الشاعر الكويتي الدكتور خليفة الوقيان كان ولا يزال منذ 40 عاما يقود حركة التنوير في الكويت من خلال دفاعه المستميت عن حرية الرأي والفكر والعصرنة، بعقلية المثقف المستنير حمل الهم الوطني والعربي والإنساني في وجدانه، فكان فارسا استثنائيا لا يشق له غبار في معركته ضد قوى الإقصاء والظلام وتغييب العقل التي ما انفكت تتربص بأحلام وتطلعات الآخر المختلف معها على امتداد الساحة العربية. (عكاظ) التقت الدكتور الوقيان فأكد لها أن عناصر وحدة الأمة متوافرة لكنه أبدى أسفه من حضور النزعات الفكرية بين بعض المكونات الفاعلة في جسدها مما أدى إلى إضاعة البوصلة -على حد تعبيره- موجها في ذات الوقت انتقادا حادا لتراجع حركة التنوير والانفتاح في الكويت وتقدم ثقافة الغلو، كما تطرق إلى العديد من القضايا الأدبية والفكرية والاجتماعية، مستنكرا استنساخ البعض لتجارب أعلام التجديد سعيا منهم للهروب من الاتهام بالتقليدية.. فإلى نص الحوار: كيف تقيم الحركة الشعرية والثقافية في الكويت؟ وهل صحيح أنها أصيبت بالتراجع عن ذي قبل؟ وما الأسباب من وجهة نظرك باعتبارك أحد أعمدة الكويت شعرا وثقافة؟ - الحركة الشعرية والثقافية في الكويت رافد من روافد الحركة الشعرية والثقافية العربية، تتأثر بعوامل المد والجزر، والتطور والركود. وفيما يتعلق بالحركة الشعرية بخاصة أحسب أن الشعراء الكويتيين كانوا ولا يزالون يواكبون المدارس الشعرية، أو المراحل التي مر بها الشعر العربي، إذ أن فيهم من مثلوا مرحلة الأحياء ومدرسة الديوان، وجماعة ابولو، وحركة التجديد في أواخر عقد الأربعينات «الشعر الحر» وصولا الى قصيدة النثر. وفي الكويت اليوم جيل من المبدعات والمبدعين الشباب الذين لا يقلون عن نظرائهم في الأقطار العربية التي اصطلح على تسميتها بالمركز من جهة نضج التجربة، غير أن الحركة النقدية العربية لا تعطي لتجارب أقطار الأطراف حقها من الدراسة. وهذا الرأي يمتد إلى الحركة الثقافية بعامة، فقد ظهر جيل جديد من الروائيين والمسرحيين والتشكيليين والموسيقيين الذين أضافوا الى ما حققه الجيل السابق إنجازات مهمة. أما المؤسسات الثقافية الكويتية الرسمية فدورها يتأرجح علوا وهبوطا، لأنها لا تعمل وفق استراتيجية تتبناها الدولة، بل تخضع للجهود الفردية. فجيل النهضة من أمثال أساتذتنا عبدالعزيز حسين وأحمد العدواني وأحمد السقاف وحمد الرحيب، ومن هم في حكمهم كانوا يحملون رؤية نهضوية تنويرية، ولذلك استطاعوا أن يحققوا إنجازات مهمة، من خلال مواقعهم الوظيفية، إذ أقاموا المؤسسات والمعاهد الثقافية، مثل المرسم الحر للفنون التشكيلية، والمعهد العالي للفنون المسرحية، والمعهد العالي للفنون الموسيقية، والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.. الخ. ولو لم يحقق هؤلاء الرواد تلك الإنجازات وغيرها في مرحلة الانفتاح لتعذر تحقيقها في هذه المرحلة، حيث تقاوم فيها القوى الأصولية الحركة الفنية من جهة، والاتجاهات التنويرية من جهة أخرى. من خلال رسالتك التي تقدمت بها لنيل درجة الماجستير عام 1974م التي حملت عنوان «القضية العربية في الشعر الكويتي».. وبعد هذه السنين الطويلة والأحداث المأساوية التي ترسخت في الوجدان العربي.. كيف تقرأ القضية العربية اليوم؟ وهل لا يزال المثقف والأديب العربي يرتبطان بالقضايا القومية للأمة العربية؟. الأصل أن يبقى المثقف، أو الأديب العربي القومي متمسكا بقناعاته القومية، مهما كانت الظروف السياسية سيئة ومحبطة؛ إذ لا خيار لنا في ان نكون عربا أو لا نكون. ولا مجال للقول إن التشرذم والتمزق قدر كتب على هذه الأمة، فعناصر وحدة الأمة متوافرة، وإن تخلفت الإرادة السياسية، أو حالت دونها عوامل سياسية، وبعض نزعات فكرية أضاعت البوصلة. وإذا ما استسلم قادة الفكر والمثقفون والأدباء لليأس، فضلا عن الإسهام في إشاعته فعلينا ان لا نلوم أعداء الأمة. وفيما يتعلق بقناعاتي فلا أزال أؤمن أن خلاص الأمة من أمراض الطائفية والقبلية وكل أشكال التشرذم والتناحر لا يتحقق إلا من خلال الرؤية القومية بمفهومها الإنساني، البعيد عن الشوفينية، الذي يعد العروبة لسانا لا عرقا، أما الصيغ التنفيذية للرؤية القومية فمن الطبيعي أن تتجنب إخفاقات التجارب السابقة، وتنتفع بتجارب الآخرين الواقعية الناجحة. محنة غزو الكويت ماذا صنعت بالشاعر والمثقف والإنسان الكويتي؟ وهل أردت من خلال ديوانك «حصاد الريح» الصادر عام 1995م تفكيك واقع عربي مر خيب آمال أبناء الكويت قبل غيرهم من العرب؟ وهل كانت سببا في تراجع المشروع الثقافي الكويتي عربيا؟ - من المؤكد أن محنة الغزو العراقي للكويت كانت موجعة، وقد تركت في أعماق المواطن الكويتي جرحا عميقا، ولكن قدرنا أن لا نكون أسرى لتلك المحنة، أو الفاجعة، أو الخطيئة التاريخية. وفيما يتعلق بي فقد كتبت عدة قصائد خلال شهور الاحتلال، وتم تلحينها وبثها بصوت شادي الخليج من إذاعة الكويت في المملكة العربية السعودية العزيزة. كما كتبت قصائد أخرى عن الغزو بعد التحرير، ولكني طالبت في الوقت نفسه بعدم الانغلاق على الذات وتم نشر تلك الآراء في العام 1991م، أي بعد التحرير بشهور قليلة. وديواني «حصاد الريح» يعرض لمحنة الغزو، ولغيرها من المحن الأخرى، وفي مقدمتها تراجع ثقافة الانفتاح والاستنارة، وتقدم ثقافة الغلو والإرهاب. نلت عضوية العديد من المؤسسات والمطبوعات الثقافية والجوائز.. هل تعتقد أن تلك الجهات قد حققت الأهداف التي وجدت من أجلها؟ وما معوقات العمل الثقافي العربي بشكل عام والكويتي بشكل خاص؟ - المؤسسات والمطبوعات الثقافية أوعية يمكن أن يسكب فيها أو منها العسل أو السم. والفيصل هو الرؤية التي تحملها تلك المؤسسات، لدينا في الكويت مؤسسات ومطبوعات ومنابر تشيع ثقافة الخرافة وتغييب العقل، وأخرى عقلانية تنويرية تهدف إلى إعداد المواطن لمواجهة تحديات العصر. ولأن بعض المؤسسات لا تملك استراتيجية ثقافية، أو رؤية لكيفية بناء الإنسان لذلك نجد هذين النمطين الثقافيين يتناحران ويقتتلان، والمواطن ممزق بين من يجره إلى القرون الوسطى، ومن يحاول أخذه إلى منطق العصر ومتطلباته. فالمعوقات تكمن - إذن - في عدم الإدراك لأهمية الثقافة في بناء الإنسان وتنمية المجتمع، أو تدمير الإنسان وتخريب المجتمع. من خلال عضويتك السابقة في لجنة الجوائز بمؤسسة الكويت للتقدم العلمي.. هل تعتقد أن الجوائز العربية على تعددها خدمت الثقافة والفكر العربي أم أنها مجرد ظاهرة صوتية؟ - الجوائز عامل مساعد، أو محفز للإبداع والإنتاج العلمي؛ فهي لا تخلق مبدعا أو باحثا، ولكنها تكشف عن وجودهما حينا، وتدفعهما الى مزيد من العمل حينا آخر، فضلا عن توفر مناخ للمنافسة. تجربتك الشعرية جمعت بين الأصالة والمعاصرة واستطاعت قصيدتك أن تثير قضايا شكلانية بين المحافظين من الشعراء وأنصار حركات التجريب.. والسؤال هل تجد في شعراء الجيل الحالي «كويتيا وعربيا» من ينحو هذا المنحى؟ - الصراع بين الأصالة والمعاصرة، أو بين المحافظة والتجريب لم يعد قائما الآن بالصورة التي كان عليها الحال في عقدي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، بل إن شعر التفعيلة الذي كان محور الصراع أصبح في نظر بعضهم من تراث الماضي، إذ تحولوا عنه إلى قصيدة النثر، وأحسب أن بإمكان التجارب المتباينة أن تتجاور وتتعايش، ففي ذلك إثراء للحركة الشعرية العربية. والأصل أن يترك المبدع لقصيدته أن تتشكل بالصورة التي تختارها هي، دون تدخل متكلف أو متعسف منه خشية الاتهام بالتقليدية من جهة، أو بالخروج عن المألوف من جهة أخرى. والأمر غير المقبول في نظري هو خوف بعض المبدعين من الاتهام بالتقليدية، واتجاههم من ثم إلى استنساخ تجارب أعلام التجديد والتجريب طمعا في الحصول على شهادة انتماء مزورة للحداثة. نحن بحاجة الى التعرف على خصوصية التجربة الفنية لكل مبدع، بدلا من قراءة تجارب الآخرين من خلال الاستنساخ الرديء لها. وهذا الرأي لا يتعارض مع إيماني بأهمية التجديد والتجريب في مجالات الإبداع كافة. في كتابك الثقافة في الكويت (بواكير - اتجاهات - ريادات) دافعت عن الكويت ومنطقة الخليج العربي حيال الصورة المشوهة التي يراها بعض المثقفين العرب عن المنطقة.. برأيك إلى أي حد تجد هذا الاعتقاد قاصرا عن فهم الواقع؟ - تكمن مشكلة كثير من المثقفين العرب في إصرارهم على النظر إلى منطقة الخليج العربي بأنها لم تكن قبل النفط شيئا مذكورا، وبخاصة من جهة وجود العلماء والأدباء والمؤسسات الثقافية والاتجاهات الفكرية وهذه النظرة تمثل قصورا منهم في فهم الواقع، كما تمثل تقصيرا منا في دفع الآخرين إلى تصويب نظرتهم المغلوطة لمنطقتنا. وكتاب «الثقافة في الكويت بواكير اتجاهات ريادات» هو محاولة لتوثيق نموذج للجهود الثقافية والاتجاهات الفكرية والريادات الإبداعية منذ العقود الأخيرة للقرن السابع عشر في واحدة من دول الخليج العربي، وقد قام زملاء من الباحثين الخليجيين بجهود كبيرة في هذا المجال، ولعل إخوتنا العرب - غير الخليجيين - يفهمون واقع منطقتنا بصورة علمية صحيحة. باعتبارك أحد فرسان الجيل الثاني الذين قادوا حركة التنوير في الكويت منذ وقت مبكر .. ألا ترى معي أن هذه الحركة في تراجع الآن عما كانت عليه؟ وما العمل ليعود زخمها الذي كان ذات يوم؟ - أوافقك الرأي بأن حركة التنوير تعيش حالة تراجع كبير، بل لعلنا نتجه نحو عصور الظلام بسرعة مذهلة، وبصورة تخالف منطق التاريخ وتجاوز هذه المحنة يحتاج إلى تضافر جهود مفكري الأمة. قدمت تجربة شعرية ثرية ولك عطاء غير محدود في خدمة الحركة الأدبية الكويتية والعربية.. بعد كل ذلك هل ما زالت «أشواقك مبعثرة»؟ أم أنك تحتاج إلى «نزهة» وصرت تعتقد أن «الإبحار مع الرياح» صار ذا جدوى أكثر من أي وقت مضى؟ - لا تزال الأشواق مبعثرة، ورحلة البحث عن الحقيقة مستمرة، والإبحار نحو الغد الأفضل هدفا، أو حلما جميلا -على أقل تقدير- لا ينبغي التراجع عنه مهما كان الواقع مريرا.