كلنا يدرك الحقيقة المفزعة، بأن خاتمة الحياة الدنيا إلى موت حتمي لا شكّ فيه، تحقيقًا للوعد الإلهي القاطع «كل نفس ذائقة الموت».. فما أقساها من حقيقة، وما أصعبها من لحظة، لن ينجو منها أحد.. قدر علينا جميعًا أن نحس الموت في ذهاب الراحلين قبل أن ندركه، نقف على حافة القبور، لنودعهم باطن الأرض، ونهيل عليهم الثرى، ليعود التراب إلى التراب، ساعتها تصحو معهم ذكريات، ولحظات عاشوها بيننا بكل ما فيها من أفراح وأتراح.. فيكبر في دواخلنا الإحساس بالفقد، وتنوب الدموع الغزار في التعبير عما يجيش في دواخلنا من حزن عميق، وشجى مضنٍ ومتلاف.. يا الله.. ما للموت من طبيب.. ولا عنه مهرب، «قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم»، طراد لم تنج منه البشرية منذ الأزل، نحتال على الموت بالأمنيات الكواذب، والآمال العراض.. نمد فسحة الرجاء قدر المتسع فتضيق وتضمحل في لحظة الفراق الأليم.. ما أروع الشعراء وهم يحاولون أن يخففوا عنا وقع مصيبة الموت بجعله «مجرد انتقال إلى الضفة الأخرى في انتظار البعث والقيامة الكبرى»، تنظر إلى الموت بهذه النظرة الفلسفية العميقة فيهون في نظرك، ويتحول إلى مجرد «حالة» أو طور من أطوار رحلة الحياة والإنسان.. هذا المتنبي، يشخص الموت ويسلبه حتى سطوته وجبروته الذي لا يقاوم، حين خاطب سيف الدولة مادحًا شجاعته بقوله: وقفْت، وما في الموتِ شكٌّ لواقفٍ كأنك في جفنِ الرّدى وهو نائم هكذا إذًا هو الموت في مخيلة «الشاعر الطّموح»، مقهور بفعل الشجاعة، ومهزوم بخصيصة الإقدام.. وتمضي السنوات، ويبقى القانون الإلهي العظيم (إنك ميت وإنهم ميتون) هو الفيصل في هذه الحياة. صمود تهزمه النائحات، الباكيات بكاء ممضًا يذيب الحشاشات، ويقطع نياط القلوب، متماهيًا مع فطرة الإنسان المجلوبة على الحزن على ما تفقد، والباكية على كل عزيز مفقود.. طاف بي كل ذلك وأنا أودع حبيبنا العم العزيز عبدالله حسين موسى، وقد حمل الناعي نبأ رحيلك الفاجع، تداعت الذكريات إلى الخاطر، واحتشد الجوف بالأنين، وامتلأت الدموع بالمآقي.. تجلّدنا كما ينبغي أن يتجلّد الرجال، ومضغنا مر الصبر، ونحن نحس برزيم الأسى في مراجل قلوبنا يفور حزنًا عليك وأسى.. فما فقدك بفقد رجل عابر، أو نفس خاملة.. لا والله.. كنت العزيز بيننا سيرة وموقفًا.. أشرقت بيننا محبة وإيلافًا.. عرفناك والدًا وصديقًا صادق القلب، سليم الطوايا، نبيل المشاعر.. جمعتنا في باحة محبتك الفياضة مجلسك الأسبوعي العامر بالصحبة الطيبة والكلمة الحلوة والذكريات التي لا نمل سماعها منك، وألّفت بيننا في مساحة قلبك العامر بالإنسانية.. فكنت نعم الأخ والصديق. تسأل عن كل من يغيب وتحرضنا على السؤال عنه وزيارته ومد يد العون إن كان في حاجة لها. كلمة حق لا بد أن تقال في لحظة يصمت فيها لسانك بيننا وتتحدث الذكريات وطيب ما أودعته في نفوسنا من ذكريات.. وإنها لعمر ثانٍ سيعيش بيننا ليعوضنا مرارة فقدك الأليم.. هكذا إذًا مضيت يا صديق العمر.. ألم يكن في الوقت متسع لتقف دقيقة لوداع وعناق نتزود به في صحراء العمر بعدك.. برحيلك انطفأت في نفوسنا كوّة ضوء كانت عامرة بك. بموتك ننعى إلى النفوس قيمة مضت.. ونفسًا زكية رحلت.. بعبورك إلى الضفة الأخرى مضت معك النقيات من الضحكات.. والمستبشرات من الأماني.. من لنا بعدك ليواسي القلوب، ويبعث الأمل، ويريح النفس من وعثاء السفر الطويل في دروب هذه الحياة.. تتقافز في خاطري الآن اللمحات العابرات من سيرة الوجد والشجن الأليم، حزني عليك مديد وتوقي إليك متلاف وعظيم.. مضيت كما يمضي الكبار، في صمت ودون ضجيج، كأنك كنت تحاول أن تنسرب منا ونحن نيام في هذه الحياة، لتوقظنا فاجعة الرحيل، حرصًا منك أن لا ترى الدموع في عيوننا.. نمْ قرير العيون.. سنبكي عليك كما يبكي الرجل، بدمع ساحٍ، وقلوب مطمئنة إلى قضاء الله وقدره، لك منا الدعاء من قلوب أحبتك حقًا، فنسأل الله العلي القدير أن يكرم وفادتك عليه بما يكرم به عباده الصالحين، وأن يظلك بظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة، و«إنا لله وإنا إليه راجعون». كاتب سعودي [email protected]