الكثير من المراقبين السياسيين والمحللين يقفون باندهاش أمام تفتت وتمزق الجغرافيا في مناطق متعددة من هذا العالم، وتحول العديد من الدول والكيانات السياسية إلى شظايا عرقية ومذهبية وطائفية، بحيث لم تعد منطقة الشرق الأوسط استثناء عندما تنزلق دولها إلى تقسيم المقسم وتمزيق الممزق فتقوم في السودان دولتان وتتجه ليبيا واليمن وسورية والعراق إلى التشظي وقيام كيانات صغيرة هشة لا تملك مقومات الدولة بمفهومها السياسي والاجتماعي والجغرافي، بل وصل الأمر إلى أوروبا ودولها العريقة حضاريا وديمقراطيا، وكانت الشرارة الأولى من أوكرانيا. والسؤال.. هل نحن في زمن تمزق الجغرافيا، وتبدل الخرائط. السؤال كبير يستعصي على القراءة الواضحة والاستشرافات المبنية على منطق الواقع والعقل وحقائق التاريخ. لكن غيوم التفتت تتراكم في سماء أكثر بقاع العالم لتنذر بتغيير ديموغرافي وسياسي كبير. قبل ايام بدأت الحملة الرسمية للاستفتاء على استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة قبل ثلاثة أشهر من موعد الحسم الرسمي في 18 سبتمبر، وسط محاولات من يطالبون بالاستقلال ومن يرفضونه إقناع الاسكتلنديين باختيار الاستمرار في الوحدة أو الانفصال عن المملكة المتحدة بعد 307 أعوام من الاتحاد. قضية الاستقلال عن المملكة المتحدة أخذت منعطفا تاريخيا حاسما عام 2011 حين فاز الحزب الوطني الاسكتلندي في الانتخابات البرلمانية بأغلبية ساحقة، مما سمح له بتمرير مقترح الاستقلال عن بريطانيا بعد سنوات من تبنيه لهذا المطلب. آراء الطرفين ويرى أنصار الاستقلال في اسكتلندا وعلى رأسهم الوزير الأول في حكومة اسكتلندا أليكس سالموند أن الوحدة مع بريطانيا لا تخدم اسكتلندا في الوقت الحاضر بل على العكس تضعف من قدراتها الاقتصادية على وجه الخصوص، سالموند وخلال التجمعات الداعية للاستقلال وعد ب "أن اسكتلندا في حال استقلالها ستحقق الرخاء وسترفع مستويات الدخل وستعتمد على نفط بحر الشمال لتمويل طموحات تطل بها على المشهد العالمي وعلى أوروبا وتحتل مكانتها التي تستحقها" وتوقع سالموند أن تزيد ثروة اسكتلندا ب5 مليارات جنيه إسترليني كل عام في حالة إدارة شؤونها الاقتصادية بالكامل دون تدخل من لندن. ومن الطرف الاخر يرى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أن الوحدة في المملكة المتحدة تمثل أحد أعرق وأنجح الاتحادات السياسية التاريخية ومن الصعب أن يوافق الاسكتلنديون على التخلي عنها، وخلال الحملة من أجل التصويت ب "لا" للاستقلال قال نائب وزير المالية البريطاني داني ألكسندر إن رفض الاسكتلنديين الانفصال عن بريطانيا يعني مستوى معيشة أفضل لكل فرد من مواطنيها بما يعادل 1400 جنيه إسترليني. حيث اكدت وزارة المالية البريطانية مراراً ان الأوضاع المالية للاسكتلنديين ستسوء اذا تم الانفصال. كان أليكس سالموند توقع أن تزيد ثروة اسكتلندا خمسة مليارات إسترليني بحلول عام 2030 في حالة إدارة شؤونها الاقتصادية بالكامل دون تدخل من لندن. ورفض ألكسندر هذا الطرح. وقال ان المعارضين للاستقلال "يبذلون محاولات يائسة لصرف