والروائي الكردي السوري سليم بركات، فاللغة، واللغة وحدها، غدت هاجس هذا الكاتب الذي تمكن من اقتحام الأسوار العالية لها مقتنصا أسرارها، وجمالياتها، وألوانها، وظلالها، ومجازاتها، وموسيقاها، وسلاستها ما دفع بشاعر كبير مثل محمود درويش إلى وصفه بانه "أفضل من كتب باللغة العربية منذ عقدين من الزمان". ولد سليم بركات العام 1951في مدينة القامشلي (أقصى شمال شرقي سوريا) المتاخمة للحدود التركية. بعد إقامته لفترة في دمشق لدراسة اللغة العربية سافر، منتصف السبعينات، إلى بيروت حيث عمل في الإعلام الفلسطيني، ومع مطلع الثمانينات سافر إلى قبرص حيث عمل سكرتيرا للتحرير في مجلة "الكرمل" التي كان يرأس تحريرها محمود درويش. هاجر في نهاية التسعينات إلى السويد، وهو يقيم حتى اللحظة في هذا البلد. أصدر نحو ثلاثين كتابا. في السيرة الذاتية له: "الجندب الحديدي - سيرة الطفولة"، "هاتِه عالياً؛ هاتِ النفير على آخره - سيرة الصبا". في الشعر له: "كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضا"، "هكذا أبعثر موسيسانا"، "الجمهرات"، "بالشِّباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح"، "طيش الياقوت" وسواها. في الرواية له: "فقهاء الظلام"، "أرواح هندسية"، "الريش"، ثلاثية الفلكيون في ثلثاء الموت: عبور البشروش، الكون، كبد ميلاؤس، "الأختام والسديم"، "موتى مبتدئون"، "السلالم الرملية" وغيرها... أصدرت المؤسسة العربية للدراسات والنشر، مؤخرا، "الأعمال الشعرية" لبركات في مجلد واحد يضم أحد عشر ديوانا، وبهذه المناسبة آثرت "الرياض" أن تحاور هذا الكاتب الذي لم ينل حظه من الاهتمام، رغم فرادة، وعذوبة النص الذي يصوغه. فيما يلي نص الحوار: 1- في نصوص سليم بركات تكاد تغيب الحدود بين الشعر والرواية. في تجربتك، هل تؤمن، حقا، بالفصل بين الفنين؟ أي حوار يقوم بين بركات الشاعر، وبين بركات الروائي حتى يقرر أحدهما أن ما يروم كتابته هو هذا وليس ذاك؟ - لا أحاول تعليل الأمر كثيراً. ربما شرحتُ التحصيل، من قبل، على نحوٍ لا أتذكَّره الآن، أو أنني، في كل مرة يعرض عليَّ هذا السؤالُ مرتبتَه "القلقة"، أهدِّئ من روعه: قطعاً، لا أعرف ما هو الشعر، تعريفاً، إلا بالحدس الغامض في كونه انتساباً إلى عودة اللغة أنساقاً ذهولاً، أو ماهيَّات يشترك في توصيفها اللاتعريف. لكنني أعرف ما هو النثري، بخصائص نحوله إلى خطابةٍ، أو سرد حكائي، أو أي جنسٍ آخر. لقد قيِّض لمثلي، حين جمعتُ سرداً من خيال الشعر ونثره، بنازع "الملحمية"، في "الجمهرات"، و"الكراكي"، أن يقود السرد إلى شعريته الأصل - خيالِ الكلمات. وها أنا أرى سرديات شعرية تتنامى، بعافية استراق السمع على الشعريِّ من أذن النثريِّ السارد، مع ملاحظة غير شقية، وهي أن الكثير من هذه "السرديات" تصل منتهى بنائها عارية من الشعريِّ، منقلبة إلى أقصوصة محضاً. هناك، في البرزخ بين الحدس اللغوي متحرراً من مرجعية اللسان العلائقي، وبين اليقين "القانوني" من جمع اللغة نسقاً لتوثيق الفكر، والعبارة، بخصيصة المرجعية