من تداعيات «الربيع العربي» ظهور طروحات مثيرة للجدل في شأن انفصالات محتملة لإثنيات وطوائف عن دولها في الشرق الأوسط، خصوصاً بالنسبة الى كردستان المجزأة بين العراق وإيران وتركيا وسورية، مع التركيز على اقليم كردستان في العراق لظروفه التي تميزه عن بقية أجزاء كردستان. فأولاً تأتي الأسئلة الآتية: هل يحق للكرد ان يستقلوا بإقليمهم في دولة منفصلة عن العراق؟ هل يستحقون الاستقلال؟ هل هم قادرون على ادارة دولتهم المستقله؟ هل هناك قاعدة اقتصادية لاستقلال الاقليم؟ الجواب عن كل هذه الاسئلة هو «نعم». أما السؤال المهم فهو: هل الظرف والتوقيت مناسبان لإعلان الاستقلال، اذا أخذنا في الاعتبار الأوضاع المحلية والاقليمية، ناهيك عن العوامل الجيوبوليتيكية الناجمة عن أن كردستان منطقة مغلقة في محيط اقل ما يقال فيه انه غير ودي لئلا نقول هو معادٍ. والجواب عن هذا السؤال ب «نعم» ربما كان مخاطرة قد لا يبدو كثيرون من الكرد أنفسهم مستعدين للخوض فيها. لكن في منطقة تبعد آلاف الكيلومترات، وتحديداً في شمال غربي أوروبا حيث لا مجال لمخاوف مماثلة، هناك احتمال واقعي بولادة دولة مستقلة قريباً جداً، وتحديداً في 18 أيلول (سبتمبر) المقبل. في هذا التاريخ سيصوّت سكان هذه الدولة المحتملة في استفتاء عام حول ما اذا كانوا يريدون الانفصال عن الدولة التي تضمهم أم يفضلون البقاء في اتحاد معها عمره 307 أعوام، منذ أقر برلمان مملكة اسكتلندا الاتحاد مع مملكة انكلترا في اطار مملكة واحدة باسم بريطانيا العظمى؟ لكن، هل تجوز المقارنة بين الانفصال المحتمل لإسكتلندا وأي انفصال محتمل في الشرق الأوسط؟ طبعاً لن نعرف الجواب قبل التصويت على الاستفتاء وقرار الشعب الاسكتلندي الذي سيجيب ب «نعم» أو «لا» عن سؤال وحيد في استمارة التصويت: «هل ينبغي أن تكون اسكتلندا دولة مستقلة»؟ هذه الصيغة تم الاتفاق عليها في مفاوضات أُجريت قبل أكثر من عام وحُدد فيها أيضاً موعد الاستفتاء بين رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون والوزير الأول الاسكتلندي أليكس سالموند الذي يعتبر الزعيم السياسي لاسكتلندا ورئيس حكومتها. وقد نص الاستفتاء كذلك على ان الذين يحق لهم التصويت هم الشعب الاسكتلندي وحده. ولربما صيغ السؤال هكذا كي يتيح ذلك للجانب الاسكتلندي، في حال صوتت الغالبية ب «نعم»، التعامل بمرونة مع النتيجة لجهة اعلان الاستقلال الفعلي فورياً أو في توقيت مختلف لاحقاً، إذ يضع في متناول المشرّع الاسكتلندي وثيقة قانونية جاهزة للتنفيذ في اي وقت تقتضيه مصلحة اسكتلندا. لكن هذا موضوع آخر لا يسعى هذا المقال الى الخوض فيه. يقال ما سلف للتوصل الى استنتاج مفاده بأن الاسكتلنديين، كأفراد وطبقة سياسية منتخبة ديموقراطياً، يتعاملون مع مسألة مصيرية كالانفصال عن دولة هم شركاء أصليون وكاملون فيها، وبالتالي مع تأسيس دولتهم المستقلة، لا على أساس التاريخ والحق فحسب، بل على أساس المصالح المتعددة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً الى غير ذلك، أي على اساس التفكير