حوار أجرته صحيفة الحياة اللندنية الدكتور محمد الأحمري من الأطراف بدأ رحلته، حيث يصف بداياته بالاستقرار والثبات، خرج من الجنوب ليثري الأطراف والمحاور بفكره ونتاجه، عاش في أميركا طويلاً وهناك تبلورت مفاهيمه وتحددت رؤاه، يكره النمطية في كل شيء، يسكنه تمرد يجد له ألف مبرر ومبرر، لم ينسجم في العمل الحكومي وتمرد عليه وعندما عاد للوطن وجد مواقف إيجابية جعلته يتفاءل خيراً... طرق باب التجارة ولم ينجح واستوطن صناعة النشر وأبدع فيه. لا يحب القرار في مكان واحد، لذا للحل والترحال حضور لافت في حياته، يكره التصنيفات وينفتح على كل الاتجاهات، ويقرأ كل شيء بموضوعية، تخصصه في التاريخ منحه قدرة على قراءة الحدث وتداعياته... ومكنه من مواكبة التطور حواليه، له قراءات مختلفة في الحرية والعقيدة والليبرالية ويملك تصوراً واضحاً لتفاعل المجتمع أفراداً وجماعات حول كل الثوابت والمتغيرات حواليه، إلى الحوار... * ما الذي تمنحه أجواء الأطراف للمبدع، وتسلبه منها أجواء المحور؟ ** الطرف يسبب الغرور، وتتسرب إليه تبعية لا يعيها، ولكنه ينعم باستقرار وثبات يحسد عليه، والأطراف التي تنتقل للمركز تثريه، وتهزه، فهي خارجة عن عرفه، تحمل طمأنينتها وقوتها، يسخر بها وتعديه بضعفها وخنوعها، وطريقة تمردها السلبية. * اختيارك لجامعة الإمام محمد بن سعود... كان بالخيار أم الإجبار؟ ** لم يكن بالإجبار، ولم تكن هناك خيارات كثيرة في أبها ذلك الوقت، وخارجها لم يكن والداي يحبان البعد عنهم، وقد أغراني والدي آنذاك أنه إن بقيت في أبها فسيشتري لي سيارة، ولعله أصلاً يفكر في الخلاص من خطف سيارته يومياً، فقد كنت آخذ سيارته بمجرد عودتي من المدرسة إلى وقت متأخر من الليل، فرغبتهما والسيارة وأشياء أخرى حسمت الموقف. أنا والمؤسسات الرسمية: * هل أنت مرحب بك في المؤسسات الرسمية؟ ** قابلتني بعض الجهات الرسمية بمجرد وصولي بمواقف إيجابية، ودعيت للمشاركة في أول حوار وطني بعد وصولي، وكان الحوار الثالث في المدينةالمنورة، أما أنا فلم أطلب عملاً في أي مؤسسة رسمية، وعشت قبل هذا قريباً من 20 عاماً من قبل دون أن التزم بعمل عند حكومة أو شركة بل طالباً ثم كاتباً غير ملتزم بمكتب دائم ولا بدوام يومي ثم عملت في النشر ثم التجارة وقتاً قصيراً ثم في النشر مرة ثانية، أو ثالثة، ثم في التجارة ولم أنجح في التجارة في معظم المحاولات، فقد كانت العين على الكتب وهمّ المعرفة وأعمال ثقافية أخرى. ثم لما عرض عليّ العمل في النشر ففرحت بعمل أحبه، وتأخرت عنه بسبب أنه قيد لم أفكر في أن التزم به، ولعلي نجحت فيه في تلك الفترة، وقد قلت للمالك إني قد أعمل ثلاث سنوات ثم أترك، ولا أدري لم حددت هذا، وقد كنت آمل منذ سنين أن أجد فرصة للتفرغ للعمل الفكري، وكان ذلك غاية محاولات التجارة، وبعد ثلاث سنين كما وعدت كنت جاهزاً نفسياً للتغيير ولترك العمل وقد تيسرت لي ظروف عمل في الخارج رأيتها أحسن وأقرب لاهتمامي فخرجت. * الحياة في أميركا... ماذا منحت عقلك وتفاصيلك؟ ** يصعب تحديد ماذا أعطت وماذا أخذت، بعض ذلك أراه وأفهمه وبعضه قد يراه غيري ولا أتنبه له أو لا أفكر فيه، ليس كل ما نأخذه من مجتمع يستحق وضعه في دائرة واحدة هي إما إيجاب أو سلب، فلا شك استفدت الكثير مما لا يتيسّر للطالب الدارس هناك، ولا للموظف التابع لمؤسسة هنا، بسبب أن الطالب والموظف المقيم له علاقة ارتباط مالي ونفسي وثقافي وإداري يشعر دائماً بأنه مرتبط وآمن ومكفول ومرتاح من مسؤولية نفسه، أما من حصل له خلاف ذلك فإنه يتعرض أحياناً لقسوة حياة أخرى، وظروف مختلفة لم يتخيل أن يواجهها، فلم يخطر ببالي ما حدث لي، ولم يكن من المفكر فيه. مما منحت أميركا وأتوقعه من أهم ما لاحظت في نفسي وفي نفوس بعض المثقفين من المهاجرين الذين كتبوا عن هذا الجانب، هو أن أميركا فكرة، أو مشبعة بأهمية الفكرة، وقد وجدت نفسي أكتب مقالات مطولة عن هذا الجانب، ومما منحت أميركا النزعة الفردية للحكم على المواقف والأفكار، وكلفتني مشقة محاولة الفهم لكثير مما يجري، ويخيل لي أن مجتمعنا الهادئ جداً ثقافياً، يبعث على الراحة وعدم المسؤولية حتى عن فهم شيء مما يحدث، وهذا بسبب الحسم الفكري العام وراحة البال السائدة، حيث لا يُستفز الفهم ولا يثار التفكير وهذا مريح ومدمر في آن. وقد كان الحسم الفكري للشيوعيين في روسيا واحداً من أسباب انهيار الجهد الفكري والأدبي، فلم يعد المثقف مسؤولاً عن فهم شيء، لأن رجال الثورة والطبقة العاملة “البروليتاريا”، حسموا المواقف والأفكار، وهكذا لو توهمنا أن أو المشايخ أو رجال الصوفية حسموا كل شيء فسيكون هذا طريق العطالة العقلية والفكرية والفنية عموماً. وقد حدد المنتصرون في الثورة الروسية دور المثقفين في الترويج، وبث محاسن الثورة، وذكر عبقرية الثوار المؤسسين، أو عبقرية ماركس ومن تبعه لمن ارتقى للنقاش الفكري! * لولا 11 أيلول (سبتمبر)... هل كنت ستقيم أكثر هناك؟ ** كنت أفكر قبل أحداث سبتمبر في العودة أو الذهاب لبلد عربي آخر لم أكن حددته، ولكني كنت قد عزمت على العودة للعالم العربي بسبب ولديّ، وبسبب أنني مللت، ووجدت أن عليّ إن بقيت هناك أن أختط طريقاً آخر في أشياء كثيرة، أهمها الانقطاع عن الثقافة والمجتمع العربي والبعد عن الكتابة العربية، وكان هذا في الأربعين كان مزعجاً، وكنت كمن يلملم أشلاء ثقافية ونفسية قد بدأ يشك في صلاحيتها للغرب، ويعلم أنها قد لا تستعيد الوئام مع الشرق، كان خليطاً متعباً، يعرفه من هاجر بعضه وبقي بعضه، ومن انقسمت مشاعره وعائلته. وكنت في زمن بعيد قرأت مذكرات المهندس الزراعي والمؤرخ العراقي الشهير أحمد سوسة فحزنت لبعض ما حدث له، عازماً ألا يحدث لي بعض ما عاناه، ولما اقتربت من خطواته قررت الهرب، ونشرت قصة «كان هذا الدرب نهراً» في لحظة ما قبل قرار العودة، وقد قرأها أديب صديق، فقال “أرواح”، أي عد بهذا القلب المدمى، حادثة سبتمبر جعلتني أكثر قناعة بأن الخروج أحسن، وخرجت بعد الحادثة بنحو ثمانية أشهر، وعدت مرة أخرى للزيارة ومتابعة بعض العمل في 2003 في وقت الاستعداد لحرب العراق، وكانت الحال على العرب والمسلمين صعبة جداً هناك. الكتابة والانكسارات: * رحلتك مع الكتابة ممتدة لعقود.. ما أبرز انكساراتك مع قلمك؟ ** بدأت أنشر المقالات بشكل شبه مستمر منذ نحو عقدين، ولا أدري ماذا تقصد بالانكسارات، فإن كنت تعني تقلّب القناعات، وتعدد الاهتمامات فهذا صحيح، ولأن السن والنضج وتعدد الأحداث الكثيرة لها أثرها على الإنسان، وتلك نعمة أن تتغير رؤية الإنسان وهذا علامة خير، أما الثبات على رؤية وفكرة واحدة وإغلاق الذهن من دون سماع الحق فهي كارثة أتمنى ألا تحيق بي. * هل نحن أمة تقرأ.. أم تسمع أكثر؟ ** لا يمكن مقارنة السماع بالقراءة، فكمية المسموع كانت الغالبية، واليوم تغلبت ثقافة الصورة، وهي مرحلة رائعة ومروّعة، فالخداع مستمر فيها أكثر من ثقافة السماع والقراءة، والتوجّه الثقافي يكثر نحو الصورة، أما مستوى القراءة فهو في تحسّن، والتلذذ بذم العرب وأنهم لا يقرأون أمر لا يخلو من مبالغة، ولعل من أسباب ضعف القراءة ضعف التعليم، وانتشار الأمية بين الجامعيين، والفقر وصعوبة تداول الكتاب. * لا أحد يستطيع تصنيف قلمك.. هل تلك نعمة أم انسلاخ هوية؟ ** يجب أن يتخلى بعض الناس عن هم التصنيف، فلا يهمه من صنّفه وأين وضعه، والنعمة أن أستطيع الكتابة كما أو قريباً مما أود كتابته، لأنني لا أستطيع الكتابة كما أحب، أما الهوية فهي ما أصنعه لنفسي ولمن تقنعه فكرتي، فكل خلع للباس توجه نحو آخر، من الطريف الخلط بين الملابس والأفكار تذكرت هنا كارلايل في كتابه: “الملابس”. * حركة النشر.. هل تعاني اعوجاجاً في العالم العربي؟ ** حركة النشر في العالم العربي تتجه للتوسع، وأرجو أن تكون نحو النضج أيضاً، أما عللها فكثيرة، بسبب ضعف المتلقي، وجهل السوق، وتحكم الحكومات، ولا ننسى أن مؤسسات عريقة قامت بادوار رائعة في الماضي، مثل بولاق، ثم المعارف، ثم مركز دراسات الوحدة، وعالم المعرفة في الكويت، وكمؤسسات حكومية أو وقفية، ثم جاء ناشرون مستقلون كانت لهم أدوار مشكورة. أما التفاصيل المعوّقة، فللأسف أجواؤنا متوترة في كل شيء، وبالتالي أصبح الكتاب من ضحايا الجو العام. * عملت لفترة كمستشار لإحدى المكتبات.. كيف تقوّم الأفكار التي تنزع إليها مؤسسات النشر في السعودية؟ ** مؤسسات النشر الربحية تسعى للربح، فليست أوقافاً ولا جمعيات خيرية، ولديها مشكلة كبيرة في أن النصوص التافهة والسريعة والدعائية لها سوق أكبر من النصوص الجيدة، وكانت المعاناة في اتخاذ القرار بين كتاب جيد بل مهم جداً لا سوق له، وبين نص رديء له سوق كبيرة، وهناك مشكلة أخرى أن المجتمع العربي للأسف يفتقد كثيراً لعملية التثاقف، ونقد الكتب، فليست لدينا مجلة واحدة مهمة وذات أثر في نشر الكتب، تكتب مراجعات وتعريف ونقد للمنشور موثوق بها، والصحافة يصعب جرها للكتاب ولعالمه، لندرة المثقفين بين الصحافيين. أيضاً علاقات الجامعات بالنشر، فمكتبات الجامعات ومكتبات المدارس لا تكاد تتابع ولا تعرف عن الكتب شيئاً، بل وللأسف العلاقة كأنها عدائية بين المؤسسات التعليمية وسوق الكتب، والمؤسسات الرسمية أحياناً تشتري وتروج الكتب الأقل قيمة وأهمية بسبب نفوذ الوساطة. * الكتب الإسلامية خصوصاً الموجهة للغرب.. ألا تشعر أن لغتها بالية؟ ** صحيح، ولكن الذي يحدث الآن أن اللغات الغربية أصبح فيها مؤلفون قديرون وذوو مستوى عال في معظم القضايا، فلم تعد لهم حاجة كبيرة للكتب المتوافرة لدينا، لأن الكتب الإسلامية الأولى الأساسية كترجمات القرآن والسنة وكثير من كتب كبار المفكرين المسلمين السابقين والمعاصرين، سبق أن ترجمت وتوافرت، والذين قرأوها يكتبون بلغاتهم الآن. التحدي يكمن في نشوء ثقافة إسلامية جديدة في الغرب والشرق تختلف عن ثقافتنا الإسلامية، لها سمات خاصة، فهل نفيد منها أم نخافها وتخالفنا؟ هل تعود علينا بتجديد أم تبديد؟ إن ثقافة إسلامية غربية حقيقية مقبلة بل بدأ وصولها منذ زمن محمد أسد وتابعه مراد هوفمان، وآخرون من أصول هندية وعربية وأوروبية، لهم أتباع وحضور ثقافي مشهود، ويتمتعون بمميزات لا يجدها المثقف المقيم في البلاد العربية. * هل تشعر أننا نبالغ كثيراً في تناول مجريات حياتنا وقضايانا؟ ** لا أشعر بهذا بل نسكت عن أكثرها إلحاحاً وأهمية، والمشكلة في تقارب مستويات التناول وقلة تنوعه، ولو تنوع لأثرى وطور. الطائفية والفساد: * الطائفية ومشكلاتها.. ألا يستوعبها مشروع إصلاحي إسلامي؟ ** الطائفية سوء استخدام للدين، وهي فساد خلقي وعقلي وسياسي واجتماعي، وهي سلاح استعماري ناجع يفري مجتمعاتنا، أما المشروع الإصلاحي الإسلامي الذي يساعد في استيعاب هذه المشكلة فهو استعادة الإسلام صافياً قبل العبث به من الفرق، ومن المستفيدين من التقسيم، والإسلام قبل تقسيمه سيرفع الأمة ويجدد دينها، ويقلل توتراتها، ويفيد بعضها من بعض. إنه تحرر من أثقال التاريخ، ومن مساوئ الماضي، ولن يمسح أحد ماضيه ولا تاريخه، ولكن يعطي للتاريخ حجمه، ويفصله عن الدين، وتوجد قطيعة مع عيوب التاريخ ومشكلاته التي يعتز بها البعض فيعطل الحاضر لمصلحة التاريخ! * لماذا أصبحت السلفية في معركة مع كل أحد؟ ** بسبب طبيعتها، فالسلفية في القرن ال 20 الهجري فكرة وحركة إسلامية داخلية محتجة على الفساد والانحراف الإسلامي الداخلي، فكانت مشكلتها في الأصل مع المسلمين المخالفين والمبتدعين، ثم تشعبت بحسب الأماكن والأفكار والأزمان والأشخاص، وبمستوى هؤلاء، فمنهم من يعالج قضايا كبرى، ومنهم من ينقّر بالمجهر عن مشكلة في المجتمع تصادم جزئية كبرت في رأسه، ثم أصابتها عدوى من خصومتها مع التصوف والتشيع، فدخلت أفكارهم في تكوينها، وبسبب مهم آخر وهو خروجها لمواجهة العالم الذي لم تعرفه ولم تتسلح لمواجهته، فكانت حال الرفض للاضطهاد العام الذي يعانيه المسلمون في العالم، فهي تحتج على الحال العامة، فسبب هذا رفضاً ومواجهة عمياء، وهي أحيانا أو بعض مدارسها تكفّر المسلمين وتتبرأ منهم، فكيف تتوقع أن تسلك مع غيرهم؟ ثم إن غالب فرق السلفية تحمل الاسم القديم لمسمى مختلف وجديد تماماً. * لماذا تسير الليبرالية بخطوات خجولة في طرقات المجتمع السعودي؟ ** الليبرالية المحببة عند فئات في الغرب هي مفهومة عندهم، وإن كانت أحياناً تختلف في المعنى والموقف منها من بلد لآخر، فهي في فرنسا معيبة ويهاجمها المتحررون جداً، وهي غالباً ما تلتصق بجانبها الاقتصادي الحديث، وتخدم مسألة خصخصة للخدمات وهيمنة الشركات، وتعني في أميركا الجانب الأخلاقي والفكري أكثر من الاقتصادي، وليس الجانب الاقتصادي غائباً تماماً، ولكن له شعارات أخرى، تهتم بجوانب توسيع الحكومة، أما عندنا ففهمت الليبرالية بأنها الخلاعة وما اقترب منها، ولا تعني الحرية للجميع، ولا تعني المعاني الأصلية لفكرة الليبرالية الاقتصادية ولا الفكرية ولا الدينية، فأصبح لدينا منتج خاص بنا، لا يشاركنا فيه الغرب ولا الشرق، وسميناه ليبرالية. ولهذا فإن هذا المنتج المعروض مكروه من المتدينين والمحافظين ومن دعاة التحرر، بسبب ما علق به، واندرج تحته من تصرفات، ومرفوض من المثقف الذي يعرف الفرق بين المسمّيين، ولهذا فإني أرثي للجدل القائم حول منتج يحمل اسماً خادعاً وموهماً. أما إن استقر المعنى على شيء محدد عندنا يعرفه طرفا القضية وغيرهم، فهذا جيد لأنه سيتلوه بعد ذلك شرح ونقد للمواقف. * ألا ترى أن مجتمعنا يتجه نحو الليبرالية بمضمون إسلامي؟ ** هذا موضوع طريف، وهو دلالة على أن المقصود بالسؤال غالباً الجانب السلوكي الليبرالي، وليس المضمون الفكري، وقد صدرت في الغرب منذ أكثر من عشرين سنة أبحاث وكتب مهمة، تتحدث عن هذا المفهوم، ولكنها تهتم بالجانب الليبرالي السياسي والفكري المقارن بين نوعين المجتمعات ماذا تقبل وماذا ترفض، ويبقى المسمى يختلف هنا عن هناك، فمثلاً درسوا جذور الليبرالية الإسلامية، أو ما يمكن أن نبعثه حاضراً ثم نسميه ليبرالية. أما موضوع المجتمع، وأنه يتجه نحو ليبرالية إسلامية، فتحدثت في ملامح المستقبل عن خط وسيط، تتجه له الأمور بين طرفين، وما يمكن أن أسميه خطاً إسلامياً منفتحاً فهذا موجود، ولكنه ضعيف ومنفي من متطرفين على الجهتين، ومن أسباب ضعفه أنه لا يشرح ما هو، ولا كيف يفكر، أو أنه لم يستطع الخروج برؤية واضحة تكشف للناس عن منافعه وبرامجه، وبالتالي تكشف عن صوابه وعن أخطائه كما يرى خصومه، مع أن مؤهلات الغلبة له من دون غيره. * الحديث عن مشاريع النهضة في عالمنا الإسلامي... هل تسكنه خرافة ما؟ ** الحقيقة أن هنا مفارقة عجيبة، فنحن نزعم بأننا تحسنا كثيراً، واتسعت علومنا ومداركنا، وتعقد بالتوسع والتطور عالمنا، وتجاوزنا دور الأفراد إلى دور الأمة، بل إلى ما هو أبعد من ذلك، فالحضارة اليوم صناعة عالمية، أسهم فيها البابليون والأشوريون والمصريون القدماء اليونانيون والمسلمون والصينيون والهنود والأوروبيون والأميركيون واليابانيون، كل يسهم بشيء، ثم إذا التفتنا إلى طريقة المثقفين العرب رأيناهم يتجهون لشخص لديه مشروع نهضة، هذا اختزال عجيب للمشروع وتصنيم مبالغ فيه للشخص، فالمسلمون منذ أيام الشافعي، قالوا إن التجديد في الدين بعد الشافعي لا يمكن أن يقوم به شخص، بل جماعة من العلماء أو المصلحين، واليوم نتخيل مشروعاً عظيماً لكل مجالات الحياة، ثم نكلف به شخصاً واحداً تختزل في شخصه المعارف والأدوار، ولو كان في عبقرية الشافعي الشرعية واللغوية والمنهجية لما أمكنه ملاحقة العصر المختلف المتوسع، إنها ثلة من الخرافات تسكن المخيلة العربية، نعم لم يزل ولن يزول دور الفرد، ولكنه لا يحول التاريخ وحده، ويبني على ما قبله، والحلول تحديات واستجابات يساعد بإيجادها الخصم كما الصديق والفرد الموهوب الجاد والجماعة. قضايانا الكبرى معطلة: * العلاقات والأنظمة الدولية المعاصرة الاتصالات والإعلام قضايا البيئة... الإنتاج الفقهي الإسلامي، لماذا لم يتطور ليعالج إشكالاتها؟ ** واحد من هذه القضايا ينوء به عالمنا كاملاً ويجد نفسه عاجزاً عن حله، مثل مسألة البيئة، ثم تجد من يتخيل فرداً يعالجه، والعالم لم يستطع تفعيل اتفاقات كيوتو في جانب من مشكلات البيئة فكيف نحمّل أصحاب المشاريع حل كل هذا، ولكني أعتبر سؤالك في ما يتوقع من الفرد ويبقى في ذلك أمل وتكليف لا تساعد في انجاز شيء منه البيئة الفكرية، وسيكون من أسباب نجاح الإنتاج الفقهي إغناؤه وتشجيعه، ومن هنا سيبدع إذا وجد أيضاً من يقدره ويوفر له جو الحوار العلمي من خلال منشورات ومجلات مقارنة ولقاءات غير استعراضية وتبقى جودة البحوث وإخلاص الباحثين. * يُتوجس خيفة عندما يطرح مصطلح مثل «العقلانية» «العقلانيون» «العقلانية الإسلامية»؟ هل المصطلحات تشكل أزمة في الفكر الإسلامي؟ ** هذا من شنيع ما انتشر في خطاب بعض الإسلاميين، (الخوف من العقل والعقلانية)، فنحن نعلم أن العقل شرط التكليف في الشرع، وفي كل مجتمعات العالم أن المسؤولية منوطة بالعاقل، فلا يعير بالعقل عاقل، ولكنهم قصدوا بهذا نقد العقل الذي يوضع في مقابل الشرع، وهذا افتراض مزيّف، فعلى صاحب الشرع العاقل أن يقنع عقول الآخرين بصحة قوله، وعلى صاحب العقل أن يلاحظ المصالح التي يجلبها الدين لبيئة عاقلة وإن لم تكن مؤمنة. ومن قرأ سير من نسميهم عقلانيين من المؤمنين ومن غيرهم فإنك تجدهم أكثر الناس تقديراً لدور الدين في صلاح المجتمع وإن لم يؤمنوا به، وفي نهاية مفكر شهير كزكي نجيب محمود عبرة من موقفه من مؤتمر الفلسفة العربية في آخر أيامه، وفي مواقف عبدالرحمن بدوي “الذي رفع شعار الوجودية، ثم كتب يدافع عن القرآن في آخر أيامه”، والمدرسة الإسلامية الغربية الصاعدة الآن، وآخر مثل بعيد لهؤلاء الذين رأوا فائدة الدين أوباما في كتابه: «جرأة الأمل» كان صريحاً في بيان دور الدين في المجتمع. ومن قبل ذلك لا أقول مثقفين بل فلاسفة تحدثوا بوضوح عن فوائد العقل المؤمن، وأول فوائده السلام العقلي، أما من اصطنع أزمة مع العقل فإنه يعود بهدم العقل والدين في مجتمعه. الوسطية والجماعة: * مفهومنا للوسطية ألا تشعر أنه يجعلنا بلا ملامح واضحة؟ ** مشكلة فكرة الوسطية أنها تبحث عن طرفين بجانبها، ولهذا فهي ترقص دائماً باحثة عن وسط بين طرفين، فقد تهرب عن الحق بحثاً عن الوسط المتخيل، وقد يكون التوسط الضياع، وفقدان اللون والطعم والموقف، ويكون الحق في طرف النزاع، وبعضهم يحمل النصوص أكثر مما تحتمل في فهم: «أمة وسطا» لأن بعض بحوث المعاصرين ردة فعل عجلة على تهم التطرف. * ألا ترى أن التفكير في الذات دون الجماعة والأمة عطّل محركات النمو لمجتمعاتنا؟ ** الإنسان جماعي وأناني في الوقت نفسه، فالمجاهد في الفتوح له نزعتان حب الشهادة وهذا موقف قد يفسر بأنه أناني، وحب نصرة الجماعة وهذا موقف جماعي أو أممي، وقد يدخل في الدوافع أشياء كثيرة مما يعلمها العامة ومما يهتم بتفصيل البحث فيها الخاصة وعلماء النفس، ولا أرى أن الحق مع علماء النفس وحدهم في تفسير دوافع السلوك بل الإنسان الفرد يدرك كل أو بعض دوافعه، دون إيغال في التفسير. وهناك ثلاث مدارس في بحث هذه الفكرة تفسر السلوك وخيرها ما يحترم النظر لمحركات الأفراد والجماعة، فقد تحركنا مكاسب ذاتية أو مكاسب جماعية، ونطالب الإنسان بأن يكون سوياً محترماً لمجتمعه، فلا تنمو ذاته بسرقة مجتمعه ولا باستعباده لهم ولا لطائفة منهم، فأن تكون عضواً في مجتمع حر نزيه خيراً من أن تكون سيداً في مجتمع فاسد أو مستعبد، فالأول العضوية فيها تكريم والثاني السيادة فيه مهانة. * هناك من يثبت المتغير وهناك من يغير الثابت... والأمة بين هؤلاء وأولئك تتأرجح... إلى متى هذا التأرجح؟ ** سيبقى التأرجح والشك في فهم ذلك وفي من فعله، حتى تتقدم طائفة عالمة وشجاعة، ولو كانت قليلة فتقلل أو تقضي على الخطأ والوهم من الجانبين، وتعمل على تجديد الدين والحياة، ليس قسراً من الخارج بل رغبة من القلوب والعقول من الداخل. * الحرية... لماذا نوصد في وجهها الأبواب؟ ** لأن من يحاربها يجهلها ومن جهل شيئاً عاداه، فهو معذور بجهله، ولو عرفوا الحرية حق معرفتها لما قدم الإنسان عليها شيئاً إلا التوحيد، هذا إن لم تكن هي منه بل لبه، وهي في قلب خطاب السلف ورجال التصوف الأول، كالقشيري والجنيد، والفرق بين ما تعلقوا به وبعض الحرية المعاصرة ليس كبيراً، وذكاء التقديم للفكرة يقضي على معاداتها. التاريخ مقبرة عظمى بعضنا يعيش فيها... وبعضنا يسمم بها حاضرنا! يرى الدكتور محمد الأحمري “أن التاريخ من أخطر ما يتعامل معه الناس من مثقفين وغيرهم، وهو أساس الثقافة في كثير من بلدان العالم، حتى من لم يكن لهم عمق تاريخي حضاري بعيد، ويبقى أن الاهتمام منقسم بين مدرستين في متابعة التاريخ المدرسة التي تقول إنه هو تاريخ أحداث وبين من يرى أنه تاريخ أفكار، ولعل ما أضعف التاريخ وفائدته في حاضرنا العربي والإسلامي هو الفصل بين التاريخين