الجمعية، واشتراك اللسان في التعريف بالحدِّ؛ - هناك يقف من يستطيع لمَّ نفسه على اختصاص المرجع الناظم (السرد، وعلومه، ومنطقه)، أو لمَّ نفءسه على اختبار اللغة "يجهالةً" تتكشف عن المحيِّر القائم بشأن ابتكاره "العالِم": الشعر على جهة، والنثرُ الحكايةُ على جهة؛ بينهما النَّماءُ المعرِّش على صورة سرد شعري، أو شعر سردي، يتبادلان خصائص النُّقلة بالجسم الواحد نصّاً على "شكل" حديقة، أو هاوية. وأنا صرتُ مدرَّبا على أخذ الكلمات عن جهتيِّ البرزخ، لأنشئ بها نقاءً سرداً، أو نقاءً صوراً إيماءاتٍ، أو مزءجاً كنشاة تاريخ العقل بلا فصل في ممكنات تعبيره - شعرا يروي "الصورَ"، والوقائع، متجانسةً في النسق. لماذا ينبغي أن أفرط، هنا، باقتدار النص المزجي على بناء تأويليَّة جامحة؟ جمعُ "النثريِّ" و"الشعري"، ردُّ اعتبار إلى الإنشاء المبتكِر. جمءعُ الخيال، واللغة، هدايةٌ إلى المتعدِّد، وتدويلٌ للبراعات. 2- من الملاحظ أن سليم بركات في رواياته الأخيرة "كهوف هايدراهوداهوس"، "ثادريميس"، "موتى مبتدئون"، و"السلالم الرملية"...بات يميل إلى تناول تواريخ وأساطير تبدو إغريقية أو اسكندنافية، بحيث تشكل قطيعة مع رواياته الأولى مثل "الريش"، "فقهاء الظلام"، "معسكرات الأبد"، "أرواح هندسية"، وحتى ثلاثية "الفلكيون في ثلثاء الموت: عبور البشروش، الكون، كبد ميلاؤس"، ناهيك عن سيرة الطفولة وسيرة الصبا. كيف تفسر هذا الانتقال؟ وما الذي أرغم سليم بركات إلى ارتياد تلك الأماكن الوعرة؟ هل مللت من الجغرافيا التي وثقتها، بعناية وعذوبة، في "معسكرات الأبد"، "الريش"، "فقهاء الظلام"...وسواها؟ - عليَّ تقديم تقرير عادي عن كوني مسكوناً بشخص آخر لا يُشبهني في طباعه، ولديَّ في ذلك قرائن لا تحصى. وهذا الآخر، الذي فيَّ، موكل بتقدير المسافات الأرضية تحديداً، قياساً بالأشبار، والأمتار، والأذرع، والأقدام، وسواها، التي إنء جاوزتُها بعقلة إصبع لم يعد في وسعي العودة إلى المكان. بعد كل خمس عشرة دقيقة ابتعاداً عن البيت عليَّ النظر إلى الوراء لأتأكد أن الجهات لم تتخالط بعد، ولم تُزِح الأمكنةُ الأمكنةَ عن مواضعها. منذ خُذِلت، كآدمي، في تدبير ساق مائية، أو رملية، على أرض تخصُّني (أرض ممتعة، أو مملة) عَمَّني نازعُ التعميم في الريبة من المكان: داخل البيت، وحده، هو حصانتي، كأنه ليس مكاناً، بل نصٌ. خارج البيت لا حصانة لي مع الجهات، حتى أخالني، بزعم ينبغي أن يؤخذ على محملٍ، لا إقامة لي في جسدي ذاته. وإن كانت لي إقامة فيه فهي موضع جدل. تخطيط لا يوصف في التراجع إلى الحد الأدنى من المكان. إيمانٌ بالكهف كآخر كونٍ: ذلك ما شئته، بثقة المُحءتَمَل، وصفاً لجسارة "الانقلاب" على أمومة المسافة وأبوَّتها. غير أنني، أميناً للمجازفة كاستعراضٍ للاخوف من الخوف، تكفَّلتُ لنفسي مخرجاً يُرضي: كل مكانٍ ساحرٌ ما دمت لم أره بعد. لكن على الأمكنة "الساحرة" هذه أن تبادلني بعض امتنانها على الوصف: هكذا توالت جغرافيات كثيرة على أعماقي، على بُعءد شبر من أنفاس قلبي وبصره: أرض هايدراهوداهوس في "كهوف