حينما تطالع الصحف هذه الأيام يلفت نظرك كثرة المقالات التي تناقش الموقف من هذا المعرض، الذي يكون كل عام في مثل هذه الأيام، وكأنه قد أصبح موسمًا لإعادة إنتاج المواقف المتضادة، التي لعلنا من المغرمين بها وإن لم نشعر، أحدها يرى أن الكتاب هو الوسيلة الأهم للحصول على العلم والمعرفة، بل هو خزانة المعارف الإنسانية عبر العصور، وهو بهذا المعنى لا يمكن أن يلحق بأي مجتمع ضررًا من أي نوع، لأنه إن خالط معلوماته خطأ أو انحراف اُستُطِيعَ بيسر تصحيح ذلك، عبر مواجهة وئيدة للفكر بمفكر أنضج منه، ولكن الحكم عليه ليس متاحاً لكل الناس. فهو يتنوع بتنوع المعارف والعلوم، ويحتاج نقده إلى التخصص فيما يعرضه من قضايا علمية ومعرفية، وأما أن يدعي أحد قدرة فائقة على نقد كل هذه القضايا في آن واحد ومن شخص واحد، فهذا أمر غير واقعي، ولا يمكن للعقل أن يقبله، فمنذ أزمان بعيدة استقر الأمر ألا يتحدث أحد في أي مجال إلا وقد أحاط بقضاياه علمًا وخبرة، وبهذا تلاشت في عالمنا المعاصر الرقابة على المطبوعات عمومًا وعلى الكتب خصوصًا، وتُرِكَ لأهل الاختصاص نقد ما يصدر منها، وتصحيح ما وقع فيه مؤلفوها من أخطاء عبر معايير متفق عليها بينهم، ومنع الكتاب لم يعد ممكنًا في هذا العصر، وضرره أكبر مما قد يلحق بالناس بسبب السماح لكتاب فيه أخطاء، فالمنع إنما يوكل لأشخاص، هم في الغالب يدركون أشياء وتغيب عنهم أشياء، يعلمون شيئاً ويجهلون أشياء، هذا إذا أحسنا الظن بأساليب اختيارهم، ولهذا فكم منع من كتاب، وأحس الرقيب خطره، ثم اكتشف فيما بعد ألا خطر له البتة على أي شيء مما كان يبرر به الرقيب منعه، بل واكتشف أن تأثيره محدود للغاية، وحرم الناس من الاطلاع على ما فيه من صواب أو جماليات ولو كانت يسيرة، وها نحن اليوم نطالع في مكتباتنا العامة والخاصة كتبًا كنا نصنفها من قبل بأنها كتب خطرها يفوق خطر المخدرات، وقلنا يجب ألا تعبر الحدود إلينا، وقد يعمد بعض الرقباء لقلة علمهم، وندرة اطلاعهم على العلم والمعارف، إلى منع كثير من الكتب، التي هي ضرورية لمسيرة النهضة العلمية والفكرية والأدبية في الوطن، مما حرم المواطن من الرقي بفكره، ومن تنوع معارفه، وبعد أن تعددت وسائط نقل المعلومات، وتدفقت عبرها سيولاً لا تتوقف عبر أجزاء الزمان على مدى الأربع والعشرين ساعة، وأصبحنا نطالع كتبًا صدرت في أقاصي الدنيا في نفس يوم صدورها، عبر هذه الوسائط، وإذا اعترفنا ملجئين عقلاً لهذا الاعتراف أن قارئ الكتاب في مجتمعنا له ندرة حادة، فإننا حينما نضخم قضية مراقبة الكتاب لمنعه، خشية على دين أو خلق أو عادات أو تقاليد فإنما نفتعل موقفاً من شيء غائب عن المجتمع، فليس المؤثر فيه الكتاب حتمًا، إنما المؤثر منابر أخرى يعتليها من أُعِدُوا إعلاميًا ليكونوا نجوماً للتأثير في الناس، وهم أعظم أثرًا وخطرهم أكبر، ولكنا لا نتخذ منهم موقفاً، إما لأننا ندعي إيماناً بحرية الرأي والتعبير، وإما لأننا نظن أن تأثيرهم محمود أبداً، وهذه هي الشبكة العنكبوتية تحمل على متنها من الكتب في شتى الموضوعات والقضايا ما يعجز الإنسان عن عده وإحصائه، تتاح للخلق عبر عالم مزدحم بالمعارف والعلوم من كل لون وصنف، وتبحث عن الذين يقرأون ما تحمله هذه الشبكة من بلادنا فلا نجد سوى القليل النادر، بينما نجد من يتابعون نجماً في الوعظ أو الفتيا مئات الآلاف، يسمعون ولا يقرأون، ومن يتابعون من صنعت له شهرة زائفة لطرحه أفكارًا تخدم غايات خاصة، ويقدمها عبر برامج يكتشف سريعاً أنها من معوقات نهوض الوطن وأهله، هؤلاء لا عد لهم ولا حصر ولا موقف لنا منهم، ويصطرع موقفان دومًا من معرض الكتاب، لا يتزحزح أحدهما عن موقفه، وتثور الاختلافات، ويسعى مدعون للاحتساب إليه يحاولون التأثير على الناس ألا يقتنوا كتاباً لفلان أو فلان، وألا يطلعوا على أفكار لهذا التيار أو ذاك، وتنتهي فترة المعرض، وقد أعلن كل عن موقفه، والعامة معزولون عن ذلك، هكذا تسير الأمور، موقف يعارض موقف، ورأي يخالف الآراء، ومتبنون للإصلاح هم أبعد الناس عنه، ويبقى كل شيء على حاله لنستقبل عاماً جديداً يأتينا بموسم جديد لمعرض الكتاب، يحمل إلينا من نتاج الفكر والإبداع ما يعجز الكثيرون منا الاطلاع عليه، وإن اختلفوا عليه، وهم يجهلون كل شيء عنه ونتنفس الصعداء عند نهاية كل معرض، لنعد العدة لذات المواقف في معرض مقبل، فهلا أدركنا أن هذا لون عبث لا جدوى منه، هو ما أرجو والله ولي التوفيق.