الشيخ حمد الجاسر.. الباحث، والأديب، والرحالة، والنسابة، وعضو مجامع اللغة العربية في دمشق وبغداد والقاهرة. المولع بمواضع ومواقع الجزيرة العربية.. من قراها إلى مدنها.. ومن سهولها ووديانها إلى مرتفعاتها وجبالها.. ومن شواطئها إلى رمالها وصحرائها، الذي كتب معجمين عنها.. كان أولهما: «معجم المنطقة الشرقية».. و ثانيهما: «معجم شمال المملكة»، وكان أمله أن يعينه نظراؤه حتى يكتمل (المعجم الكبير) للمملكة، وقد أعانه أربعة منهم: الأستاذ محمد أحمد العقيلي بمعجمه عن «المخلاف السليماني».. والأستاذ علي بن صالح السلوك الزهراني بمعجمه عن «بلاد غامد وزهران».. والأستاذ محمد ناصر العبودي بمعجمه عن (بلاد القصيم).. والأستاذ عبدالله بن خميس بمعجمه عن (بلاد اليمامة)، ولم يبق إلا ثلاثة أجزاء، عن شمال غرب المملكة، وعن الحجاز، وعسير ليكتمل «المعجم الكبير».. تنتظر رواداً وعشاقاً مثله يؤمنون بأن المعاجم هي ذاكرة الوطن الجغرافية التي لا يصح ولا يجب أن تغيب عن أبنائه. فمن لا يعرف أرضه.. لا يعرف تاريخه. لقد كان ولعه «بالمعاجم»: قراءة في البدء، وكتابة في ما بعد.. أعجوبة أقرب ما تكون إلى الخرافة منها إلى الحقيقة. فمن يصدق أن يعكف مدرس مادة، الإنشاء في مدرسة ينبع الابتدائية- وقد كانت تلك أولى وظائفه - على نقل كتاب ياقوت الحموي «معجم البلدان» بخط يده في سبعة أيام حتى يسلمه لمشتريه بعد أن قرر بيعه بمائة وخمسين ريالاً، لينفق بها على نفسه.. نظراً لانقطاع راتبه عنه لسبعة أشهر في أرمة الثلاثينيات الميلادية الشهيرة من القرن الماضي. إلا أن نقطة الاشتعال في ذلك الولع لم تخل من الطرافة فعلاً. ففي إحدى حصص الإنشاء.. كان الجاسر يشرح لطلبة السنة السادسة الابتدائية - في ينبع - بعض أبيات من قصيدة أبي العلاء المعري الشهيرة المعروفة باللامية، والتي يقول مطلعها: ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل عفاف وإقدام وحزم ونائل .. إلى أن وصل في شرحه للبيت الذي يقول: يهم الليالي بعض ما أنا مضمر عليه ويثقل (رضوى) دون ما أنا حامل ليقول الجاسر في شرحه: «أما رضوى.. فهو جبل قريب من المدينة، وهو جبل سهل ترقاه الإبل» استناداً إلى ما كان قد قرأه من قبل في «مقامات الحريري».. فصاح الطلبة بصوت واحد: لا يا أستاذ.. ها هو «رضوى» أمامك وهم يشيرون إليه من النافذة. ليفاجأ الأستاذ بمنظر جبل رضوى وارتفاعه وشموخه الذي لا يمكن أن ترقاه الإبل.. كما قال لطلبته. ليبدأ بسؤال نفسه: كيف يصح له ألا يعرف جبلاً تمثل به أبو العلاء المعري ابن بادية الشام.. بينما هو ابن الجزيرة العربية لا يعرف عنه شيئاً؟! لينطلق منذ تلك اللحظة.. منذ ذلك الدرس الذي تلقاه على يد طلبته.. إلى رحلته المعرفية لجغرافية جزيرة العرب التي أخذت منه ما يزيد على ستين عاماً من عمره.. وحتى وافاه الأجل. قصة.. هذا النجم.. هذا الرائد.. الفتى البدوي الفقير الذي خرج من قرية البرود في أقاصي القصيم وهو في الثامنة من عمره ليبدأ رحلة تسياره الطويلة بحثاً عن المعرفة والذات.. بادئاً بمدينة الرياض.. فمكة ومدارسها وحياتها.. فمصر وجامعاتها وأنديتها.. فدمشق وبغداد ومجامعها.. إلى أن جلس بعد تسعة وأربعين عاماً إلى جوار لطفي السيد وطه حسين والسنهوري والعقاد والحكيم والدكتور إبراهيم مدكور: عضواً عاملاً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة.. جنباً إلى جنب، وكتفاً لكتف. قصة طويلة..