هايدراهوداهوس"؛ أرض ثاروس في "ثادريميس"؛ أرض السحلبية الزرقاء في "موتى مبتدئون"؛ إقليم كاروكشين في "السلالم الرملية". أضفتُ إلى الأرض أقاليم لم تكن فيها. وسَّعتُ الأرضَ في تراجعي إلى الكهف. وهذه الروايات، المختلفة ظاهراً عن شقيقاتها، هي استحواذ نفسانيٌّ على الواقعي المُحءتَمَل، بانتخاب الخيال لمثاله الواقعي إرثاً من خصَّيصته الخيالية: لقد قلَّبت بين يدي رواية "كهوف هايدراهوداهوس" أربع عشرة سنة قبل كتابتها. ظننتُ أن لديَّ متسعاً من الوقت يكفي لترتيب حقولها، وكائناتها، ومراتب مجتمعها، في كتاب كبير. حالت هجرتي الأخيرة دون ذلك. عدتُ بالرواية إلى تأويلي للزمن كخاصيَّة لا تكفي بناء عمل واحد في ألف سنة. كل عمل أدبي تلزمه ألف عام ليشارف اكتماله. لكننا نعمد إلى اختزال أعمالنا استباقاً للغدر: الوقتُ مهينٌ، عادة، والالتفاف عليه، اختزالاً، يُهينه، تماما كما يهينُ المنتحرُ الموتَ. "كهوف هايدراهوداهوس" افتراضٌ لممكن خلائقي بعد انقراض الإنسان. في كل متخيَّل خلائقي، أبعد من راهن الإنسان وجوداً، عود على بدء: الأنساق الاجتماعية. الطبائع. صروف القوة. هوميروس لم يبتعد شبراً عن تراتبية السلطة البشرية في ابتكاره لسماء الآلهة. سويفت في "رحلات غاليفر"؛ أورويل في "مزرعة الحيوان"؛ كارول في "أليس في بلاد العجائب"؛ غودنغ في "ملك الذباب" (الواقعيُّ بانعطافته على البدء نشوءاً اجتماعاً، ومثله "حي بن يقظان" مثلاً). أمثلة لن تنتهي، اقحمتُها هنا بلا تفصيل في دواعي الإسهاب تحليلاً، لكنها، جملةً، ابتكار لمفتَرَضٍ محتَمَل. لو تخيلنا، مزاحاً، أن ديناصوراً صارح الآخر بهاجسه في انقراض جنسه، وظهور كائن يمشي على ساقين، بعد آلاف السنين من ذلك، ويقرأ صحيفة في قطار، لقهقة صاحبه. فليبثَّ أحدُنا الآخر، الآن، هاجسه بانقراض الآدمي، وظهور النسطور (النصف البشر والنصف الجواد) بعد آلاف السنين. رواية "ثادريميس" شكوى مرحة في سوادها، عن اقتدار أطفال على إشعال حرب "الفناء". لقد "أنقذتُ" رهطاً من الفلاسفة والمتكلمين، في أيامنا، بحرب استباقية تتبعها القيامة، من جدوى "الحقائق في لعبة لغوية"، و"ادعاءات الحقيقة"، في السجال حول "الدلالة النووية"، التي ليست سوى نص. واقعنا راهن خرافي؛ حروبه خرافية بدورها. حروبٌ نصوصٌ حتى لو سقطت أشلاء جار في يدي جاره. لقد نقلتُ الراهن الخرافي إلى "حقيقة في اللغة". جئت بالتماثيل لتنحت جرماً للإنسان يلتقطه، بعد انقراض الإنسان، مخلوق السنتوروس، متأملاً شكله الآدميَّ المحيِّر. "كهوف هايدراهوداهوس"، و"ثادريميس"، روايتان تتصلان بحبل سُري عن نهاية بلا تفجُّع، عن انقراض بلا هلع من اختفاء "سجل الذاكرة الإنسانية". فلءنتهيِّأء للأمر: المسألة لعبة أطفال؛ مصادفةٌ أن أطفالاً أرادوا الحصول، بطريقتهم، على تمثال ناطق فتقوَّضت آخر المدنيات. "موتى مبتدئون" نسجٌ آخر. شأن من شؤون أعماقي في خيبتها حتى العظم. كانت المرة الأولى، التي أسلك ب "المناجاة" مبلغها من الطول لوعةً: قاد جيلي سفناً، عبر البر (!!!)