إعلام اليوم انطلق انطلاقات كبيرة جداً، فأضحى له تأثير في مفاصل الحياة جميعها، وبرز تأثيره واضحاً في ما أطلق عليه اسم «الربيع العربي»، وفي جلّ الأحداث الجسام التي شهدتها بعض الدول العربية؛ بل إن الربيع العربي والإعلام لهما تأثير متبادل، فكلاهما يحتاج للآخر، ويمكن تسمية هذا العقد بعقد الإعلام، نتيجة العمل الإعلامي المتضافر من مختلف وسائط ووسائل الإعلام في توجيه الحدث؛ بل أحياناً صناعة الحدث نفسه، ثم تشكيل النتائج والتأثير فيها. أهم وسائل الإعلام في الوقت الحاضر القنوات الفضائية، التي أضحت بطلة الساحة الإعلامية من دون منافس على الإطلاق، فالقنوات الفضائية تمكنت بفعل التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات، وانتشار الأطباق اللاقطة (الستلايت) من استحواذ اهتمامات الناس في كل مكان، لدخولها المستمر من دون استئذان، واستطاعتها طرح ما تريد من قضايا ساخنة، وجعل الكثير «يتسمرون» أمام الشاشة لساعات طوال، لذا فهي أداة مهمة بيد القائمين عليها في تحديد المسار الذي تتخذه؛ باعتبارها الجهة التي تستطيع الوصول للمواطنين وأن تخاطبهم بالطريقة التي تريد، بواسطة البرامج والمواضيع التي تُقدّم، لتعكس الوجهة التي يراد منها الوصول إلى ذهن المتلقي. نتيجة للدراسات التي أثبتت تأثير القنوات الفضائية في المواطن العربي، رصدت الكثير من الحكومات العربية والشركات الإعلامية العملاقة رأسمالاً كبيراً لتأسيس قنوات مختصة ببث الأخبار باللغة العربية، بل إن الكثير من تلك القنوات لا تعتمد في تمويلها على الإعلانات التجارية، منها قناة «الجزيرة»، وقناة «العربية» وغيرهما، واهتمام العالم كله بأحداث الوطن العربي خلال الأعوام الماضية كان الحافز الرئيس لتأسيس الكثير من القنوات التي تبث باللغة العربية، منها: محطتان أميركيتان، ومحطات ألمانية، وفرنسية، وتركية، و«بي بي سي» العربية، والروسية، والصينية... إلخ. كما أسلفت فإن التأثير بين القنوات الفضائية الإخبارية والثورات العربية متبادل، فلولا حدوث اضطرابات ومظاهرات وحوادث جلل يومية لما اهتم أصحاب الأموال والاستثمارات بالتركيز على إنشاء محطات إخبارية. وبالعكس لولا تمكن تلك القنوات الفضائية من نقل الأحداث على الأرض ساعة بساعة، لما التفت الناس إلى تلك القنوات الإخبارية، ولما حرص الكثير من الساسة على الظهور في تلك القنوات صاحبة الصيت المميز، مثل قناة الجزيرة، وقناة العربية وغيرهما، بل إن القنوات الفضائية التي تخصصت في نقل أحداث الثورة العربية فتحت شهية غيرها من القنوات الفضائية، التي بدأت تغير منهجية وخطة عملها وبرامجها، لتواكب أحداث الثورة العربية، مثل قناة: الحرة، وفرنس 24، وBBC العربية وغيرها. تنبه الغرب إلى التأثير الكبير للقنوات الفضائية العربية في عقل المواطن العربي، فعمل على استغلال تلك القنوات لأدلجة عقلية المواطن العربي بما يتناسب مع مفاهيمه ومعتقداته وأفكاره بشكل عام، وموقفه من الإسلام بشكل خاص، وتمكن من اختراق تلك القنوات على مبدأ تنميط العقول، والنحت فيها رويداً رويداً، وتدجينها، وتشويه المفهوم، فعلى سبيل المثال تبنت قناة العربية