الأنظار عن القضية الأساسية... إن اسكتلندا لن يتوافر لها نفس مستوى الموارد المتاحة للخدمات العامة إذا استقلت". الاستفتاءات الشهرية منذ شهر فبراير تدل على عدم رغبة الاغلبية من الناخبين بانفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة ولكن بنسبة بسيطة جداً. النقاش الرسمي بين الطرفين لم يبدأ بعد لكن الاجندات وضعت والحملات الاعلانية والتصاريح واهتمام الاعلام المحلي يزيد يوماً بعد يوم. المؤكد ان النتيجة في شهر سبتمبر ستكون وشيكة جداً وهذا بسبب عدم اتخاذ ما لا يقل عن عشرة بالمئة من الناخبين قرارهم بعد. الاتحاد النقدي مرفوض النتائج في شهر مارس مالت للحملة "لا" بسبب تصريح وزير المالية جورج أوزبورن بأن اسكتلندا ستفقد الجنيه الإسترليني إذا صوت الاسكتلنديون لصالح الاستقلال، وذلك في أقوى محاولة للتصدي إلى مسعى فض الاتحاد القائم. وهذا قد ايد الحزبان البريطانيان الرئيسيان الآخران الليبرالي الديمقراطي والعمال رأي وزير المالية، مما يعني أن أي مشاورات حكومية مستقبلية مع اي من كان في السلطة في ويستمنستر لن توافق على اتحاد نقدي. فكرة الاتحاد النقدي كانت من ركائز الخطة والاحتمالات الاقتصادية التي وضعها الحزب الوطني الاسكتلندي والمعارضة القوية والمحسومة لهذه الفكرة من الطرف الاخر تهدد الاستقرار الاقتصادي لاسكتلندا المستقلة. ثاني ضربة للحزب الوطني الإسكتلندي كان تصريح شركة "ستاندرد لايف" للخدمات المالية، وهي من أكبر الشركات في اسكتلندا، النظر في نقل مقرها الرئيسي جنوب الحدود في حال استقلال اسكتلندا. احد مؤشرات تقدم الحزب الوطني الاسكتلندي هو تحقيق الجبهة المناهضة للاتحاد الأوروبي انتصارًا لم سبق لها في الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي جرت في 22 مايو. وكان هذا العمل الفذ الذي ادعى الحزب الوطني الإسكتلندي -بشكل صحيح-علامة على القوة الأساسية بعد سبع سنوات من ادارة الحكومة المخولة في ادنبره في ظل تراجع شعبية حزب "المحافظين" البريطاني الحاكم. هذه الارقام قد تشير إلى أن حملة "لا" تؤدي أداء جيدا بالمقارنة مع حملة "نعم" ولكن ليس بشكل كبير. موقف الحملة "لا" على التأثير الاقتصادي المحتمل لاستقلال اسكتلندا تحدث أثرا إيجابيا على أدائها في استطلاعات الرأي. ولكن، مع النزاعات الداخلية، وانتخابات المجالس الأوروبية والمحلية الأخيرة والخلافات الداخلية بين مجموعات الحملة الانتخابية كلها مؤشرات تقود الى أن النتيجة في سبتمبر لن تكون متباعدة. الإنذارات من الأثر الاقتصادي هل ستبقى بريطانيا جزءاً من الاتحاد الأوروبي؟ بشكل عام، الإسكتلنديون هم أكثر تأييدا للعضوية في الاتحاد الأوروبي من الانجليز وإذا صوتوا للانفصال هذا العام لن يحصلوا على رأي في الاستفتاء المقرر إجراؤه في 2017 الذي يقرر بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الاوروبي حالة انسحابها. وبالتالي، فإن احتمالات انجلترا وويلز وايرلندا الشمالية بالتصويت بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي سترتفع. اسكتلندا قد تكون مسؤولة فقط عن نحو 4 