من مرحبا ألف إلى مرحبا مليون قد يجبرك الشعر أحيانا أن تبدأ القول به، واقتحامه هنا ليس متكلفا، ولكنه جاء أشبه بدليل للمقالة في بدئها والختام، اقتبسته من دليل المكان، ولسبب آخر فهو قول عن بلد يزخر بالشعر، فالقول عن الرحلة إلى "رجال" حاضرة رجال ألمع ألزمني بمقطع شعري لأستاذي الشاعر علي مهدي وهذا أهم وثالث الأسباب ولم أشرف برؤيته في هذه الرحلة، وإن غاب عن العين فلم يكن غائبا عن القلب، قال عن بلدته "رجال": "رجال" شاخت ديار وهي ما فتئت *** صبية يشتهيها القلب والنظر "رجال" أغنية ما عشت تطربني *** ومن شرايين قلبي ذلك الوتر تظل قائمة والريح عاصفة *** ت روي أحاديث من غابوا لمن حضروا هذه القرية "المدينة" راوية عاكفة على رواية أخبار من غابوا لمن حضروا، فما إن تقف أمام متحفها ومبانيها القديمة حتى تسمع أحاديث القرون الخاليات، متجددة متحدية للعصور، معترضة للريح من كل النواحي، وقورة كجبل ابن خفاجة: وأرعنَ طماح الذؤابة باذخ *** يطاول أعنانَ السماء بغارب يسدّ مهبّ الريح عن كل وجهة *** ويزحم ليلا شهْبه بالمناكب وقور على ظهر الفلاة كأنه *** طوالَ الليالي مُفكر في العواقب ولا بأس أن أحدثكم عن تاريخ هذه المقالة، وعما لا أحب أن أقوله مما عرض لها من تأخير النشر، فما من كاتب يكثر من الكلام حتى يكشف لقرائه خاصة حاله، سواء كانوا من المحبين أو من الشامتين ما أحب نشره وما لم يحب، فقد جلست أمام هذا الحاسب أبحث عن المقال الذي كتبته عن رحلتي هذه إلى رجال ألمع حال عودتي، وبحثت في كل العناوين التي وضعتها في رأسي أو في جهازي للمقال، فما أفتاني بشيء حفظه الله من الهكّارة والفيروسات بحفظه. ولما يئست من البحث فيه، قلت في نفسي لعله يفاجئني في يوم ما بمسودة رائعة لمقال قديم فات زمان نشره. والحاسب يلعب على صاحبه "لعب العراجي على مطوية احبال"، أو على الأصح يلعب على غفلة مستخدمه أيما لعب، وقد مر علي زمن كنت أتوقع أن الذاكرة لا تعبث بنا، حتى جربت عبثها بي وقرأت لكبار المثقفين مآسيهم معها، وسخرت بالفلاسفة وسخروا منها. ولعل من أطرف ألعابها بصاحبها، أنها تريه أحيانا مشهدا أو حالة أمامه أو مجلسا، فيقول في نفسه أو يجهر بالقول، فيقول: "لقد سبق أن رأيت هذا من قبل، أو سبق أن مررت بهذا المجلس وهؤلاء الناس"، وخير لك ألا تجهر بمشاعرك، فالأمر كما أفتى الشيخ "برجسون" إنما هو خداع للذاكرة، فالصورة التي أمامك تحاول الذاكرة أن تحفظها، فترسلها إلى المكان الخطأ في ملف قديم، فتتوهم أنك جلست هنا من قبل أو رأيت هؤلاء وجمعك بهم مجلس أو منظر كهذا، وليس الأمر كذلك. فلا تفرح عندما ترى المشهد بذاكرتك العبقرية، فلعلها كليلة يا صاحبي، متعبة أو كسولة، لا بل ربما ضعيفة، فتخلط عليك اللحظة الحاضرة بماض سحيق لم يحدث أصلا فابتسم لسخريتها بك ولا تثق فتجهر بوحيها لك وهي أحيانا كذوب خداعة. يجدر ألا أشغلكم بأخبار جهازي ولا متاعب ذاكرتي، فقد كتبت أشتكي منها من أول ما جربت الكتابة في المجلات، قبل نحو ربع قرن، واليوم يا سادة أسليكم وأتذكر، وأمتدح وأعتز، فقد توجهت إلى رجال ألمع