، بحثاً عن تماثيل هيلاكريتوثينيس. لم أشهد لمصائرَ؛ لم أشهد عليها. لم يعد أحد منا إلى إيثاكا. جيل متقوَّض. بذخ في الخسارة. "غريب" لا يتذكر أنه غريب، مذ كان غريباً أبداً. والذين صعدوا إلى غابة سكوغوس بحثا عن غريب يسلُّونه ارتجالاً تساليَ لم تُستحضَر بعد، لم يروا غريبا من قبل. معنى "الغريب"، في "موتى مبتدئون"، غارق في الشرود؛ معنى مفرط في عبث اللاتحديد. المقيم، والعابر، والمهاجر، والوافد، أسماء في سجل "الغريب" المدوَّن بلا انتظام في سطوره، أو تجانس في الكلمات. "الغريب" مائيَّةٌ لن ينجزها أحد؛ لونٌ أسقطه الرسم من ضرورته. "الغريب" افتراض، أو مصطلح افتراضي. رواياتي الأخيرة، هذه، استكمالُ الرحَّالة "صحوة" جغرافيا لا تعرض الملل، بل الموت. وهي روايات (أخص بإشارتي "كهوف هايدراهوداهوس"، و"ثادريميس") تمنيتُ أن أقرأها مكتوبةً عن يدي غيري. وإذ تأخَّر أن يكتبها "الغير" كتبتُها لكلينا. 3- ثمة من يشكو من صعوبة ما يكتبه سليم بركات، ومن غموض العوالم والمناخات التي يرسمها، وخصوصا في أعماله الأخيرة، شعرا أو رواية. هل من رد على هؤلاء؟ - لم أَشَأء؛ بخيال القارئ فيَّ، أن أتوسط للمعهود أحوالاً ومصائر، ومخاطبات، كي يتعهد لكتابة أريدها بالتخطيط بناءاً. لم تفتنِّي التبعية ل 99% من المسطَّر، قصداً، ل 99% من المستجمِّين في "منتزهات" الأدب شمساً مُطءربة، وهواءَ بحرٍ مغن، ومقهى دافئ المقاعد. منذ شبابي المبكر توجهت إلى "المُنتَخَب" الأدبي بحصالة القراءة المجرِّبة تاريخاً وتقادماً: أولئك الكبار، الذين تعرفونهم، جميعا، في الترجمات جميعها. لقد حرَّرني "المُحيِّر" من تبعات العادي، حرَّرني من كتابة "العادي" بجودة معقولة، أو أقل قليلاً (أترك الحكم للآخر، الحصيف في قراءته). لكنء ببقاء امتناني، غير مشروط، لمن أخرجوا العادي من بين أيديهم رسولا إلى أبوَّته الفاتنة، المُلهِمة. قد يكون انطباع "الغرابة" في سجال النظر إلى نصي الروائي من مشارف ثلاثة (أزعم أنني أعرفها): أ - المحاورات، التي بإهمال المرجع في "أسس" المحاورات "منطقا"، لا تتساوق مع "ضرورات" الحصر الواقعي لمواقف "حية". أشخاصي يتحدثون جملةً لا تتفق للحياة، في المحاورات المتكافئة بين لسانين. يتناهبون ما لا تقوله إلا "براعات" وجودهم في البرزخ، متحرريءنَ من أية ضرورة في "محاكاة" الواقعيين. ب - المسالك اللغوية، وهي ممتنَّة لقواعد "كسر اللعبة" في "المنطقي" (ألسنا نخترع عوالم، ومجابهاتِ أفكارٍ، ونستنهض "المختارين" كشخوص للأدوار المختارة في نص شَرءعُهُ أننا "انتخبنا" لكتابة الحكاية قَدءراً من "الفريد الواقعي" يبرر كتابتها؟). أن نكتب "الواقعي" عُرءفاً، في محاكاة له، نمسخه ونهينه. أن نختزل "اللغوي" إلى صدى كسول في المقابسات عن منطقها المتصرِّف بسيطاً، فإنما نشهد لكسل اللسان بسلطته على العقل. ما قصديَ "ضراواتٍ" في استعراض "الفيهقة"، بل استدراج المحيِّر، الذي فينا. واللغة، وحدها، شَصُّ الصَّيد، وخراطينُه. لم أسعَ، قط، إلى الاستعانة بمحاورة من مذاهب الشارع، والمقهى (الذي ما دخلته من ألف عام)، والبيت. ما حاجة القارئ إلى سماع نفءسه مطمئناً إلى اقتداره في الزعم أنه كتب هذه الرواية، أو تلك، بيد غيره؟ لا أقدم له مرآة في اللغة؛ أقدم جرحاً لم يفطن إلى وجوده تحت ثدييه. (حاشَ، هنا، أن أتطاول على كل الرواية العربية. فأنا منقطع عنها من أمد، وحُكمي مثلوم). ج لا أبدأ رواية إلا من مأزق. أرتِّب المأزق أحوالاً في كل رواية. آخذ القارئ معي إلى المأزق. هذا ما يخص الرواية، بزعمي. أما الشعر فلا أجد ما أدفع عنه "غموضه"، و"صعوبته"، مذ لم أجد الشعر إلا محيِّراً، وعراً، نهباً، يقلِّب الباطن أعلى أسفلَ على ظاهره. 4- العنوان هو "مؤشر تعريفي وتحديدي ينقذ النص من الغُفلة"، وعناوين سليم بركات صادمة، تخلق فضولا طاغيا، للتلصص على مغاليق المتن. كيف يختار بركات عناوين أعماله؟ - العناوين هي إلهام النص عندي، أتدبَّر بها قَدءرا موصوفا من خصائص قلِقة في التوصيف. لكن لا منجى. أتمنى، أحيانا، وضع إشاراتٍ رسومٍ، "آثارٍ" بلا حروف، على الأغلفة. لا أريد للعنوان أن يتحمل بنفسه شقاءً مختزلا إلى هذا الحد. العنوان ضحية، عادةً. النص، برمته، هو "عنوان" ذاته، لكننا مجبرون على "التضحية" بأحد اثنين: المؤلف، أو "النص". وقد شاء التاريخ أن نساوم على هذه الفداحة بأضحية ثالثة هي العنوان، الذي أَعِدُه أبدا باعتذاري إليه، فأورَّطه، وأنجو في الأغلب (أأنا أنجو، حقا؟). 5- هل أنت راض عن النقد الذي حاول قراءة أعمالك؟ وهل تشعر بان هؤلاء النقاد كشفوا، ولو جزءا يسيرا، مما تختزنه نصوصك من بلاغة وخيال وأسطورة ورمز...؟ -لا أعرف تقديراً "مُنصفاً" للموقف: إن "اتَّهمتُ" النقد أعفيتُ نفسي، وإن اتَّهمتُ نفسي أعفيتُ النقد. كلانا عنيد: هو يريدني أن أتقدم خطوات في اتجاه آلته مساوماً، وأريده أن يتقدم أشباراً في اتجاه لغتي أميناً لأخلاق النقد. لم أُنصف "النقد" بإعطائه دفائن الظاهر من خزائن النص "المُرفَّه" بالقبول، ولم يُنصفني بقبول ترِكة المقامِر في مجابهاته. سأعثر على النقد يوماً؛ سيعثر عليَّ. 6- كيف قيِّض لسليم بركات، الكردي، أن يجوب فضاءات اللغة العربية حتى عثر على أسلوب لغوي فاتن، بارع وساحر، ومختلف...عجز شقيقه العربي عن العثور عليه؟ - لم يقيَّض لي شيء. ليس في الأمر امتياز. أجاهد أن أكون أميناً، قدر ما أستطيع، لآلة الكتابة بما تقتضيه من رعايةٍ تحفظها فتحفظني في مهنتي - وجوديَ كلماتٍ. ربما يحسُّ العربي (من غير تعميم كبير) باطمئنان إلى هويته في لغته، وانتصارها له، فلا يتحوَّط لانقسامها عليه كتابةً. لا يتهيَّبها مثلي - ربما - تهيُّبَ ميثاقٍ حسبُهُ إنء خنتُ اللغة خانتني؛ إن أهنتها أهانتني؛ إن خذلتها خذلتني؛ إنء دوَّلتُها أكثر بعقد اجتماعِ نُظُمها، وجسارات أحوالها، وتأليف ما نازعها اللسانُ النفعي فيه فشتَّتها، بانتقائيته الظرفية، على مقاصد الضحل السهل، أحكمتءني - هي - على المعنى. آلاتنا، مذء أبرمتِ المصادفةُ خيالنا بقضاء المكتوب كَتَبَةً، هي الكلمات. لم تعد اللغة منفصلة عن سلوكنا حتى في اللحظات الأكثر خَرَساً بلا حبر. إنها طباعنا؛ سمعنا؛ لساننا؛ جبهاتنا الأخيرة؛ انتصارنا المُحتمل الأوحد في "الوجودِ الخسارة". هكذا أرى إلى اللغةِ أعضائي الثانية "أصحَّح" بها خطأَ جسدي، الذي لم أرتكبه. 