قبيل صلاة العشاء من مساء يوم الأحد ليلة الإثنين 29 رمضان من عام 1432ه 29 أغسطس من عام 2011م، أسلم أستاذي وصديقي ورفيقي في مهنة المتاعب – محمد صلاح الدين الدندراوي - الروح، بعد معاناة من آثار نزيف في المخ، استمر تسعة أشهر، وفر له أصدقاؤه من العناية والرعاية الطبية ما لا مزيد عليه، فقضى قرابة ثمانية أشهر في مشافي أمريكا، عاد منها مساء الثلاثاء 23 رمضان 1432ه - 23 لأغسطس عام 2011م في حال لم يكن بأحسن مما ذهب به... وكنت في المدينةالمنورة أقضي شطرا من العشر الأواخر من رمضان، وليلة علمت بعودته توجهت من فوري إلى جدة فزرته يوم السبت في المركز الطبي الدولي حيث كان في رعاية الله ثم في رعاية صديقه وابن صديقه د. وليد أحمد فتيحي، فهش وبش كالعهد به مع كل صديق يزوره في صحته وفي مرضه، وذكرت له أن القراء بحاجة لعودة «الفلك يدور» يحدث الناس عن العبر من تساقط الطغاة في عالمنا، وقد كان شديد النكير عليهم، وعلى فعالهم بحسب ما كانت تسمح به ظروف التناول الإعلامي، فتبسم وهز رأسه، وبيننا وبينه حجاب مع عجزه عن النطق والكلام، لكن ذلك لم يمنع من خروج كلمات – لم أتبينها – وكأنه يعبر عن سروره لما آل ويؤول إليه الطغاة، مما كان يبشرهم به على الدوام في كتاباته الصحفية. ثم بعد عيادتي هذه عدت إلى المدينةالمنورة مؤملا أن أراه بعد العيد، فودعته، ولو كنت أعلم الغيب لبقيت إلى جواره، حتى ساعاته الأخيرة، وعندما علمت بوفاته بعد ساعات من لقائه الأخير، عدت مع من عاد من محبيه إلى جدة، لنشيعه إلى مثواه، بعد أن صلت عليه جموع المسلمين الصائمين القائمين الطائفين المعتمرين الركع السجود، ظهر يوم 29 رمضان، ووسدناه في مثواه بمقابر المعلاة في أحد القبور – الحوزة 47، تقبله الله في الصالحين، وتجاوز عنه برحمته وعفوه وغفرانه، عدنا إلى جدة نتلقى مع ذويه العزاء فيه، ونعزي فيه من يعزينا، فمصابنا - من ذويه وتلامذته وأصدقائه ومحبيه - واحد طوال أيام العزاء وما بعدها، رحمه الله رحمة الأبرار، وعدت من العزاء: ولي كبد مشطورة في يد الأسى فتحت الثرى شطر وفوق الثرى شطر ولما كان «كل معدود منقض، وكل متوقع آت، وكل آت قريب» قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم عدت بالذاكرة إلى أول يوم عرفت فيه فقيدنا الغالي: محمد صلاح الدين – أنبش في رمال الذاكرة المتصحرة، أتذكر أول يوم لقيته فيه، فوجدته في مساء يوم من أيام النشاط الثقافي لطلاب كلية الشريعة بمكة المكرمة، وكان ذلك عام 1382ه، وكانت ليلة النشاط تلك يحييها زميلي في الدراسة وفي الفصل وفي المذاكرات الشيخ نعمان محمد طاشكندي – أبو ياسر: رحمه الله، وكان لي حظ كلمات قليلة كتبها لي أستاذنا في الأدب والنقد الأستاذ محمود فياض، وبعد أن ألقيتها، فتح باب التعليق، فتقدم إلى المنصة شاب أنيق، رشيق، فأثنى على المحاضر والمحاضرة، وأبدى ملاحظاته عليها، ولم يكن ذلك الشاب سوى الأستاذ محمد صلاح الدين، فبقيت صورته في ذهني، أسأل عنه، فإذا هو يومها مدير لتحرير جريدة الندوة في عهد ملكيتها للرائدين الصحافيين المكيين صالح ومحمد جمال رحمهما الله. ثم كان لقاؤنا التالي – وقد كتبت عنه تفصيلا قبل تسعة أشهر عندما داهم المرض الفقيد الغالي، مما لا داعي لتكراره، لكني أضيف إلى ما سبق وذكرته، من أني وقد جمعتنا جريدة المدينةالمنورة عامي 1382-1383ه، فقيدنا في موقع القيادة بها مع ناشرييها السيد هشام علي حافظ رحمه الله والسيد محمد علي حافظ أطال الله عمره في صحة وعافية وإيمان، انجذبت إلى أستاذنا، وكل من عمل معه كان منجذبا إليه، فصفاء سريرته، هي المغنطيس الجاذب، وليس أقوى من ذلك قوة جذب، ولكن كان وضعي بين زملائي في بداياتنا الصحفية الأولى مختلفا في جانب هام، وهو أنني أشعر وقتها بأني في «غربة» من حيث أن زملائي من أهل جدة