بدعوة من منتدى الشيخ العميرة في رجال، استقبلني أيمن الزهر شاب يلمع ذكاء ومودة في مطار أبها، ولما دخلت سيارته جاء من خلفه خمسيني "شاب" يقدح انفعالا ونشاطا وأخرج السائق واقتحم السيارة وسلّم علي "مرحبا ألف"، وأكرمني باهتمامه وتقديره ومتابعته لما أقول وأكتب، إنه الأستاذ الأديب الأثري النشط: "علي مغاوي"، لحظة يتركها في ذهنك اللامعون ذكاء ومبادرة قل أن تنساها. في الطريق من المطار إلى مدينة أبها تلقيت اتصالا من زميل وصديق قديم إنه الشيخ عوض القرني، مصرا على الغداء عنده في اليوم التالي، بعد أن شاع خبر وصولي وأرسلت الدعوات على الجوالات، فماطلت في الاستجابة واعدا بالاتصال لاحقا، لأقلل من عدد الحضور ولأخفف من التكلف، وقبيل الغداء بوقت قصير أخبرته أني قادم إليه، ومع قصر الوقت إلا أني وجدت مجلسه عامرا مزدحما بنخبة من خيرة المثقفين فقهاء وأدباء وزملاء، كالدكتور الجرعي والدكتور مطلق شائع، شبابا وشيبا، وصحبني أخي سعد "رئيس نادي أبها الرياضي"، وقضينا جلسة ممتعة حقا نستمع ونسمع ونخوض في مختلف القضايا، نتفق أو نقترب من الاختلاف، وبعض ما دار يستحق الكتابة، ولكننا درجنا على عدم كتابة خير ما نفكر به في مجالسنا، ثم ودّعناه شاكرين مقدرين. وكنت قد طلبت أن يُضرب لي موعد لزيارة أستاذي القدير عبد الخالق الحفظي، مدير التعليم في رجال ألمع، وقد درسني خمس سنوات متواليات من السنة الأولى المتوسطة إلى الثانية الثانوية، وكان من خير من عرفت علما وأدبا وأثرا، كان يدرسنا الأدب والخط، وفي بعض المرات النصوص، كان في مقتبل شبابه آنذاك، أبيض الوجه واليد واللسان، ولم يزل بخير حال، كان يقف شارحا الأدب الجاهلي في أول عام لي في المعهد، فكنت أستمع مبهورا بجمال عبارته، وجمال خطه وحسن تصوره لما يقدم لنا، وفي ذلك العام السنة الأولى المتوسطة، قرأت جواهر الأدب متأثرا بالأستاذ وحفظت كثيرا من نصوصه، وبعض النصوص حفظتها منه شفاهة إلى اليوم. كان يدرسنا في ثلة من آل الحفظي وغيرهم، وارتقوا بنا منازل من العلم والأدب لم تكن تخطر ببال، أرثي للجامعات اليوم أن ليس فيها من أمثالهم. وقد كنت قلت هذه الحقيقة المزعجة لأول عميد في الكلية في أول عام فيها قلت لقد هبطنا من المعهد هبوطا موجعا إلى الجامعة، حيث لا علم ولا فكر ولا ثقافة تتناسب مع ذلك المعهد وتلك الثلة العجيبة! تعالينا من أبها إلى مشارف تهلل، الذي قال عنه الشيخ زاهر: "يمتد طرفك من مشارف تهلل فترى الربا منداحة الأبعاد، في ربوة الشعبين في وادي حلي في رأس غمرة موطن الأصياد، حي الربوع ومن بها بلد الجمال وجنة المرتاد" أطال الله في عمر الشيخ الشاعر، وماذا في شماريخ غمرة التي لا تصلها إلا الطير وبعض جماعة الشاعر! طمعنا في دقائق نقتطعها قبل الموعد عند أستاذنا الحفظي، فعرجنا على متحف مدينة "رجال"، بعد المغرب وفي دغش العشي، اقتربنا من المتحف يمشي أمامنا رجلان لا نميزهما، وإذا أحدهما يلتفت خلفه رافعا صوته: "مرحبا مليون.. فلان.. وذكر اسمي"، قلت نعم وكيف لا يرحب بنا علي مغاوي نفسه على أبواب المتحف الذي قضى سنين لإعداده