7- بأية هواجس يقترب سليم بركات من الورقة البيضاء كي يدوِّن؟ هل ثمة طقوس معينة تمارس الكتابة خلالها، أم أن الكتابة تفرض شروطها وطقوسها؟ - بهاجس الاقتراب من الهاوية أتقدَّم إلى الورقة البيضاء، كل يوم، ملقياً حجراً في سحيقها، وأتنصَّت - متهيباً - من سماع وصوله إلى القرارة فلا يصل. لا طقوس كادَّعاء المشعوذ. إصرارٌ يوميٌّ على الذهاب إلى ما أمتحن به الخفيَّ، الذي في الكلمات ذاتها، التي امتحنتُ خفيَّها ذاته، استنطاقاً بعد آخر يذهلني أنني أسمع فيه، كل مرة، محيِّراً يضاف إلى محيِّر. البياض، الذي في الورقة، نقشُ الأبدية على الكلمات محنةً. 8- إلى أي مدى تتواصل مع ما يكتب في سوريا والعالم العربي؟ وكيف تقيِّم، باختصار، هذا النتاج الإبداعي؟ هل ثمة أسماء لفتت انتباهك في السنوات القليلة الأخيرة؟ - أتخبط في الإحراج إذء أُسأل عن تقويم الحاصل الأدبي. لطالما اعترفت أنني أصير بلا ذاكرة، إلا التفصيل اليومي المحيط بي. لم أحصل على صحيفة منذ اثنتي عشرة سنة. لم أحصل على كتب إلا بعض التراثيات، وترجمات فكرية، منذ ثماني سنين. لا أحد أعيره، وأستعير منه مؤلفات عربية، جديدة، كما كنا نفعل (في أحيان قليلة) بقبرص. آخر ما استعرضه على نفسي ثلاث روايات، لا غير، مطلع التسعينات، ثم لا شيء: ثلاث، أو أربع مجموعات شعرية، ورواية واحدة وصلتني من صديقة، في البريد، قبل ثلاث سنين. لم أعد أعرف إذا كنت أنتمي إلى أدب ما، أو حُكءمٍ أدبي. لقد درج الكثيرون، إن سُئلوا في الصحافة عن أدب غيرهم، على الهرب من جواب، تجنُّباً ل "مزالق" الإرضاء والإغضاب. أجد نفسي في هذا الموقف، معتذراً بقسوة. قطعاً، هناك شعراء جيدون، وروائيون كذلك، حُجِبءتُ قسراً عن قراءة جديدهم، من جيلي، أو من هم أكبر بقليل. فإن سألتني: "وَمَن بعد هؤلاء؟"، أو مَنء لفت نظري، في السنين الأخيرة، فهذه حالي تجيبك. لستُ مرجِعاً في الحكم على كِتاب. 9- بعيدا عن العوائق السياسية، إلا تفكر في العودة، يوما، إلى سوريا، والقامشلي، وموسيسانا...ألا تشتاق إلى مواطن الطفولة التي خلدتها بغنائية عذبة في أشعارك ورواياتك؟ - لم أغادر قامشلوكي. أستطيع أن أصفها سنتيمتراً بعد آخر بعينيها هي، في الأطلس، الذي لم تغادره من أعوامي العشرين. تستطيع، هي، أن تصفني نحيلا نَزقاً، عاقلاً كهواء طائش. ليس هنالك من قامشلوكي أخرى. عندها أخت، بالاسم ذاته، كبرتء - فيما بعد - بالذين يعرفون أن أختها الأولى تقيم معي حاضنةً أطفالها: بيروت، ونيقوسيا، وغابة سكوغوس - ابنة الأرخبيل العائم على غمامات ضواحي العاصمة الأسوجية. لن يقيَّض لي، في المنظور راهناً أو ما يليه، أن أتبع طيوري الأولى، بالبندقية، من شمال العالم إلى الشمال السوري. أوصيتُ أن أُحرَق لأتناثر على كل شمال في الكلمات وهي تتقدمني، في غضب، إلى الوجود اللامنصِف. هكذا - ربما - أعود بقامشلوكي، وأولادها - المنافي