لصق تهمة الإرهاب بالمسلمين، فقد كان من اللافت تكرارها لجملة «أنا مسلم، أنا ضد الإرهاب»، وكأنها ترمي في ذلك إلى تثبيت تهمة الإرهاب على المسلمين؛ لأن نفي النفي إثبات، ولم نسمع يوماً جملة تقول: أنا يهودي أو أنا بوذي، أنا ضد الإرهاب، ثم عرضها لبرنامج صناعة الموت على حلقات أسبوعية، ثم ثالثة الأثافي تكرارها اليومي عبارة «مقاتل لا قاتل»، وكأن المقصد من هذه العبارة أن المسلم قاتل، لأنها إن قصدت فيها أن المقاتل لا يقتل لا تسقيم العبارة لغوياً، ففي قواميس اللغة «قَتَلْتُهُ قَتْلًا أَزْهَقْتُ رُوحَهُ فَهُوَ قَتِيلٌ، وَقَاتَلَهُ مُقَاتَلَةً وَقِتَالًا فَهُوَ مُقَاتِلٌ بِالْكَسْرِ اسْمُ فَاعِلٍ وَالْجَمْعُ مُقَاتِلُونَ». فإذا كان المقاتل لا يقاتل، فماذا يفعل إذاً في الحروب، هل يقشر بطاطا؟ في المظاهرات المصرية، الأسبوع الماضي، كان هناك تباين واضح في المواقف والاصطفافات من حكم الإخوان ورئيس مصر مع أو ضد بين القنوات الإخبارية العربية، فقد عمدت قناة «العربية» إلى التركيز على كل مثلبة صغيرة أو كبيرة لرئيس مصر، وكان تركيز كاميراتها على مظاهرات المعارضين له فحسب، بل إنها كانت تستقبل معارضيه من العلمانيين في قناتها على مدار الساعة، في حين لوحظ أن قناة «الجزيرة» كان موقفها مؤيداً، وربما يعزى ذلك إلى أن توجهات قناة الجزيرة إخوانية صرفة، ولا أدل على ذلك من استقبالها في برامجها الحوارية أقطاب الإخوان في العالم، مثل الشيخ يوسف القرضاوي وغيره، واستقبالها لبعض شخصيات المعارضة السورية الذين ينتمون إلى جماعة الإخوان في سورية. قناة BBC العربية، على عادتها، كانت تسعى إلى خبطات إعلامية مميزة، إذ إنها استقبلت من سمتهم قياديي الطائفة الشيعية في مصر، وهذا يشير إلى أنها من القنوات التي لا تفتأ لاهثة إلى انتقاد أهل السنّة، وسياسات الدول العربية التي يغلب فيها الطابع السنّي، وحذت حذوها أيضاً قناة «الحرة»، التي اعتادت أسبوعياً استقبال شخصيات عربية ليبرالية، أما قناة «فرنس 24» فقد جنحت وتطرفت في موضوع الهجوم على الإسلام على نحو لافت للنظر، ورفعت راية الليبرالية والتحرر والتبذل، فقد عملت الأسبوع الماضي على إبراز قضية الفتاة المصرية علياء، ورفيقتها أمينة التونسية، وصويحباتهما، اللاتي تعرين بشكل كامل اعتراضاً على حكم ودستوري مصر وتونس، وكان من واجب المشرفين على قمر «نايل سات» إيقافها عن البث عبر قمرهم؛ بسبب عرضها مشاهد التعري الكامل، ولم تنذر المشاهد العربي بأن هناك مشاهد تعري فاضحة. لو نحينا جانباً هذا السياق المفاهيمي لتلك القنوات الفضائية الذي أفرز ويفرز خطاباً استحواذياً مدفوع الثمن، وانتقلنا إلى القنوات الفضائية الإخبارية الأخرى لأمكننا ملاحظة أنه من النادر أن نجد قناة فضائية عربية محايدة تجاه القضايا العربية والإسلامية، هذا يقودنا إلى حقيقة مهمة للغاية، هي أن انعكاسات وغائيات تلك القنوات لها دلالة بالغة خطرة تؤثر بشكل سلبي في ذهنية المشاهد العربي، لتجعل منه تابعاً مسطح التفكير قاصر الفهم، وشخصية مستلبة فكرياً، عبر انتهاج أسلوب الكولونيالية الفكرية عن بعد. * باحث في الشؤون الإسلامية.