الشروق - القاهرة يحتار المرء فى فهم الحاصل فى ساحة القضاء المصرى، حتى يكاد يظن أنه فى حين تعتبر إهانة القضاء من المحظورات فإن التنكيل بالقضاة صار من المباحات. أتحدث عما تنشره بهذا الخصوص أغلب الصحف التى تحولت إلى منصات لإطلاق الاتهامات وإجراء المحاكمات وإصدار أحكام البراءة أو الإعدام، فى أجواء الصراعات وتصفية الحسابات التى تخيم على الفضاء المصرى. ليس عندى كلام فيما يخص إهانة القضاء أو أية مؤسسة أخرى للدولة شريطة أن تعرف الإهانة بوضوح وان تقوم أدلة حقيقية على وقوعها تتجاوز التقارير الأمنية والبلاغات الكيدية. وفى هذه الحالة فإنه على من يثبت بحقه توجيه الإهانة أن يتحمل مسئولية ما قدمت يداه. أما الكلام الذى عندى فهو ينصب على الشق الخاص بالتنكيل الذى تصدر منه إشارات محيرة ومؤرقة. ذلك أنها لا تفسد الود وتنال من الكرامات فحسب، ولكنها أيضا تعبر عن استخفاف بالقانون وإهدار لأحكامه. لا استطيع أن أتجاهل أن التنكيل بأى مواطن والانتقاص من حقوقه أمر مرفوض ولا يحتاج إلى تذكير أو إثبات، فما بالك به حين يتعلق بقضاة أجلاء بعضهم من ذوى القامات الرفيعة والسجل المشهود فى النزاهة والعلم فضلا عن الوطنية والكبرياء. أسجل أيضا بحزن شديد أنه فى أوضاعنا الراهنة التى يخيم عليها الاستقطاب وتشيع فيها الكراهية فإن المختلف ما عاد وحده الذى يفقد حقه فى الكرامة، ولكن المستقل أيضا ينال نصيبه من سهام التجريح والإهانة. وقد شاء حظ القضاة الذين أعنيهم أنهم ظلوا طوال ربع قرن على الأقل من الأخيرين الذين رفعوا لواء الدعوة إلى استقلال القضاء، وبعضهم كانت «جريمته» أنه انخرط فيما سمى «قضاة من أجل مصر» الوطن، وليس من أجل نظام بعينه. التنكيل بالقضاة الذى أعنيه على مستويين، أحدهما يتعلق بسوء المعاملة التى تمس الكرامة الشخصية، والمستوى الثانى يتعلق بالاقحام فى القضايا وإهدار الضمانات التى قررها القانون لتحقيق العدالة وحماية المتهمين. لن أطيل فى تفصيلات المستوى الأول، إلا أننى استغرب مثلا أن يضرب قاضى التحقيق موعدا لاستجواب مستشار كبير ارتقى أعلى المناصب التنفيذية فى الدولة ثم يبقيه منتظرا لدى السكرتارية مدة ست ساعات أو أكثر، فيضطر الرجل إلى المغادرة والعودة إلى بيته، وبعد وصوله يتلقى اتصالا من القاضى يعاتبه على ما فعل، وهو ما لا يليق بحق أى مواطن عادى ويعد مهينا وجارحا حين يتم مع زميل وقاض كبير. وهذه ليست حالة فردية ولكنها تكررت بشكل يثير العديد من علامات الاستنكار والاستفهام. فى الشق المتعلق بإهدار مبادئ القانون وضمانات تحقيق العدالة يلاحظ أن قاضى التحقيق وجه فى البداية طلبات استدعاء لزملائه القضاة حدد فيها الموعد ومكان اللقاء ورقم القضية، دون أية إشارة إلى موضوع القضية ولا إلى صفة المستدعى، وما إذا كان مطلوبا بصفته متهما أو شاهدا. وهو أمر مستغرب وغير مألوف فى أى تحقيق عادى. ولأن قاضى التحقيق ليس وكيل نيابة عاديا، وإنما هو محقق استثنائى فإن قانون الإجراءات الجنائية قرر فى المواد من 81 إلى 84 عدة ضمانات لحماية المتهمين منها حقهم فى ان يقدموا إليه ما يشاءون من دفوع وطلبات وحقهم فى الاطلاع على كل أوراق القضية، وألزم القانون المحقق بأن يرد على تلك الطلبات والدفوع، وان يورد الأسباب التى استند إليها فى رده. وفى حالة القضية التى نحن بصددها فإن الدفاع طالب قاضى التحقيق بالتنحى عن نظر الدعوى، لأنه سبق له أن أعلن عن صلة مودة تربطه بأحد القضاة المتهمين، الأمر الذى يوجب تنحيه عن نظر الدعوى برمتها وليس عن التحقيق مع القاضى المشار إليه وحده. كما أن الدفاع طلب من القاضى إعمال نص القانون الذى يلزمه بأن يوفر لهم أوراق القضية بما فيها تلك التى تتعلق بإجراءات انتدابه للنظر فى الموضوع. ما حدث أن تلك الحقوق تم تجاهلها رغم أن القانون يلزم قاضى التحقيق بالرد عليها، الأمر الذى يستحق التساؤل ويمتزج التساؤل بالدهشة حين يعتبر قاضى التحقيق فى هذه الحالة أن القضاة امتنعوا عن حضور جلسات التحقيق، فى حين أنهم كانوا بانتظار رده على الطلبات التى قدموها. أما الأغرب من كل ما سبق أن تنشر إحدى الصحف (جريدة الوطن) يوم السبت أول فبراير أن قاضى التحقيق قرر من جانبه: منع 68 قاضيا من السفر، فى مقدمتهم المستشار أحمد مكى وزير العدل السابق والمستشار محمود مكى نائب رئيس الجمهورية السابق، وحسام الغريانى رئيس مجلس القضاء الأعلى الأسبق وأحمد سليمان وزير العدل السابق وناجى دربالة نائب رئيس محكمة النقض وهشام جنبية رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات وآخرون. ونقلت الصحيفة عن مصادر قضائية قولها ان أولئك القضاة تغيبوا عن جلسات التحقيق رغم استدعائهم مرتين، وأنه من المقرر أن يصدر خلال أيام قرار بضبطهم لاتخاذ ما يلزم. فى التقرير المنشور كلام آخر اتهم الجميع بتشكيل خلية إخوانية داخل القضاء بهدف إحداث الفتنة بين صفوف القضاة وتكدير السلم والأمن العام وغير ذلك من الاتهامات الكبيرة التى تحتاج إلى تحقيق، الأمر الذى لا يستطيع أحد أن يعترض عليه، إلا أن إهانة القضاة أثناء التحقيق وإهدار حقوقهم التى قررها القانون تستدعى بدورها العديد من علامات الاستفهام بقدر ما تثير شبهة تعمد التنكيل بهم، وهو ما لا يشكل انتهاكا لمقتضيات سير العدالة فحسب، وإنما يشكل إهانة للقضاء والقضاة فى الوقت ذاته.