وتصور أن أحدهما تاريخ، وأن الآخر أفكار منفصلة عنه، والانفصال هو غالباً في ذهن السامع والدارس، أما في الواقع فيصعب الفصل بينهما، إذ لا يمكن الفصل بين الإسلام والفتوحات الإسلامية، ولا بين الثورة الفرنسية وأفكار التنوير وعمل الموسوعيين، ولا بين أفكار الشيوعيين والثورة الشيوعية. إن هناك علاقة وثقى بين التاريخ والفكر، لا يكاد يفصل بينهما شيء، إلا أن بعض الأحداث المادية تنتهي أسرع من الأحداث الفكرية، والأفكار أصعب وأبطأ تكويناً وأبقى أثراً من الأحداث المادية التاريخية، فيسهل تتبع الحدث على الأرض ويصعب تتبعها في العقول، وأصعب من كليهما تتبعها معاً». وحول هل نصدق كل ما في تاريخنا... ولماذا بعض الأحداث التاريخية في حكم المسكوت عنه... يقول الدكتور الأحمري: «نعم نصدق في المجمل، لأن الماضي كالحاضر إلى حد كبير، إذا حذفت التغييرات الجديدة في الوسائل الحربية والاتصال والحروب يبدع فيها الإنسان ويستفز عقله وحيلته أضعاف أحوال السلم». ويضيف: “الخبر التاريخي غالباً لا ينقل منه إلا غريبه، أو المبالغ فيه، فالحياة العادية لا تنقل، ولا يحرص عليها أحد، ولكنها هي الحال الطبيعية للبشر، التاريخ مقبرة عظمى بعضنا يعيش فيها، وبعضنا يسمم بها حاضرنا، وبعضنا يستخدمها بذكاء، وبعضنا يستخدمها بغباء، ولهذا كان يرى العقائدي أن من حقه أن تتحكم عقيدته في التاريخ، ماضياً وحاضراً. وكما في رواية: «1984» لجورج أورويل إذ ينشئ المستبد وزارة لتصحيح التاريخ، ويرى بعض المفكرين أن يستخدم التاريخ لقتل التاريخ، كما تقول مدرسة: (لا تفسير للتاريخ ولا فلسفة فيه ولا له) فيقبضون على التاريخ متلبساً بالتناقض وعدم الانسجام، وضياع الغاية، وعدم الفلسفة فيه. وهناك مؤرخون يرون التاريخ علماً مهماً في ذاته، يحدث ويقرأ ويعاد ولا يعبث به المفكرون ولا العقائديون، وهذه من الأماني اللذيذة التي يصعب تحقيقها. أو أن نتخيل مؤرخاً متجرداً عارضاً فقط للماضي». ويزيد: «أما السكوت عن بعض التاريخ فلأن هذه طبيعته وطبيعة التعامل معه، فالمكان والزمان والحاجات مهمة ومتغيرة، إذ العصور المتتالية كزبائن متتالين يدخلون لصيدلية فلا يعاني أحدهم كل الأمراض في كل الأوقات ليشتري أو ليستخدم كل العلاجات التي يتوقع أن تشفيه، والأمكنة أيضاً لها دورها». ويستطرد: “انظر لمكانة مالك في شمال أفريقيا، أو علي في العراق وإيران، وابن تيمية في نجد، وكربلاء، أو استعادة أخبار بلال عند فوز أوباما، أو صهيب الرومي عند ذكر الروم، وهكذا يهوّل المتأخرون من حدث وقت الحاجة له، ويمسحون عظيماً، لأنهم لا يحتاجون إليه الآن. فالسكوت بحسب الحاجة، وبحسب السياسة وبحسب العقيدة”. ورداً على سؤالنا: إلى متى والتاريخ لا يكتبه إلا... المنتصر؟ يجيب: “ما دام المنتصر قادراً على حصار عقول المشاهدين والسامعين وإسكات المغلوبين، وما دام المهزوم مكسوفاً من نتائج معركته، وهذا الزمن خفف من الهزيمة وفتح نوافذ للرافضين للهزيمة”.