الشرق الأوسط اللندنية في عام 1995 ظهر فيلم «بريف هارت» أو «القلب الشجاع»، وهو فيلم ملحمي يجسد بطولة حرب الاستقلال الأسكوتلندي ضد المحتلين البريطانيين بقيادة ويليام والاس (1270 - 1305)، ملحمة تجسدت فيها معاني المقاومة والبسالة ضد الاحتلال والاستبداد الذي كان يمثله الملك الإنجليزي إدوارد. يستحضر الفيلم صور الكفاح الشعبي، وصورا أخرى عن خيانة النبلاء الأسكوتلنديين التي أدت لهزيمة والاس وسقوطه أسيرا ثم اقتياده إلى لندن، حيث حوكم وعذب مصلوبًا حتى الموت أمام الجمهور.. وكانت كلمته الأخيرة: «الحرية»، وهي الكلمة التي أشعلت الحماس مجددًا في نفوس الأسكوتلنديين ومنحت المقاتلين أيقونة جديدة تستثير عزيمتهم وهي الحرية. فشلت الحروب على مدى ثلاثة قرون من توحيد البلدين، ونجح قانون الوحدة الذي على أساسه انضمت أسكوتلندا لبريطانيا وويلز في عام 1707 لتشكل المملكة المتحدة، وتمكنت أسكوتلندا من أن تدفن تحت قدميها تاريخًا مليئًا بالجراح والتضحيات والآلام. وحصلت في المقابل على ما تريد، فأصبحت جزءًا من إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس. قريبًا، أي في 18 سبتمبر (أيلول) المقبل سيتجه الأسكوتلنديون إلى صناديق الاقتراع للاستفتاء على الاستقلال عن المملكة البريطانية المتحدة، لحظة يقف فيها المسؤولون البريطانيون محذرين، ليس من خلال استخدام القوة النارية لكسر إرادة شركائهم في الوطن، وإنما باستخدام المنطق والاقتصاد. يقولون للشعب في إدنبره وغلاسكو إن الضرائب ستلسع جيوبكم، وإن التضخم سيحد من مستوى الرفاه في مقاطعتكم، وعليكم الاختيار. لحظة نادرة في التاريخ، لن ترسل لندن قواتها مجددا للريف الأسكوتلندي، ولن تنصب المشانق لطلاب الحرية. ستقول لهم إن مصلحتكم معنا. ونحن قادرون على ضمان هذه المصلحة وتنميتها. ليست بريطانيا وحدها من يشعر بالقلق، دول الاتحاد الأوروبي، وأولها إسبانيا التي تخشى أن تلتحق كتالونيا بدرب الانفصال، ولكن الجميع يدرس مختلف الخيارات للتأثير ليس ضمنها التلويح بالعنف والقوة. مسعى القوميين في أسكوتلندا لطرح الاستفتاء على الانفصال لا يأتي بدعوى الاضطهاد القومي أو الديني، ولا هو بسبب التباين في المستوى الاقتصادي، لكنه (قد) يأتي تحت إلحاح الرغبة في التمايز بين الهويات، ما زال هناك حتى في أوروبا من يشعر بأن لديه هوية مختلفة ويسعى للتعبير عنها. هذا يقودنا لمحاولة فهم أكثر عمقًا لمشكلة الهويات في منطقتنا وأزمتها المسكوت عنها، في وقت نشهد فيه انفجار الهويات واشتباكها وتصارعها في مناطق متعددة من العالم. نحن نشهد كل يوم تكريسا لخطاب انعزالي وتمايزي تحت إيقاع التعبير عن الهوية، كما نشهد تخلخلا عميقا في النظام الاجتماعي يصل للتحارب والاقتتال تحت وطأة الشعور بنزعة الدفاع عن الهوية. ثمة مسافة حضارية هائلة بين المنطقة التي نعيش فيها وبين العالم الغربي، الذي تمكن من دفن خلافاته وبناء منظوماته الحضرية على أساس المشاركة والقانون، ومع ذلك نشهد انبعاث المارد القومي كما في النموذج الأسكوتلندي، أو الديني كما في يوغسلافيا، أو الطائفي كما في آيرلندا وغيرها، وهي دول تمتلك من التشريعات والمؤسسات ما تحمي تعايشها السلمي، ومع ذلك انحدرت لأقذر أشكال الحروب كما في يوغسلافيا، فكيف سيكون الحال في مناطق لا تمتلك أي مناعة من كبح انزلاقها نحو تدمير الآخر، وعلى العكس فهي تمتلك مخزونا من التاريخ والدين توظفه ساعة تشاء لاجتياح خصومها والفتك بهم. هذا يجعل المسؤولية أكبر وأكثر دقة، في تحصين السلم المجتمعي عبر استيعاب الهويات واحترام تعددها وتوكيد الهوية الوطنية الجامعة.