حيث تصدر الجريدة، بين أهلهم وذويهم، وأنا «غريب» عن جدة، غادرت والدي وإخواني، وحتى زملائي في الدراسة ممن فضلوا جميعا الالتحاق بجامعة الملك سعود بالرياض، والتحقت بكلية الشريعة بمكة، وبقيت أعيش وحيدا، أدرس بالكلية نهارا، وأعود – بالتاكسي – يوميا إلى جدة للعمل بالجريدة مصححا في البداية، ثم محرر صفحة واحدة، ثم عضوا في جهاز التحرير... وسرعان ما مزق أستاذنا ما كنت أشعر به من – غربة – برعايته الشخصية لي، وأخذه بيدي، وبقلمي الغض في الصحافة، فتعلمت منه أصول المهنة: بناء الخبر، وتحريره، وبناء التحقيق وكتابته، وفن الأسئلة وطرحها على المسؤولين والسياسيين، أعرض كل ما أحرره، فيعدل ويوجه في رفق، ويصحح في لين، وكل ما يطبع ذلك من حسن خلق، كثير العمل، قليل الكلام، عميق الصمت، والرفق واللين وقلة الكلام وإدامة الصمت، وكثرة العمل، كاظما لغضبه على الدوام – وقلما يغضب – وكل هذا من صفات المؤمنين، فثقافته تتنسم من عبير كلام النبوة، وهو ما نراه ونتنسمه في توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام. لم أر مثله مغضبا وهو ناظر ولم أر مثله صامتا وهو يتكلم ومع امتداد التلمذة ثم الصحبة ثم الزمالة: كان لي خلالها وطوالها سندا وعضدا، كان لي مشجعا ومحفزا لتحمل متاعب المهنة، حببني تعامله في المهنة، وجعلني أعشقها من أول لحظة، وأتتبع أسلوبه في العمل والتصبر على مشاقها؟، وتكريس الجهد كاملا لها، ومواصلة الليل بالنهار في مجالات أنشطتها، أخطئ في العمل فيعالج الخطأ بنفسه، ولا يشعرني أني أخطأت، لا مكان في قاموس حياته وتعامله «للملامة». ومع تقدم العلاقة مع تقدم سنوات عملي معه، وجدت في عمله عمل الكرام، ولا عجب «فأفعال من تلد الكرام كريمة» وإنك لتتذوق في معاملاته معك ومع الناس كافة حلاوة، وتجد منه حبا للناس، وحبا لخدمتهم، بنفسه، وبرجال مكتبه، الذين تراهم يقضون الكثير من وقتهم في تلبية طلبات أصدقائه من الكتب النادرة يشتريها لهم، ويستحضرها من مكتبات مصر أو بيروت والشام، ومن توفير مدد من المقالات الطريفة يصورها لهم، وترى عماله وسائقيه مشغولين بهذا سحابة نهارهم، وشطرا من ليلهم، يفعل هذا من أصدقائه في المملكة وخارجها، ومع طلاب العلم، ومع زواره من خارج المملكة. كان رحمه الله على رقة شمائله، ونعومة أعطافه، وسلاسة تعاملاته، ورقيه في التسامح، والتحمل، يملك عزما ماضيا، ونفسا متطلعة إلى الخير، والعطاء. له عزم أشد من الصفا ووراءه خلق أرق من الزلال وأعذب ولقد تطورت العلاقة التي امتدت أكثر من نصف قرن، وأحسب أني كنت فيها من الفائزين بقربي منه، وطول صحبتي له، ولا أذكر أن شائبة شابت تلك العلاقة ولا يمكن أن تخلو علاقات حتى أشد الأقارب قربا، من شوائب قلت أو كثرت مع امتداد سنواتها، لكن إذا أكرمك الله كما أكرمني بأستاذية، وزمالة وصداقة صديق مثل الأستاذ محمد صلاح الدين، فليس غريبا ألا تجر معها سنوات الصحبة الطويلة شيئا من الكدر أو ما يعتري طول الصحبة من وهن وملال. وأحسب أنني نجحت في الحذو حذوه في حب العمل، والحرص على إنفاذ ما يوكل لي، وفي بذل الوسع كاملا فيه، وأحسب أني فشلت في تقليده في أسلوب كتاباته المتميزة، النارية، اللينة حسب مقتضيات الموضوع والظرف، كما فشلت في الرقي إلى مرتقاه في رعاية الصحاب وخدمتهم، وهو في هذا، وفي منهج كتاباته نسيج وحده، آمر بالمعروف ومنكر كل منكر بشروطه الشرعية «العلم قبله، والرفق معه، والصبر بعده» وفي مع الأحياء والأموات، واقف ومشارك في المواساة، ومشيد بما فيهم من مناقب. كان أقرب ما يكون حين يكتب إلى نهج الإمام أبو حامد الغزالي، الذي يقول عن نفسه «لا أقبل شيئا على أنه حق ما لم أعرف يقينا أنه كذلك، وأنني أعمل في كل الأحوال من الإحصاءات الكاملة، والمراجعات الشاملة، ما يجعلني على ثقة من أنني لم أغفل شيئا، وأن أسير في أفكاري بنظام بادئا بأبسط الأمور وأسهلها معرفة، وأتدرج قليلا قليلا حتى أصل إلى معرفة أكثرها تركيبا» وإن آلاف المقالات التي كتبها تعكس هذا النهج الفكري الذي ترك لأستاذنا محمد صلاح الدين هذه السمعة المدوية، التي تفجرت في الصحافة وفي مواقع الإنترنت حالما شاع نبأ وفاته رحمه الله، فوقف الفضلاء من الأدباء والكتاب يشهدون له بما يعرفون، وكم هو جميل ونبيل ما عرفوه عنه. لماذا أعتبر أستاذي – صديقا ؟