وجمع المال له وتجهيزه، وقد كان متحفا رائعا في تسجيل ما كان، ومن جميل ما وجدنا في المتحف، درعا أهداها أستاذي الشاعر اللماح علي مهدي، وقد ذكرناه بخير ولم ألقه للأسف. وأهدانا كتابا ألفه عن رجال ألمع وعن المتحف. أما عن "مرحبا ألف" التي ضاعف المضيف رقمها بعد ألف وخمسمائة عام لتصبح في رجال: "مرحبا مليون"، فهي عبارة تستعمل في "الترحيب الحميمي الوافي التأثر"، والعرب قالت ذلك منذ القدم، وقد قرأتها في "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني، نقل: طاف الخيال فمرحبا *** ألفا برؤية زينبا أما مرحبا مليون فجديدة، والمليون غريب على العرب إلى عهد عمر بن الخطاب، وقد كتب عن فلسفة الرقم والرياضة والذهن مالك بن نبي كلاما طريفا فالتمسه في كتبه، عندما علق على قدوم أبي هريرة على عمر بن الخطاب بمال من البحرين، ولم يكونوا يعرفون المليون إلا ألف ألف، قال عمر: "تقول ألف" قال: "لا يا أمير المؤمنين بل ألف ألف"، يزعم مالك رحمه الله أن الرقم سبّب ثورة رقمية في عقل عمر، ومالك شيخي رحمه الله "لأني أكملت كتبه مبكرا وأعدت بعضها لاحقا" لا يخلو من عبقرية وشيء من هوس العباقرة، الذي يسميه الأستاذ محمد العبيكان "وشّة الأذكياء" (وكان يتحدث أي محمد عن معاناته مع المؤلفين ويشرحهم ثم يقول أرجو أنك لست ممن أصيب بها!!"، وهو عفا الله عنه يحيرني بين أكون ذكيا بوشّة، أو غبيا بلا وشّة، أمران أحلاهما مر، وما زلت أبحث عن تخريج من فقيه لهذه النازلة! بعد تأخر معتاد عن الميعاد وصلت لبيت أستاذي متمثلا: "وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يضنان كل الظن ألا تلاقيا"، ووجدت عنده أخاه الذي تولى إدارة التعليم بعده، وأولاده وبعض أنسابه، وقدم لنا العسل الأصيل، وتذاكرنا غابر الأيام وجميلها وبعض الزملاء والأساتذة، وللأستاذ أخ أصغر منه هو الدكتور يحي، زاملني منذ السنة الأولى المتوسطة إلى أن حللنا في بلاد "العم توم" [إحياء لذكرى كوخ العم توم]، ويحي من أكرم وألطف الناس، وخيرهم رفقة ووفاء، وقد عرفته حقا في الغربة، فكان من الرجال الذين تبتعد عنهم لأنك لا تستطيع أن تجاريهم كرما وخدمة. وقد كانت معرفتي له شبه مقصورة على صراع ضروس على الدرجات العالية، والترتيب، وكنت وإياه كفرسي رهان في التفوق، وكان ترتيب الأول غالبا له، ونادرا ما اقتحم علينا مقتحم. وفي المحاضرة قدمني الدكتور أبو ملحة وصاحب المنتدى الشيخ العميرة، كل منهم بكلمة قصيرة، وقد قدمني الشيخ مادحا ثم قال "وهو رجل له طرحٌ..."، ثم أرتج عليه أو فضّل عدم الشرح، ولم يكمل العبارة، فضحكت واستغرب بعض الموجودين، ولكنه لم يحب أن يعبّر بما يؤيد آرائي ولا بما يثير نقدا أو تأييدا للضيف الذي دعاه، ولا أن يمدح الطرح فيثير الخصوم، وقد أحسن إذ صمت فكان صمته بلاغة، أو خير عتة سمعتها من مقدِّم! كانت تنبئ عن حرج في نفسه من أن يمتدحني أمام معترضين أو يلومني أمام محبين، أو بين حرج أن يفهم منه التأييد لما يخالف فيه أو النقد لما يوافق فيه فكان الصمت أبلغ من العبارة. التفت في الصفوف، فوجدت خمسة من