ملايين من 45 مليون ناخب في المملكة المتحدة ولكن مع الآراء المتوازنة نسبيا فإنها يمكن أن تكون حاسمة. يقول زعيم الحزب الوطني الاسكتلندي اليكس سالموند ان أكبر تهديد لبقاء اسكتلندا في الاتحاد الأوروبي يتمل في تعهد رئيس الوزراء ديفيد كاميرون لعقد الاستفتاء بتحديد مصير المملكة المتحدة ضمن الاتحاد الأوروبي في 2017. ولكن إذا انفصلت إسكتلندا عن المملكة المتحدة هل سيقبل الاتحاد الاوروبي عضويتها؟ في شهر فبراير حذر رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروسو، من صعوبة انضمام اسكتلندا الى الاتحاد الأوروبي، إذا استقلت عن المملكة المتحدة بعد استفتاء في سبتمبر. وقال "أعتقد بأن ذلك سيكون بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً." وذكر بأن انضمام بلد منبثق من دولة في الاتحاد "يجب ان يتم بموافقة كل الدول الأعضاء." وتابع: «رأينا مثلاً أن إسبانيا عارضت الاعتراف بكوسوفو، وهذا إلى حد ما حالة شبيهة لأنها دولة جديدة». ورأى أن «على الشعب الإسكتلندي أن يقرر مصيره» خلال الاستفتاء. المستقبل السياسي يرى بعض المحللين ان المملكة المتحدة لن تبقى ضمن القوة الثلاثية الكبرى ضمن ترتيبات الاتحاد الأوروبي إلى جانب فرنسا وألمانيا وستتراجع إلى المركز الرابع بعد ايطاليا من حيث حجم السكان. ان استقلال اسكتلندا أيضا على المستوى المحلي سيغير حساب التفاضل والتكامل للسياسة الوطنية في بقية البلاد. لدى حزب العمال 257 كرسيا في برلمان وستمينستلا منهم 41 نائبا تابعا لأحزاب اسكتلندية وفي حين أن المحافظين لديهم واحد فقط. اخراجهم من المعادلة السياسية، يهدد مسار حزب العمال في الفوز بالانتخابات المقبلة او الوصول الى السلطة. من الجانب الاسكتلندي فعلى اسكتلندا المستقلة إنشاء بنية تحتية مؤسسية وسياسية من وزارة للخارجية الى سفارات وترتيبات حكومية معينة ووسائل اتصال وقوات أمنية وسياسة دفاعية واستخباراتية. الاقتصاد وحسب ما يرى الوزير الأول أليكس سالموند، ان بقاء اسكتلندا في الاتحاد الذي بلغ من العمر 300 لم يعد مفيداً لاسكتلندا وانها لابد ان تستقل وتستفيد من ثروتها النفطية، واكد انها ستكون واحدة من أغنى البلدان في العالم. كما اضاف انه حان الوقت لاسكتلندا لتولي مسؤولية مصيرها، خالية مما وصفه ب "قيود" برلمان المملكة المتحدة ومقرها لندن. ما هو مؤكد انه بدون اسكتلندا، بريطانيا سوف تنزلق إلى أسفل ترتيب قمة الهرم القيادي من كونها سادس أكبر اقتصاد في العالم. 97% من مخزون البترول و58% من مصادر الغاز الطبيعي في المملكة المتحدة حيث ان جميع هذه الثروات توجد ضمن الحدود الاسكتلندية. وهذا مما يعني فقدان المملكة المتحدة الجزء الأكبر من مخزونها للموارد الطبيعية. هناك سؤال يطرح نفسه على اثر هذا الانفصال. هل بامكان المملكة المتحدة ان تحظى بمقعد في مجلس الامن الدولي وتكون عضوا في مجموعة الاقتصاد السبعة في وقت تنتقل القوة إلى الدول الناشئة الكبرى في العالم؟ والجدير بالذكر ان هناك مجموعة من التقارير التي خرجت معلقة على فكرة الانفصال برؤية اقتصاديين ان الانفصال لن يكون في مصلحة اسكتلندا مستندة في ذلك على عدة نقاط منها ما ورد في تقرير تم إعداده بطلب من مجموعة وير الهندسية الاسكتلندية إن استقلال اسكتلندا قد يثقل كاهل الشركات المحلية بتكاليف إضافية قدرها مليار جنيه استرليني (1.66 مليار دولار) مقدما بذلك المزيد من الدعم لحجج الرافضين للانفصال. وتوصل التقرير الذي يقع في 80 صفحة وأعدته مجموعة اوكسفورد ايكونوميكس للتوقعات والأبحاث أن طرح عملة اسكتلندية جديدة قد يتسبب في تكاليف قدرها 500 مليون استرليني سنويا للشركات والأسر الاسكتلندية إضافة الى تكلفة غير متكررة قدرها 800 مليون استرليني أثناء الفترة الانتقالية. الفقدان المحتمل للجنيه الإسترليني هو أحد أكبر مخاوف الشركات في اسكتلندا وافاد التقرير إن عملة اسكتلندية جديدة حرة التداول يمكن أن يكون سعر صرفها أكثر تقلبا بالنظر الى اعتماد اسكتلندا على النفط والغاز والقطاع المالي. لكن التقرير أبرز في الوقت نفسه بعض الفوائد المحتملة للاستقلال في مقدمتها أن التمتع بسلطات أوسع لصنع القرار قد يساعد الشركات المحلية من خلال خفض ضرائب الشركات. الشق الأمني بريطانيا لديها 4 غواصات تحمل قنابل النووي في القاعدة البحرية فاسلاين في اسكتلاندا. يريد الحزب الوطني الاسكتلندي إزالة الأسلحة النووية من اسكتلندا المستقلة في أقرب فرصة ممكنة. حذر قادة الدفاع البريطاني السابقين ضد مثل هذه الخطوة في الشهر الماضي، قائلين انها ستكلف المليارات من الجنيهات، وخسارة الآلاف من الوظائف وخلق استياء دولي. على الرغم من ان الامر سيستغرق سنوات لإزالة القاعدة البحرية، التوترات المتزايدة مع روسيا لن تسمح بالتخلي عن هذه الاسلحة. في الشهر الماضي قامت طائرات حربية روسية بالتحليق بالقرب من المجال الجوي الدولي قبالة ساحل اسكتلندا. ويذكر أن ثمانية حوادث مماثلة وقعت عام 2013 في بريطانيا. يقول خبراء دفاع إن روسيا تستخدم مثل هذه الطلعات الاستطلاعية لتذكير العالم بقوتها العسكرية، ولاختبار نظم الدفاع الجوي للدول الأخرى. بالتالي أكد المختصون الامنيون ان اقدام اسكتلندا على هذه الخطوة يتوجب على لندن وادنبره العمل معا على الشؤون الأمنية والاستخباراتية. إذا لم يفعلوا ذلك، فسيكون هناك خطر امني من ضعف القدرة الاسكتلندية حيث ستكون عرضة لاختراق من قبل الشبكات الاستخباراتية والإرهاب الأجنبي. الحركة الانفصالية التي يشهدها العالم قد لا تنجح في تحقيق اهدافها بقيام دول مستقلة لكنها قد تنجح بتغير موقعها السياسي والاقتصادي وخلق اهمية لها من النظام الحاكم. وإذا نجحت اسكتلندا بالفعل بالانفصال فهذا يعني ان اوروبا قد تشهد حركات انفصالية مماثلة وستؤدي الى التفكك والتغير في التوجهات السياسية في اوروبا ابتدأ من شمال ايرلندا في المملكة المتحدة وكاتولونيا في اسبانيا. وهذه الحركة في حال نجاحها لن تتوقف عند الدول العربية واوروبا فقط حيث من المتوقع وحسب توقعات بعض المراقيبين ان تنتقل العدوى الى الولاياتالمتحدةالامريكية مستشهدين في ذلك رغبة تكساس في الانفصال! وهذا مما سيحدث تغيراً يصعب في هذه اللحظة توقع نتائجه.