– ولماذا لا أعتبره، وقد «خاواني واصطفاني أخا وصديقا وزميلا، وفوق تفضله علي بذلك، كانت أياديه علي سحة بالرعاية الأخوية والعطف أكثر من نصف قرن، لا يمضي يوم إلا وبيننا لقاء أو مهاتفة، واعتبرتني أسرته وزملاؤه في مكتبه واحدا من أفرادها، جمعتني وأسرتي ومعه وأسرته الأسفار شرقا وغربا، وجمعتني وإياه المناسبات التي لا نغيب عنها، ولا نحضرها إلا مجتمعين، حتى أنه لا يقال محمد صلاح الدين إلا ويقترن اسمي باسمه عند معارفنا وأصدقائنا، وكنت في معارك الحياة أحتمي بجداره القوي، وأستظل في شمس الحياة الحارقة بظله الوارف الظليل، فإذا غبت عن مجلس سألوه عني، وإذا غاب سألوني عنه، كيف لا أعتبره صديقا، وهو ممن تفرد بإيفاء الصداقة حقها: صديقي من يقاسمني همومي ويرمي بالعداوة من رماني ويحفظني إذا غبت عنه وأرجوه لنائبة الزمان كيف لا أعتبره أخا – لم تلده أمي – و: أخاك الذي إذا زلت النعل لم يقل تعست ولكن: لعل النعل عاليا كيف لا أدخره بعد الله للنائبات، وللمواقف الصعبة، وهو من أمة: إذا استنجدوا لم يسألوا أخاهم لأي حال أم بأي مكان كيف لا أحبه، ويحبه أهلي – وكانوا أول من عزاني في موته – وقد كنت في فيء حلمه نصف قرن: من لي بإنسان إذا أغضبته وجهلت، كان الحلم رد جوابه وتراه يصغي للحديث بقلبه ويسمعه ولعله أدرى به كيف لا، أحزن وآسى وأتجلد على فقد أستاذي، ولم يعد بجانبي من يقدر شكاتي بعده إلا الله، وينهض لها، ويعرض لها ببلاغة وفصاحة عندما يعجزني العي وقلة الحيلة: لعمرك ما أصبحت جلدا على التي منيت بها لكني أتجلد أفي كل يوم يفقد الدهر ماجدا يعز علينا فقده حين يفقد مرت جنازة ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه فأثنوا على صاحبها خيرا، فقال صلى الله عليه وسلم « وجبت» ومرت أخرى فأثنوا عليها شرا، فقال صلى الله عليه وسلم «وجبت» فقال عليه الصلاة والسلام «إن بعضكم على بعض شهداء» صحح الشيخ الألباني إسناد هذا الحديث. وها نحن نرى جنازة أستاذي محمد صلاح الدين تمر خلال وبعد دفنها على صفوة القوم من كتاب ومفكرين ومسؤولين، في الصحف ومواقع الإنترنت وأكثرهم على معرفة بالفقيد ومنهم من لا يعرف الفقيد معرفة شخصية: وكلهم يثني على خصاله، ويشهدون له بكل خير، عرفها من عرف وسمع عنها من سمع، ولم يكتموا جزاهم الله خيرا شهاداتهم، هؤلاء كما قال عنهم صلى الله عليه ومسلم « إنكم شهداء الله في الأرض». كما ونقل عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال «أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة»، قال: فقلنا: ثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم: وثلاثة، فقلنا: اثنان، فقال صلى الله عليه واسلم: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد – وهو حديث حسن الإسناد. أجدد العزاء إلى أسرة الفقيد: زوجته أم عمرو: الزوجة البارة، التي وقفت مع الزوج والأب وقفة أخت الرجال، وفاء وشهامة، وصبرا، كانت معه طوال تسعة أشهر ليل نهار في العنايات المركزة، وفي غرف المشافي بجدة وبوسطون منذ أن داهمته أزمته الصحية وحتى وفاته. وإلى أبنائه: أمل وعمرو وسارة وهلا، وقد تلقوا وتلقى معهم الخلص من أصدقائه وأرحامه العزاء، أقول: إن أباكم: محمد صلاح الدين الدندراوي: أب لو كان للناس كلهم أب مثله أغناهم بالمناقب.