أساتذتي في المرحلة الثانوية، وبعض زملاء الدراسة، وبعضهم لم أدركهم من المنصة وعرفتهم بعد وقت، منهم أستاذي فائز الأسمري، وعلي الحفظي والهنيدي، وكنت بحضورهم أسعد محاضر يتحدث في حضرة أساتذته، ويتواضعون بالحضور. شكرت حضورهم، وشكرت آنذاك والآن الشيخ الذي صنع جوا ثقافيا وحيوية في المنطقة، فهو قدوة بارع ومضح صادق، جاء من الرياض لحضور المحاضرة وعاد بعد نهايتها وكان نقاش طريق العودة للسراة مثيرا مفيدا. عبر جبل السودة، كان الدكتور أبو ملحة رفيق الطريق، وهو أديب لطيف عليه سمة تخصصه "الرواية السعودية"، أستاذ في الجامعة، وقد أعجبني جده واهتمامه بالمعرفة، وكانت المسير إلى تهامة قصيرا بسبب النقاش الجاد المتنوع، واستعادة الغريب للأخبار. عند نهاية المحاضرة عقّب عليها معقبون أفاضل ما بين مؤيد وناقد مادح بالشعر أو بالنثر، ولم أجد وقتا للرد على كثير مما اقترحوا أو نقدوا، ولكن كان من أطرف ما سمعت، تعقيب أحدهم أنه لم يجد في كلامي جديدا إلا معلومة ذكرتها عن "العملة البريطانية"، فقد قلت إن أول عملة سكّها البريطانيون سكوا عليها شهادة التوحيد: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، نقلا عن العملات الإسلامية وكانوا لجهلهم يتوقعونها مجرد نقش للزينة، وقد سخر أحد المؤرخين من العملة البريطانية قائلا لا أعرف مشاعر قساوسة "كنتر بري" وهم يقرأون هذا على عملتهم! وكنت قد قلت هذا زيادة في القول عارضة مما لا علاقة له بالمحاضرة، واستطرادا من القول غير مقصود، أما ما تعبت فيه تحضيرا وعرضا فقد مر بجانب القائمة ولم تسجل أي أهداف كما رأى المعترض الفاضل. ثم عند الخروج، قدم لي أديبان شابان كتابين من إنتاجهما هما: رواية "ضعيف الله" لعيسى مشعوف الألمعي، وقدم لي عبد الله المطمي نصّه: "التحليق حول الوهج"، فشكرتهما واستمعت برفقة النصين في رحلة العودة. وفي مطار أبها وأنا قافل من رحلتي، استوقفني شاب وسلم علي، وقال أنا ابن يحي معافى!! يا له من خبر، رحم الله والدك فقد كان عالما جليلا، أكن له كبير التقدير وجيلي، وذكرت له إنه سبق أن كتبت عن والده، فقال قرأت ما كتبت وشكر، وفرحت أن للشيخ ذرية صالحة تبقي ذكر عالم جليل. وللشيخ أحاديث من جميل ما يكتب ويقرأ أتركه لزمن قادم إن جاد وقت وخاطر. وبعد أن شككت أني قد كتبت المقال من قبل ربما أكثر مرة، ولم أجده قلت علي أن أعد هذا من خدع الذاكرة، فإني أحيانا أكتب المقال في ذهني، وأكاد أصفف عباراته، وأفكاره قبل أن أسطر منه شيئا، وكلما كانت كتابته راسخة في البال كان خروجه للناس أنفع وأهم، وكان أوفى وأوضح، وإني أحيانا استمتع للمقال الجاهز يصبه الذهن على يدي صبا ولو بقي منه مقطع وغلبني النوم استكملته في الصباح أشبه بقطعة واحدة متماسكة وكأن لم يقطعها وقت. أما محاضرة "مسؤولية المثقف"، فقد حضّرت لها واهتممت بها وكتبتها فطالت علي حتى لا تصلح مقالا، وقد تتيسر الأحوال وتكون كتابا ذات يوم ويتسرب إلى "رجال". ودعت الرجال في "رجال" الذين وصفهم محمد زايد بقوله: "فهم الكلام إذا الزمان حكى *** وهم المداد الصمت والكتب"