دومًا عقلاء الأوطان في كل أرجاء الدنيا يحرصون على المحافظة على السلم الأهلي في مجتمعاتهم، ويحاربون كل عامل على تخريبه، وهذا هو الموقف الذي يقضي على التصنيف تمامًا، ويصون الوفاق بين أفراد الأمة وجماعاتها. كان صغار التلاميذ والأتباع لأشياخ يصنفون الناس كما يشاؤون، ولم ينجُ من تصنيفاتهم أحد إلاَّ أشياخهم، ومَن يجاملونهم، نالوا بألسنتهم وأقلامهم على كل وسيلة اتصال ممكنة لهم، الوزراء والوجهاء والكتّاب (مفكرين وأدباء ومثقفين) كل أولئك يطلقون عليهم الألقاب، فهم علمانيون، وليبراليون، وتغريبيون، وألقاب آخر لا يحصيها الحصر، ويضمنون الألقاب تعريفات لها مسيئة، وإن لم تكن تدل عليها مثل هذه المصطلحات، وأكثر هؤلاء الذين يصنفون الناس ومَن يحرضونهم لا علم لهم أصلاً بما تدل عليه المصطلحات هذه، ولذلك يضمن التصنيف بتعريض بمن صنف بالدعاء على الملحدين والمنافقين، ومَن أرادوا بالمجتمع سوءًا، ويتردد التصنيف ولا نسمع إلاَّ من القلة اعتراضًا عيه، فالصمت عن استنكاره كان ديدن غالب المنتسبين إلى العلم الشرعي، ما لم يصنفوا، بل ولا يهتز لهم طرف، والأقزام يشبعون الكبار أصحاب القامات السامقة من رجال هذا الوطن ذمًا، بهذا الأسلوب الرخيص، والذين صبروا على أذى هؤلاء الأقزام محتسبين، وقد كان من حقهم أن يقودوا هؤلاء إلى ساحات المحاكم، فتصدر ضدهم الأحكام الرادعة، ولكنهم القوم يعلمون أهمية حرية التعبير أن تمسها القيود بسبب عبث الأقزام السفهاء، فتركوهم يخوضون في أعراضهم، لعلمهم أن الناس يدركون سوء ما يقول هؤلاء، وعدم صدقهم، فقد جرّبوهم آمادًا طويلة، فأدركوا ذلك منهم، وغايتهم النبيلة أن يبقى للمواطينن فسحة أمل أن يعبروا عن مكنونات صدروهم دون وجل، خاصة في ما هم أعظم وأنبل في العلم والفكر والأدب والفنون، ممّا تحيا به الأمة، ويزدهر الوطن عالمين أنه لن يمكث في الأرض إلاَّ ما ينفع الناس، وأمّا الزبد فيذهب جفاء تتقاذفه الأمواج، ومثلى منذ زمن طويل بلغ النصحية عبر ما يكتب إلى الكافة أن انتبهوا إلى هذا التصنيف، فإنه يؤدي إلى فرقة تورث في النهاية فتنة، وخذوا على أيدي الأقزام قبل أن يعبثوا برؤوس الخلق، فالأخذ على يد العابث ينجيه من عقوبة في الدنيا قد تكون شديدة، والأشد منها عقوبة أخروية يقينية منتظرة، فعدل الله يقتضي عقوبة الظالم، حتى لا يفلت أبدًا ممّا آذى به الخلق، ثم إن الأخذ على يده ينجي الوطن وأهله من عبثه، وكثير منا قد لا يدرك ما للسلم الأهلي من حميد الأثر على المجتمع، فهو المؤدّي إلى عمل جاد للنهوض به والتقدم، وغيابه يعني حضور الفتن، وهي مدمرة للاستقرار، معوقة للبناء، ودومًا عقلاء الأوطان في كل أرجاء الدنيا يحرصون على المحافظة على السلم الأهلي في مجتمعاتهم، ويحاربون كل عامل على تخريبه، وهذا هو الموقف الذي يقضي على التصنيف تمامًا، ويصون الوفاق بين أفراد الأمة وجماعاتها، ويستبقي سلمها الأهلي دومًا باقيًا، عبر القضاء على التصنيف تتعزر فعلاً الوحدة الوطنية، التي تراعي عبر الحقوق، ويقوم الناس بواجباتهم، ولكن الملاحظ اليوم أن البعض لا يهتم لاستنكار هذا التصنيف الذي يجري على ألسنة الأقزام، ولا لنبزهم الناس بالألقاب أو الاستهزاء بهم، والسخرية منهم، إلاَّ إن ناله من هذا سوء، ووصل إليه، فإذا وجه إليه شيء من هذا رفع صوته بالنهي عنه، واعتبره كبيرة وجريمة، ومن قبل كان يسمعه ويقرأه يوجه إلى رموز مهمة في المجتمع، كل ذنبها أنها لا توافق على ما يدعو إليه هؤلاء الأقزام، ولعله إن اختلف مع الآخرين صنفهم بذات الألقاب ونبزهم جهرًا، أو شارك في إصدار بيانات تحتوي التصنيف، فلما تغيرت له بعض المواقف وابتعدت عن ما يدعو إليه هؤلاء ولا يرون صوابًا سواه، رغم أنه محض الأخطاء لم يرحموه، فلم يصمتوا عنه كما صمت عنهم، ولم يجاملوه كما جاملهم، فأوسعوه ذمًا وقدحًا، فأستأسد في الرد عليهم، وإذا ما كان في عرفه مباحًا إذا وجه لغيره حرام شديد الحرمة إن وجه إليه، وأخذ يصوره للناس في أبشع صورة، وكأنه لم يعلم أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا أن نحب للناس ما نحبه لأنفسنا، وأن نكره لهم ما نكرهه لنا، وأن إيماننا لا يكتمل إلاَّ بهذا، فالغضب لله إذا انتهكت محارمه هو خلق العالم الذي وصفه الله بأنه الذي يخشاه، أمّا الغضب للنفس فقط، فهو ديدن الأنانيين الذي لا تهمهم إلاّ أنفسهم، والذي لا يرعون حقًا لله ولا حقًا للعباد، فهل نعي هذا كله، فتتسم مواقفنا بثبات على الحق، ونبذ للباطل من أي جهة صدر، ومن أي شخص دعا إليه، فذاك ما أرجو. والله ولي التوفيق.