العقلاني وليس العاطفي. هذا علماً أن دولة اسكتلندية مستقلة لا تبدأ من الصفر بل سترتكز الى تاريخ عريق يمتد قروناً عدة. واستعداداً للاستفتاء، تزداد سخونة حملة المطالبة في اسكتلندا بالاستقلال والدعوة الى التصويت ب «نعم»، مقابل الحملة المضادة الداعية الى البقاء ضمن الاتحاد. وبدوره، بدأ كاميرون الحملة الداعية الى الاتحاد قبل ايام بتوجيه كلمة الى الشعب الاسكتلندي مبرراً أسباب البقاء بكثير من الضرورات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية وحتى الرياضية الأولمبية، وبقليل من الاعتبارات العاطفية كالإشارة الى تاريخ عائلته الشخصية وارتباطاتها باسكتلندا، ناهيك عن الاختلاط العائلي الذي لا يحصى له عدد بين الاسكتلنديين والانكليز. لكن كاميرون قدم طروحاته من دون أي تهديد أو تخويف، ولو تلميحاً، من مغبة استقلال اسكتلندا. على العكس، رأى ان المملكة المتحدة «ستتقلص بعمق» من دون اسكتلندا، مضيفاً أن الجميع يعيشون معاً في المملكة المتحدة منذ ثلاثة قرون وأن هناك حالياً أكثر من 800 ألف اسكتلندي يعيشون في انحاء اخرى من بريطانيا، بينما هناك 400 ألف بريطاني غير اسكتلندي ولدوا في اسكتلندا، اضافة الى ملايين البريطانيين الذين يتبادلون التجارة والاعمال المختلفة عبر الحدود، فضلاً عن أن مزارع منطقة لينكونشاير في انكلترا تنتج بعض الشعير المستخدم في انتاج الويسكي الاسكتلندي المشهور الذي يضيف تصديره الى الخارج 135 جنيهاً استرلينياً في كل ثانية الى ميزان المدفوعات البريطاني. والذرائع الاقتصادية، وفق كاميرون، لا تقتصر على ما ستخسره المملكة المتحدة في حال انفصال اسكتلندا عنها، بل تتناول ما ستربحه من بقائها في الاتحاد. وهنا أورد رئيس الوزراء البريطاني قائمة طويلة من الارباح، بما في ذلك نجاحات الفريق البريطاني في الدورات الاولمبية كما حدث في الدورة الماضية التي أُقيمت في لندن عام 2012. قصارى الكلام أن الاسكتلنديين سيأخذون كل الاعتبارات والاحتمالات في حسابهم عندما سيتوجهون الى صناديق الاستفتاء للإدلاء بأصواتهم في هذا الاتجاه او ذاك. والارجح انهم منذ الآن الى موعد الاستفتاء سيركزون اهتمامهم اكثر على التداعيات والعواقب المحتملة للاستقلال وهل يستحق أن يكون بديلاً من اتحاد عاد عليهم حتى الآن بمزايا ومصالح لا تحصى في اطار حكم ذاتي يحمي مصالحهم اقتصادياً، كما يمنحهم الاستقلال القضائي في اطار برلمان محلي مستقل يسن القوانين لإدارة شؤونهم الداخلية، اضافة الى مشاركتهم الحقيقية في حكم المملكة المتحدة والانتفاع من مزاياها التي تشملهم كونهم جزءاً من الشعب البريطاني. كل ما سلف عن اسكتلندا لا ينطبق على الكرد (اقليم كردستان حالة استثنائية) أو اي جماعة إثنية او غير إثنية في الشرق الأوسط تتطلع الى مجرد حكم ذاتي محدود أو حتى ادارة لا مركزية في اطار الدول التي تضمها وتقمعها. مع ذلك يمكن اسكتلندا المرتاحة في حضن المملكة المتحدة ان تكون مرتاحة ايضاً اذا انفصلت من دون أن تخاف التعرّض لانقضاض الدولة الحاضنة عليها. هذا هو الفارق!