لا يكتفي الشاعر اليمني أحمد العواضي بالقول: «إن الأدب في الجزيرة العربية أصيب بنكبة الثقافة العامية» بل يحمّل المؤسسات التعليمية والأكاديمية والمراكز الثقافية مسؤولية ذلك من خلال التعتيم الأدبي وعدم نشر الوعي المعرفي والارتقاء بالذائقة بين أفراد المجتمعات»، معتبراً أن قصيدة النثر فتحت الباب واسعاً لمن يريد أن يكون شاعراً. ويرى أن تقدم السياسي على الثقافي في اليمن، دفع الأحلام إلى التراجع. العواضي الذي يشتغل على تجربته الشعرية بالكثير من الصبر والتأني، أصدر دواوين شعرية، لاقت اهتماماً جيداً في اليمن. «الحياة» التقته في جدة، فكان هذا الحوار حول تجربته الشعرية وقضايا أخرى. هل تعتقد بأن هناك مشكلة بين الشاعر والقارئ اليوم؟ وهل قصيدة النثر تتحمل وزر عزوف القراء عن الشعر؟ - نعم هناك مشكلة في الشعر ذاته ومشكلة في الذائقة أيضاً فالجمهور تربى في المدارس والجامعات والمعاهد على تراث شعري بذائقته القديمة والمنتج الشعري الإبداعي اليوم اختلف تماماً، ولا سيما المتمثل في قصيده النثر سواء اتفقنا معها أم لم نتفق وهي لا تدرس في المدارس ولا في الجامعات وتنتج بمعزل عن الجمهور وتنشر في الصحف والمجلات والانترنت فقط ثم إنها تتقاطع مع الذائقة العربية الضاربة في العمق وان كانت من صميم الثقافة العربية نثراً، إلا أنها ولادة من خارج الرحم وليس لها حبل سري مرتبط ومغذًّى بالتراث لكن لا نستطيع أن ننكر أنها أصبحت إحدى تيارات وروافد الشعر العربي الحديث، وبالتالي فهناك مشكلة لكنها بالطبع ليست مشكلة حداثة لأن الحداثة ربما تكون في المواضيع وطرق التعبير والصور الشعرية وغيرها. وكيف تفسر تحوّل عدد كبير من الكتاب إلى التجريب في كتابة الشعر، من خلال قصيدة النثر ولا سيما من النساء؟ - في اعتقادي أن احد دوافع كتابة قصيدة النثر في التوق المليء إلى الشعر والرغبة في أن أكون شاعراً أو أن تكون شاعرة، لكن الشعر دربة ومران وفكرة ومعرفة وملكة، وهذه الملكة تتركز في الحس الموسيقي وفي الإيقاع وفي الإلمام بالبحور وغير ذلك. والمرأة تحديداً - كالزميلات من الشاعرات التي نراهن - حينما تكتب تجد أمامها فضاء مفتوحاً لكتابة الشعر ونجد في كتابتها استسهالاً، وهذا الاستسهال بالتأكيد ليس حكراً على قصيدة النثر، فهو موجود أيضاً في الشعر العمودي وفي التفعيلة لكن قصيدة النثر فتحت فضاءات واسعة لمن يحب أن يكون شاعراً. النقد وتعاطيه مع الأدب الجديد... هل هو مواكب للحركة الإبداعية من شعر ورواية وغيرهما أم انه لا يزال متخلفاً؟ - في رأيي أن الحداثة العربية المنتجة إبداعياً في الأجناس الفنية كالرواية والشعر بجميع أشكاله متقدمة على النقد، فليس لدينا بناء نقدي مرتفع وليس لدينا خامات نقدية واعية نطمئن إليها ونتثاقف معها، لكن لدينا تيارات نقدية تتكئ على مدارس الغرب وتنقل التجارب الغربية وتحاول تطبيقها اعتسافاً على واقعنا، وبالتالي يكون هناك فارق كبير مثل الفارق بين الصوت والصدى، والعقلية العربية الأدبية اليوم لم تنتج بناءً نقدياً كبيراً، كما كنا نرى في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. دعني انتقل إلى الحركة الأدبية في اليمن... هل هي بخير؟ - نعم هي بخير ولا سيما بعد الوحدة المباركة وبعد إقرار قانون المطبوعات وعدم الرقابة المسبوقة على الطباعة وتوافر شيء من مناخ الحرية. كل هذا أنتج كثيراً من الأسماء المهمة في الشعر وفي النثر وفي الرواية وفي الفن التشكيلي وفي القصة القصيرة، وأنا أرى أنها مطمئنة كثيراً، وأستطيع الإشادة بعدد من المبدعين كالدكتورة نادية الكوكباني ومحمد الغربي عمران ووجدي الأهدل وعلي المقري الذي أراه مهماً جداً، ولا سيما بعد روايته الأخيرة «اليهودي الحالي» وهو شاعر أيضاً وعلوان الجيلاني ومحمد السلامي ومحمد القعود والمعرسي، وهناك أسماء كثيرة وصاعدة، وهناك جيل يتبرعم منذ بداية الألفية الجديدة ويجب أن أعتذر عمن نسيت ذكر اسمه. ألا يجب أن يستفيد المبدع اليمني من تراثه الضارب في عمق التاريخ وينقله الى مشروعه الإبداعي بلغة حداثية رفيعة؟ - ربما المبدع اليمني استفاد أولاً من نبض الشارع والحضور الصرف فيه، كما انه استفاد من الموروث في البناء والنقوش والمعمار والزراعة. كل ذلك تغربل وانعكس على ذهنية المبدع. لكن يجب أن أقول إن التراث المخطوط أو التراث الفكري للأسف لا يزال مخفياً، لأن القدرات الاقتصادية والمالية للدولة لا تسمح بنشر هذا أو طباعته أو أنهم يفضلوا أن ينفقوا المال في قضايا أخرى ذلك أن السياسة لدينا قد أتت على الأخضر واليابس فتقدمت على غيرها من الأمور. كيف ترى تلقي المجتمع اليمني للأدب الجديد؟ وماذا أيضاً عن الإعلام والصحافة؟ - أقول بمنتهى الصراحة أن المجتمع العربي بشكل عام وفي اليمن بشكل خاص، ما زال مستعداً للاستماع إلى الموروث الأدبي كالشعر العمودي مثلاً وهو متمسك به، وهذا الجمهور العام لا يزال لديه موقف من الأشكال الجديدة كقصيدة النثر مثلاً ومن التفعيلة إلى حد ما. وأرى من الضروري جداً أن تدمج الحداثة الأدبية في المناهج الدراسية حتى تهيئ الأجيال الجديدة ذوقياً في استقبال الأدب الجديد. ويوجد في اليمن تعددية سياسية والقانون الذي أقره البرلمان في حرية الصحافة، سمح للقطاع الخاص وللأحزاب المختلفة بإنشاء صحف منوعة، وقد حصل ازدهار صحافي وطفرة إعلامية واستكتبت الصحافة الكثير من الكتاب والأدباء والرياضيين وغيرهم، لكن ذلك في رأي يتراجع لمصلحة السياسي ويتقدم السياسي على الثقافي بمعناه العام. إن الفترة التي مضت كانت مزيجاً متوازناً بين السياسة والهموم اليومية، لكن الآن هناك لوثة سياسية في اليمن أقول هكذا بصراحة، وهو ما أدى إلى التراجع في أحلامنا لعدم الوفاء بالتزامات الجماهير في الشعارات السياسية، وهذا جرس إنذار في اليمن. وعلى الساسة أن يعيدوا النظر في مشروعهم السياسي، وان يتوازنوا مع أهمية الحياة. وصدقني إننا نشعر بمرارة من هذه الانكسارات. تتجنّب في تجربتك الشعرية الهمّ العام إلى الهم الخاص المعاش، والاتكاء على الذات... ما السبب؟ - في الحقيقة أنا مهموم بهمي الشخصي، بحكم أنني بشر ومهموم بمن حولي ومهموم بوطني، هناك إيقاع خفي في قصائدي حول أسى الإنسان الكوني، وأحياناً أنكفي إلى قريتي وأحياناً أتشرنق في ذاتي. لكني أحاول إزاحة الضباب المحيط بالأشياء وكشفها للناس، لتكون التجربة واضحة ويتشارك الجميع فيها. هناك مؤشرات لدي نفسية وذهنية كي أضيف جديداً، لأن الإبداع الشعري ليس فيه اتجاهات عصية على المبدع الحقيقي. كيف تقرأ واقع الأدب في الجزيرة العربية؟ - يجب أن نعترف بأننا في الجزيرة العربية أصبنا بنكبة الثقافة العامية، وطغيان بعض الظواهر الشعبية على الأدب الفصيح. وهناك نمط من الشعر يغذي العامية بشكل لافت، فإذا كانت الثقافة العامية تزدهر في الجزيرة العربية وفي مختلف الوطن العربي، عبر الفضائيات والمجلات غير المسؤولة ثقافياً وأدبياً والمسابقات الشعبية، التي أصبحت اليوم جوائزها بالملايين كبرنامج شاعر المليون وسواه؛ فهناك خطر محدق باللغة الفصحى لغة القرآن الكريم والتي تميزنا عن غيرنا. ماذا ترى في المشهد الشعري السعودي ومَنْ من الأسماء تلفت انتباهك؟ وهل هناك اطلاع على ما يظهر من إنتاج أدبي سعودي في اليمن؟ - أتصور أن «الإنترنت» عملت ما لم تعمله الحكومات. وأذكر أن «الانترنت» قدمت الأدب السعودي في مواقع مختلفة، ربما لأن التواصل في الزيارات وإقامة الندوات تجد شيئاً من التعقيدات، سواء في إجراءات السفر أم التأشيرات أم غير ذلك، وتحول دون الاتصال المباشر الحيوي، وربما هذا حكر على قطاع واسع من المثقفين الذين يستطيعون استخدام «الانترنت» ويستطيعون أن يشتروا المجلات والجرائد، أو يشاهدوا القنوات الفضائية. لكن حسناً فعلت السعودية في الأسبوع الثقافي ومعرض الكتاب الذي أقامته في 2009 وحسناً فعلت اليمن أيضاً، حينما جاء وفد كبير برئاسة وزير الثقافة وكثير من المبدعين في الأسبوع الثقافي اليمني في السعودية. هذه أشياء توطد العلاقة وهذا مهم، ولا نخفي تأثرنا بالشاعر الرائع محمد الثبيتي جوهرة الشعراء العرب، لقد اثر فيناً كثيراً وفي جيلنا وأيضاً عبدالله الصيخان ومحمد العلي وعلي الدميني. إن مثل هذه الأسماء أثرت فينا في اليمن فكانت تنشر لهم قصائد كاملة ونضطر لتصويرها والاحتفاظ بها. ولهم حضور شديد وأعتقد أن هؤلاء خلقوا فينا نوعاً من البهجة ومن التعارض مع القصيدة القديمة.