الرحيمة، كي نلقي النظرة اللانهائية على أختها الصغرى: القامشلي، زائراً أصدقاء طفولتي؛ زائراً أصدقاء سيرتيَّ "الجندب الحديدي"، و"هاتِه عالياً، هاتِ النفيرَ على آخره"، الذين كبروا في القراءة مع قامشلوكي، التي معي - معهم. في السويد، خارج النقد المكتوب، تلقيت ردودا طريفة من "جمعية الرفق بالحيوان"، عبر الهاتف، مستنكرة ذلك السياق "الوحشي" في علاقتي ببهائم الطبيعة. أظنني شرحت لإحدى سيدات جبهة الرفق، بانكليزية "ضارية" في الالتفاف على الترجمة اللاموثوقة، التي نقلتها من خيالي إلى لساني ويديَّ: لم نملك ثلاجات لحفظ الطعام. الهررة تسرق ما تخبئه العائلة من طعام تحت القُفَف، في الحوش. الهررة تصطاد الصيصان. الكلاب تغزو البَيءض. كلابكم وقططكم خارجة، تواً، من تربية في مدارس لم يحلم بها نشءٌ مثلي. والطيور؟ إنها، يا سيدتي، لغز. نتصيدها لندرب أعضاءنا على خيال الحرية في لحم الطير غذاءً. سألتُها: أتأكلين النبات؟ ردت مستغربة: بالطبع. ما قصدك؟ قلت: أنتِ تأكلين أرواحاً. أتعبتُ رُسُل الجمعية بشروح عن هدنة مع الطبيعة، الآن: نحن مُنءهَكون. الطبيعة مُنءهَكة. كوكب مُنءهَك، برمته، من خذلان الآدمي للتراب، وخذلان التراب للآدمي، والأرواح للأرواح... الخ. 10- هل تشعر بان لغتك العالية، الصعبة على الترجمة، قد حالت بينك وبين جائزة نوبل؟ - مَنء لم يساوم، مثلي، على لغته؛ على المحيِّر "مقدَّمةً" لكل اصلٍ، لا يأمَلَنء في حظوظٍ كبرى. 11- في المنفى السويدي البعيد، كيف يقضي سليم بركات أيامه؟ الآمال..الأمنيات..جهات الحنين..!! - أقضي جلوساً إلى نافذة المطبخ. طبخٌ بعد العودة من التسوُّق الصباحي. قراءة على مساررات الأفاويهِ. بزور لإطعام العصافير خارجاً، واحتراس من القطط تحت مقعد الحديقة أن تتربص بالعصافير. أطفال لا يجاوزن مدخل الحديقة فيعرِّجون عليَّ زائرين، يطلبون سكاكر (مذء عرفوني دهقاناً في وَهءبها). جيران يسلِّمون، في عبورهم، حتى لو لم يرني البعض من انعكاس النور على الزجاج المزدوج، لكنهم يعرفون أنني هناك، في كمين الطهوِ الصَّياد. حياة تُحسب وقائعها بالأشبار في عصف الغابة بجن شرقي من ظلال شجر التنُّوب الغربي، والبتولا. شواء أسبوعي. سناجب بنِّية تتقافز قرب شباك غرفة النوم، من صنوبرة إلى أخرى. زريابٌ مليح الجانحين، أخضرُ رماديٌّ بنيٌّ بقودام قوس قزح، لم أرَ غيره في الأنحاء، يقاسم السناجب البنية، وطيور القرقف، والشحارير، وكسَّار الجوز، أشجار الحديقة الخلفية، في المشهد المغلق بسماءٍ من شجرٍ يسند السماء التي تليها. (لماذا صنَّفت العربُ الزريابَ - القيءقَ مؤذَّناً في حجيج من الغربان؟). قيامة اليوميِّ بعد نفير السكينة المدوِّخ، في كل حين. لا أمل في شيء حتى لا أتعثَّر. عودٌ إلى الدائرة في حدائق اللاموصوف، المفقودة في متاهات من بياض الورق. لا أنسى، بالطبع، أن المشهد لا يكتمل توثيقاً إلا بملءءٍ يُشغله الأقرَبانِ إليَّ: زوجتي سِنءدِي، وابني رَان. لقد سلَّمتُ الأبديةَ بقشءرٍ رقيق كقشر حبة الكستنة، ناضجةً شواءً في الجليد الإسكندنافي.