حمدا لله على بياض الثلج الناصع والذي جعلك تشيح بوجهك عن تلك الأرض المكسوة به لتقع عيناك عليها. تبادلك النظرات ويحتضنك ذلك الوجه الدافئ والشهي كحبة سمسم، فينطلق لسانك بالتحية: «صباح الخير» وترد بابتسامة عذبة وهزة رأس خفيفة «لا، ليس كذلك»! تغريك الإجابة بدعوتها لكوب من القهوة، لكنها تعتذر بأدب جم وهي تمر بمحاذاتك عند المنعطف لبلوغ المركز الطلابي، يربت صوتها على ظهرك «يا أنت، موافقة» تستدير مرحبا: «Hello snow white, my name is white snow» تفرك يديها وهي تضحك مرددة: «Snow job, snow job» يستقبلكما الدفء ورائحة القهوة ... تحيي عاملة النظافة المكسيكية وتسألها عن أخبار صغيرتها الهاربة وتنسل بهدوء لكي لا تثير أحزانها. تحملان أكواب القهوة ... تحييك المحاسبة كالعادة: «Morning early bird» رغم خلو المكان، تجلسان في ركن قصي ... تمتدح لها الصباحات الجميلة وبخاصة هذا الصباح الذي أنبت وردة في طريقك ... تعرف منها محاولة الهروب من المحاضرة لكراهيتها لأنماط الكتابة، تسألها عن التخصص لترد «Creative writing» تتشعب أطراف الحديث: أو هنري، جاك لندن، ادجار ألن بو، إملي ديكنسن... تتسع القائمة ... تعرج على لاتينية الخنزير، تلاطفها، فعليها عدم التبرم والحزن فالمكان جميل ثم تنحني عبر الطاولة وتباغتها بتلك النغمة الشهيرة: « Shaddap you face» «يا لهذا الصباح !!» تصرخ بانتشاء وتتساءل «من أنت؟» تجيب: « I is..» تقاطعك «يا إلهي !!I is» وترددها مرارا، تطلب وقتا مستقطعا كلاعبي كرة السلة لترد عليها: « I is a letter of the alphabet and I am the alphabet of your letters» تتحسس نفسها وهي تهتف «هل هذا حقيقي ؟» تتركان المكان وهي تعدك بالذهاب إلى المحاضرة واللقاء غدا. في صباح اليوم التالي تجدها مع كوبين من القهوة.. تسألها عن محاضراتها وترد: «قطعة من الكيك.... شكرا لنصاعة الثلج» تنساب الأيام كابتسامات طفولية جميلة ليبدأ الكلام عن الرحيل، النهايات والقدر ... تحزم أمتعتها وترحل. رتيبة هي الأيام من بعد ... ثم يأتي ذلك اليوم الذي تجد فيه نفسك تقود مسرعا وأنت تدخل الطريق الرئيس ( آي 25 شمالا) كان (ولي نلسن) يغني: «On the road again» يصهل صوت المذيع المعشوشب بالحياة: Nashville, Tennessee. Stay tuned, more to come " " Country music from FM104 يسرد بعض الأسماء: «فرقة الباما، جوني كاش، جوني بي تشك، كني روجرز، جون دنفر، اوليفيا نيوتن جون وآخرين». تلتصق بمؤخرة شاحنة مسرعة وأنت تشارك فرقة الباما: «Roll on 18 wheeler». كان الطريق يعج بالمسافرين وعلى جانبيه تلهو الحياة بثياب صيفية رائعة: حقول القمح، طائرات رش المحاصيل، الحراثات، شاحنات المزارعين، قطعان الماشية وأسراب الطيور. تعود لجهاز التواصل (CB) وتستمتع بالمشاركات تتوالى الأغنيات: « Let me be there, the gambler, thank god I am a country boy, take this job and» تنسلخ عن تلك الشاحنة التي التصقت بها طويلا لترتاح، تعود للطريق وأنت تراقب الجسور والمنحدرات تحسبا لسيارات البوليس. بعد يوم طويل، تجدها بانتظارك على قارعة الطريق... تدوي أبواق الشاحنات ومنبهات السيارات المارة لذلك اللقاء، تتجولان في تلك المدينة الصغيرة وفي ليلة مقمرة تقرأ قطعة شعرية ل(املي ديكنسن) «هنالك سماء أخرى». يسود الصمت لفترة طويلة لتقطعه وهي تمسك بيديك وبصوت متهدج «أتخلى عن كل ما أملك لكي أراك بعد عشرين عاما». تفتقدك المطارات ... تمر السنون لتصحو على أغنية راب صدئة وأنت تعبر الشارع، تطلب من السائق التخفيف من ذلك الضجيج لتداهمك الإجابة: «امش يا شيبة، هذا فوق مستواك». تنظر إلى ما حولك: الوجوه المكفهرة، الأرصفة القذرة ... فجأة يتراءى لك (جوني كاش) بشعره الأشيب، بهدوئه وبصوته العميق، تحس بيديها تمسكان بيديك، تدور حول نفسك، تتقدم خطوتين تتراجع خطوتين تردد تلك الأغنية: «I walk the line»... رغم الشتائم، البواري والنظرات الحادة تتهادى بمرح وتضحك.... كانت الشمس تنحدر إلى الغروب ورغم الكآبة والضجر المسيطرين على المكان تواصل الضحك. لقد كنت الوحيد الذي يعرف بأن العشرين عاما قد مرت تجر أذيالها لتضيع في لجة الزمن وليس بيدك في تلك اللحظة سوى خيشة صغيرة من الفحم وذلك لزوم البخور للتغلب على رائحة العفن والمجاري المحيطة بمنزلك المستأجر. * عواد الجهني