تعدد رياداته في قلب الجزيرة العربية، فهو المعجمي الأول.. الباحث والنسابة الذي أغنى مكتبتنا بسلاسل رحلاته. سأتوقف عند ريادة المعرفة والتنوير في قلب الجزيرة العربية، التي قادها «الجاسر» بإيمان ويقين بأن المعرفة.. هي أول أدوات التنوير والتغيير؟ فبعد.. أن تناقلته الوظائف التربوية.. من ينبع إلى الأحساء إلى مكةالمكرمة مدرساً، ومربياً.. فمراقباً للتعليم في الظهران.. حطت به عصا الوظائف بعد واحد وأربعين عاماً: مديراً عاماً للمعارف في نجد.. أو معتمداً للمعرف بها بلغة ذلك الزمان وكادره. فكان يصح له بعد كل تلك السنين أن يضع ساقاً على ساق في أوقات فراغه وأن يهتم بعائلته ويلتقي بأصدقائه ومعارفه، ويكرس بقية وقته لمقالاته وأبحاثه التي كان ينشرها في صحف المنطقة الغربية ك«أم القرى والبلاد السعودية والمدينةالمنورة»، ولكنه لم يفعل ذلك وحده وقد كان يكفيه ولكنه تقدم للجهات المختصة يطلب السماح له بإنشاء أول مكتبة في الرياض وهي «مكتبة العرب». حتى تقرأ الشبيبة والناشئة التي بدأتِ تتزايد صحف ومجلات مصر والشام والعراق.. والكتب والمؤلفات والمترجمات التي تصدر عنهم، والتي كانت تصلهم أخبارها ولا يدرون عنها شيئا.. حتى يتواصلوا مع عالم النصف الثاني من القرن العشرين وأحداثه ومجرياته المتلاحقة والعاصفة. ولم يقف الجاسر عند هذا الحد بَل تَقدم بعد أربع سَنُوات من استقراره في الرياض وفي وظيفته.. بطلب إلى ولي العهد آنذاك صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد العزيز لإصدار صحيفة يومية هي «الرياض».. على أن تبدأ شهرية.. فأسبوعية.. فيومية، فأُذن له، ليسافر إلى «القاهرة» في مطلع الخمسينات الميلادية. حتى يتمكن بمعونة الدارسين من الشباب السعوديين في الجامعات المصرية من إصدارها وطباعتها هناك، ثم لتلحق به في الرياض. ولكن عند وصولها منعت من الدخول بعد أن اعترض مدير مكتب سموه وسكرتيره على مسمى «الرياض».. لتعاد ثانية إلى القاهرة لتعديل عنوانها إلى «اليمامة» بدلا من الرياض.. فكانت المفارقة التي ظهرت للقراء أن محرري الصحيفة وكتابها يتحدثون عن صحيفة اسمها «الرياض» بينما اسمها الذي كانت تحمله هو (اليمامة)..!! ثم دارت الأيام والسنين لتصدر صحيفة الرياض اليومية بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات ومن خلال مؤسسة اليمامة التي هندس قيامها الجاسر نفسه، في عهد المؤسسات الصحفية. ولم يقف الجاسر عند المكتبة والصحيفة الأسبوعية التي كان يعاني فيها الكثير من رقباء ذلك الزمان مع كل عدد يصدر منها، بل طلب بعد ذلك.. السماح له بإنشاء أول (مطبعة) في نجد، هي مطبعة الرياض: لتقوم بطباعة «اليمامة»، وما أخذ يصدر بعدها من صحف ومجلات ودوريات.. بفضل الشعلة التي أضاءتها صحيفته ف «مجلته» في القلوب وفي العقول كمجلات: الجزيرة الأسبوعية والقصيم الأسبوعية وغيرهما .. وهكذا.. اكتملت له في تلك الظروف الصعبة أولى خطوط التنوير.. وأهم أدواته: من المكتبة.. إلى الصحيفة.. إلى المطبعة.. ومن خلفهم قلمه الوقاد.. وقلبه الشجاع، ليكون بحق رائد التنوير المعرف في قلب الجزيرة العربية.. وأحد تلك النجوم التي لا تغيب.. وتلك الشموع التي لا تنطفئ التي ظللت سماء القرن العشرين. 1999* * كاتب وصحافي سعودي «1940 - 2021»